ممرات آمنة تتحول لـ«مصيدة للموت» في مناطق مسلحة

فكرة نبيلة تواجه تحديات تضارب المصالح السياسية

ممرات آمنة تتحول لـ«مصيدة للموت» في مناطق مسلحة

[caption id="attachment_55267421" align="aligncenter" width="1301"]طفلة سورية جريحة تنتظر العلاج في مستشفى بمنطقة دوما شرق العاصمة دمشق بعد قصف غارات جوية شنتها قوات النظام السوري (غيتي). طفلة سورية جريحة تنتظر العلاج في مستشفى بمنطقة دوما شرق العاصمة دمشق بعد قصف غارات جوية شنتها قوات النظام السوري (غيتي).[/caption]


القاهرة: عصام فضل



* اللواء زكريا حسين: يمكن القول إن الممرات الآمنة في مناطق الصراع العسكري في منطقة الشرق الأوسط لا هي آمنة ولا هي فاعلة.
* د. وليد قزيحة: «الممرات الآمنة لم تعد تلك الفكرة النبيلة التي تم التوصل إليها لأهداف إنسانية سامية، بل تحولت إلى وسيلة سياسية للمناورة وتحقيق المكاسب السياسية والعسكرية».




كلما زادت وطأة الحرب وقسوتها، برز إلى السطح مصطلح «الممرات الآمنة» الذي نشأ بالأساس كفكرة إنسانية نبيلة تهدف إلى حماية المدنيين في مناطق النزاعات المسلحة، لكنها تحولت في بعض مناطق الشرق الأوسط إلى «مصيدة للموت» بسبب تضارب المصالح السياسية والعسكرية لأطراف الصراع المحلية والإقليمية والدولية، لتصبح وسيلة لتحقيق مكاسب على حساب سلامة المدنيين.
وحذرت دراسة حديثة من أن ثمة تحديات تواجه عمل الممرات الآمنة جعلتها، في بعض الأحيان «غير آمنة»، مستخدمة مصطلح «تضاريس الموت» في وصف الوضع في مناطق المواجهات العسكرية في عدد من الدول العربية، وترتبط التحديات بعدم الاتفاق بين الأطراف المتصارعة على إقامة تلك الممرات، والاستثناءات المطبقة على بعض الفصائل المسلحة في اتفاقيات الهدنة، وغياب الحماية العسكرية من قبل قوات الأمم المتحدة، واستهداف الممرات بدعوى تورط مدنيين في دعم بعض الفصائل المسلحة.



التاريخ السياسي والعسكري




عقب الحرب العالمية الثانية برز مصطلح «الممرات الآمنة» ضمن المصطلحات السياسية حديثة النشأة، وترجم المجتمع الدولي الدروس المستفادة من الحربين العالميتين الأولى والثانية إلى اتفاقات دولية تهدف إلى حماية المدنيين في مناطق الحروب والنزاعات العسكرية، أبرزها المادة 23 من الاتفاقية الرابعة ضمن اتفاقيات جنيف التي وقعت عام 1949 بهدف ضمان سلامة السكان المدنيين وتوفير ممرات ومعابر آمنة تمكنهم من الانتقال بعيدا خارج مناطق القتال، وكذلك ضمان حرية مرور المساعدات الإنسانية التي تتضمن الأدوية والمواد الغذائية وغيرها مما يحتاجه المدنيون داخل مناطق النزاع العسكري.
لكن التاريخ العسكري لفكرة الممرات الآمنة يعود إلى ما قبل الحرب العالمية بكثير، إذ استخدمت الفكرة منذ نشأة الصراع العسكري والحروب بمفهومها الشامل.
يقول المدير السابق لأكاديمية ناصر العسكرية المصرية، أستاذ الدراسات الاستراتيجية، اللواء الدكتور زكريا حسين لـ«المجلة»: «فكرة الممرات الآمنة بدأت منذ أن عرف العالم النزاعات المسلحة والحروب، ولا يمكن تحديد بدايتها على وجه الدقة، إذ كانت تطبق في حروب كثيرة منذ مئات السنين بمبادرات ما بين القادة العسكريين المتصارعين، أحيانا لضمان سلامة المدنيين من الطرفين، وفي أحيان أخرى لنقل الجرحى والمصابين من الجنود، ودفن جثامين القتلى، ودائما ما تستخدم الفكرة في حروب المدن حيث يوجد مدنيون، لكن إذا ما كانت الحرب في أماكن مفتوحة فلا يكون هناك حاجة لاستخدامها».
ويضيف: «الوضع اختلف في العصر الحديث، فعلى سبيل المثال يمكن القول إن الممرات الآمنة في مناطق الصراع العسكري في منطقة الشرق الأوسط لا هي آمنة ولا هي فاعلة، لأن كل طرف من أطراف الصراع لديه مصالح وأجندة مختلفة عن الطرف الآخر مما يعرقل التوصل للاتفاقات».



تحديات تضاريس الموت




تواجه الممرات الآمنة في الدول التي تشهد مواجهات عسكرية بمنطقة الشرق الأوسط تحديات كثيرة حولتها من فكرة نبيلة إلى ورقة مساومات ووسيلة لتحقيق مصالح سياسية وعسكرية، خاصة مع تعدد الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية المشاركة في العمليات العسكرية والتعارض البديهي بين مصالح كل طرف.
تقول دراسة أصدرها مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بالإمارات العربية المتحدة أخيرا، إن أبرز التحديات التي تعوق نجاح الممرات الآمنة في تحقيق هدفها الإنساني، عدم الاتفاق بين الأطراف المتصارعة على إقامة الممرات، إذ إن أي قرارات غير توافقية تؤسس لفرض ملاذات آمنة للمدنيين أو اللاجئين الفارين من بؤر الصراعات، لا تثمر نجاحات ملموسة، لا سيما في ظل تباين أهداف كل طرف، كما أن غياب الحماية العسكرية من قبل قوات الأمم المتحدة يعد إحدى المعضلات الرئيسية التي تواجه الممرات الإنسانية، بسبب عدم قدرة الأطراف الدولية والإقليمية على كبح التنظيمات المسلحة المنخرطة في تلك الصراعات وإلزامها باحترام الترتيبات الإنسانية والأمنية المتخذة في هذا الشأن، في حين ترى بعض العناصر المسلحة والتنظيمات المتطرفة أن الهدف من الترويج لاتفاقيات الهدنة هو إرباك القوى المسلحة للفصائل المختلفة، لذا تبقى الممرات الآمنة عرضة للخطر خاصة في الصراعات الداخلية المسلحة.
ويتم عادة اقتراح قوات دولية من الأمم المتحدة أو قوى إقليمية أو متعددة الجنسية لحفظ السلام لحماية هذه الممرات. إلا أن قوات حفظ السلام، في حال استعمالها القوة حسب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، تفقد جزءاً من حياديتها وتجردها، بشكل يجعلها خاضعة لمبدأ استعمال القوة المسلحة والتدخل في شؤون الخصوم.
وتتابع الدراسة: «يحدث كثيرا استهداف الممرات الآمنة بزعم إخراج المدنيين الداعمين للمعارضة المسلحة، ويفترض أن تهدف هذه الممرات إلى حماية المدنيين المتضررين من الأعمال القتالية بين أطراف الصراعات، غير أنها قد تساعد في بعض الأحيان، في عمليات قتل المدنيين من قبل تلك الأطراف، مما حولها إلى ما يسمى (تضاريس الموت)، وهو ما يثير الكثير من الشكوك لدى المدنيين عما إذا كانت هذه الممرات طرقا آمنة أم لا؟».
تتطرق الدراسة إلى الحالة السورية باعتبارها أكثر نماذج الصراعات المسلحة وضوحا فيما يتعلق بتعارض مصالح الأطراف المختلفة بما يؤدي إلى عدم جدوى الممرات الآمنة في معظم الأحيان.
وتقول الدراسة إن جيش النظام السوري «يهدف إلى استعادة مساحات أكبر من الأراضي وعزل مناطق الفصائل، فيما تهدف روسيا إلى تعزيز قواعدها العسكرية في سوريا، ويأتي ذلك في ظل عدم وجود مؤشرات لضغط دولي لوقف قصف الغوطة الشرقية، بحيث ستلقى الأخيرة نفس مصير المناطق الأخرى التي استعاد الجيش النظامي السيطرة عليها، حيث أصبحت الممرات الإنسانية في النهاية، طرقا لهروب مقاتلي المعارضة المهزومين، لا سيما في ظل كثافة إطلاق النيران بين الأطراف المختلفة».
وفي وقت سابق من هذا العام، قالت المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا، إنجي صدقي: «من الصعب أن يستخدم أي مدني ممرات العبور إذا لم تكن هناك ضمانات كافية. لن تخاطر أسرة مؤلفة من أم وأطفال بحياتها إذا لم يكن لديها ضمانات السلامة اللازمة، هناك نوع من التخوف لدى المدنيين بسبب عدم وجود توافق بين الأطراف».
وترى الدراسة أن الاستثناءات المطبقة على بعض الفصائل المسلحة في اتفاقيات الهدنة تفتح الطريق أمام تفسيرات متناقضة، ففي حالة سوريا يعتبر نظام الأسد فصائل المعارضة «تنظيمات إرهابية» بينما تحظى هذه الفصائل بدعم من قوى دولية طرف في النزاع، وهو ما يهدد التطبيق التام لوقف إطلاق النار، كما يؤدي السماح بخروج بعض الفصائل المسلحة عبر الممرات الآمنة إلى غضب أطراف أخرى بما يعرض الممرات للقصف.



خطة إسناد




رغم بروز الحالة السورية كنموذج لتضارب المصالح للقوى الدولية والإقليمية بما يؤدي إلى عرقلة عمل الممرات الإنسانية وخطط الإغاثة الدولية، فإن الوضع متشابه في بعض الدول العربية التي تشهد صراعات مسلحة، مثل ليبيا، ويرى محللون أن تعارض مصالح الدول الكبرى وتضاربها أحد أهم أسباب فشل اتفاقات الهدنة وعدم إمكانية الثقة في فاعلية الممرات الآمنة.
يقول أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية بالقاهرة، المتخصص في الشأن الخليجي، الدكتور وليد قزيحة لـ«المجلة»: «الممرات الآمنة لم تعد تلك الفكرة النبيلة التي تم التوصل إليها لأهداف إنسانية سامية، بل تحولت إلى وسيلة سياسية للمناورة وتحقيق المكاسب السياسية والعسكرية، وهو أمر ينطبق على كل بؤر الصراع العسكري بالمنطقة العربية، فالكثير من الدول تستخدم الهدنة والممرات الآمنة في استهداف خصومها العسكريين والسياسيين، فبعض الأطراف تطلب الهدنة بهدف إعادة تعزيز قوتها العسكرية ضمن مناورات عسكرية مدروسة».
ويقول الخبير العسكري اللواء محمد علي بلال لـ«المجلة»: «واحدة من المشكلات في المناطق التي تشهد مواجهات مسلحة بالمنطقة، أن المساعدات الإنسانية من أدوية وغيرها لا تصل في بعض الأحيان للمدنيين، بل يتم الاستيلاء عليها من بعض الفصائل المسلحة، وهو أمر - عسكريا - قد يطيل أمد المواجهات العسكرية، إذ إن إحدى آليات الفوز بالحرب قطع الإمدادات عن العدو، وأعتقد أن المصالح المتضاربة للقوى الدولية هي السبب في استمرار الحرب بالمنطقة وعدم وجود أفق قريب لنهايتها».
font change