متاهة «وادي الوديان»

متاهة «وادي الوديان»

[caption id="attachment_55268092" align="aligncenter" width="940"]	منطقة «وادي الوديان» المهلكة للمهاجرين غير الشرعيين على الحدود المصرية الليبية (صورة من «غوغل») منطقة «وادي الوديان» المهلكة للمهاجرين غير الشرعيين على الحدود المصرية الليبية (صورة من «غوغل»)[/caption]


القاهرة: عبد الستار حتيتة


* بينما يسلط العالم الأضواء على المراكب التي تغرق بالمهاجرين غير الشرعيين في البحر المتوسط، من النادر أن تجد اهتماماً بمن يقضون نحبهم في الصحراء.
* اتخذت السلطات المصرية، منذ وقت مبكر، إجراءات للحد من الهجرة غير الشرعية.
* سيطرت مصر بشكل كبير على ثلاثة طرق رئيسية لعبور المهاجرين من مصر إلى ليبيا، الأول: بالقرب من واحة جغبوب، والثاني: جنوب السلوم، والثالث: «وادي الوديان».




يقع «وادي الوديان»على الحدود المصرية الليبية، وضحاياه من المهاجرين غير الشرعيين، حيث يعد متاهة يصعب تجاوزها إذا لم يكن هناك أدلاء محترفون. وكان آخر هؤلاء الضحايا مصري يدعى روماني، من الصعيد، أنقذه رجال حرس الحدود من الموت جوعا وعطشا، بعد أن ضل وهو في طريقه إلى ليبيا، داخل متاهة الوادي لأكثر من يومين.
فرغم المبالغ الطائلة التي كانوا يتقاضونها من كل مهاجر، لم يعد مثل هؤلاء الإدلاء الذين يخبرون أخوار «وادي الوديان»، يجازفون بنقل المهاجرين غير الشرعيين، بسبب تشديد السلطات المصرية لإجراءات تأمين الحدود في الفترة الأخيرة. ويقع الوادي على الحافة السفلية لهضبة السلوم بمحاذاة البحر. ويحتوي على عشرات الجثث لمن تقطعت بهم السبل أثناء محاولة العبور من الأراضي المصرية إلى الأراضي الليبية.

[caption id="attachment_55268093" align="alignleft" width="300"]سامح شكري، وزير الخارجية المصري (صورة أرشيفية) سامح شكري، وزير الخارجية المصري (صورة أرشيفية)[/caption]

وبينما يسلط العالم الأضواء على المراكب التي تغرق بالمهاجرين غير الشرعيين في البحر المتوسط، من النادر أن تجد اهتماما يذكر بمن يقضون نحبهم في عرض الصحراء، وقد انطفأ الأمل لديهم إلى الأبد في الوصول إلى مقرات آمنة. وأدت الفوضى في ليبيا إلى تحول حدود هذه الدولة مع جيرانها إلى مسارات يبلغ طولها مئات الكيلومترات، لدخول ألوف المهاجرين غير الشرعيين عبر البيداء القاحلة، من أجل الوصول إلى أوروبا في نهاية المطاف.
وأثناء لقاء له مع كبار المسؤولين في القاهرة قبل يومين، قال إينزو موافيرو ميلانيزي، وزير خارجية إيطاليا، البلد الأكثر تضررا من الهجرة العابرة من شمال أفريقيا عبر البحر، إنه يثمن جهود القاهرة في مواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعية. ودعا، في مؤتمر صحافي، مع نظيره المصري سامح شكري، لوضع هيكل لمناطق تدفقات المهاجرين غير الشرعيين الذين يبحثون عن مستقبل أفضل.

واتخذت السلطات المصرية، منذ وقت مبكر، إجراءات للحد من الهجرة غير الشرعية. ويقول العمدة قدورة المالكي، القيادي المحلي في السلوم، إن «وادي الوديان» يشبه «مصيدة ضخمة». ويبدو من شهادات أخرى أن المهاجرين غير الشرعيين لجأوا إليه بعد أن فشلوا في اجتياز المسارات الجنوبية الأكثر تأمينا من جانب حرس الحدود. ويتكون الوادي من نحو 26 «خورا» رئيسيا، وهي عبارة عن مسالك عدة وسط طبقات من الصخور التي تتشكل منها هضبة السلوم، بمحاذاة البحر.
ويضيف المالكي: «من يدخل وادي الوديان، يعتقد أنه سيجتازه بسهولة في مسيرة ليلة، لكن هذا أمر غير ممكن. أنت تدخل في طريق واضح، إلا أنك حين تنظر خلفك تجد للوادي عشرات المسارات الأخرى، ولن تعرف أبداً من أين أتيت، ولا إلى أين تمضي، ولا كيف تعود». ويقول: «أمضينا يومين وليلتين في البحث عن روماني بكل السبل لاستعادته حيا. الكل كان يشارك للوصول إليه. لقد أنقذناه في نهاية المطاف».
وبدأت عملية صعبة ومعقدة لإنقاذ حياة روماني في وقت متأخر من ليل الاثنين 30 يوليو (تموز). واسمه الكامل هو روماني يحيى يسي، ويبلغ من العمر 39 سنة، من مدينة الفشن بمحافظة بني سويف. ويعمل نجار أثاث منزلي. كان روماني ضمن ثمانية مهاجرين مصريين آخرين، في الطريق إلى ليبيا، وفقا للتحقيقات المبدئية، لكن تقطعت بهم السبل في مكان ما في الصحراء. وعثرت السلطات عليه فجر يوم الخميس، الثاني من أغسطس (آب)، بعد التفتيش عنه في 13 خورا (مسالك صخرية) بمحاذاة هضبة السلوم قرب ساحل البحر.

[caption id="attachment_55268094" align="alignright" width="300"]إينزو موافيرو ميلانيزي، وزير خارجية إيطاليا (صورة أرشيفية) إينزو موافيرو ميلانيزي، وزير خارجية إيطاليا (صورة أرشيفية)[/caption]

وقبل هذه الواقعة بأسبوع واحد، ألقت السلطات المصرية في السلوم القبض على نحو 210 متسللين، مصريين وغير مصريين. ويسدد كل مهاجر نحو 700 دولار لمهربين، من أجل إدخالهم إلى ليبيا، لكن بعض المهربين يتركونهم لمصيرهم قبل كيلومترات من اجتيازهم الحدود، خوفا من القبض عليهم من دوريات الأمن. ومن يتمكن من دخول الأراضي الليبية، تتلقفه شبكة واسعة تعمل في الهجرة غير الشرعية. وتعمل على تسيير مراكب إلى أوروبا، بعد أن يسدد كل مهاجر مبلغا آخر من المال يتراوح بين 500 إلى ألفي دولار.
وكان روماني، وهو مسيحي وأب لابنتين، يعمل في ورشة نجارة في ليبيا بشكل قانوني منذ عهد معمر القذافي، ويرسل مدخراته لأسرته في بني سويف. ورفض العودة إلى مصر أثناء ما يعرف بـ«ثورات الربيع العربي» في 2011. لكن عائلته شعرت بالقلق عليه عقب قيام تنظيم داعش بذبح 21 مصريا مسيحيا في مدينة سرت الليبية في عام 2015.
ويقول صموئيل عدلي، ابن خالة روماني، ويعمل حارس عقار في وسط القاهرة: «سافر روماني إلى ليبيا قبل سنوات، وحين وقعت الانتفاضة ضد القذافي خفنا عليه، لكنه استمر في العمل هناك إلى أن وقعت أحداث ذبح المصريين في سرت. وتمكنا وقتها من نقله إلى مدينة البيضاء، الأكثر أمنا في شرق ليبيا، للعمل في شركة نجارة ليبية».
وزار روماني أسرته في مدينة الفشن قبل شهرين، ووجد ابنته مخطوبة، وابنته الثانية على وشك الزواج. ويضيف صموئيل: «أشرنا عليه أن يبقى في مصر وسط أسرته، لكنه كان مصمما على العودة إلى عمله في ليبيا، خاصة أن أجره من الورشة التي ألحقناه للعمل فيها في بني سويف، كان زهيدا».
ويبدو أن روماني لم يتمكن من تجديد تأشيرة دخوله لليبيا، ولا تجديد تصريح العمل، ولا غيرها من الأوراق الخاصة بالسفر بطريقة قانونية إلى هذا البلد الذي يعاني من الفوضى، ومن الصراع السياسي ومن ارتباك العمل في السفارات والقنصليات في الخارج.

[caption id="attachment_55268095" align="alignleft" width="300"]أنطونيو تاياني، رئيس البرلمان الأوروبي (صورة أرشيفية) أنطونيو تاياني، رئيس البرلمان الأوروبي (صورة أرشيفية)[/caption]

وبمرور الوقت بدا أن روماني لديه تصميم على العودة لعمله في ليبيا بأي طريقة. لكن أسرته أخفت عنه جواز سفره، وطلبت منه البقاء. ويقول صموئيل: «أخذنا منه جواز السفر. لكن بعد إلحاح أرسلت له جوازه في بلدته في الفشن».
وتقوم السلطات المصرية منذ سنوات بتشديد الرقابة على حدودها مع ليبيا لمنع الهجرة غير الشرعية التي تحولت إلى صداع دولي وإقليمي. ويتخذ الألوف من دول أفريقية، من ليبيا طريقا للعبور إلى أوروبا، من خلال قوارب تنطلق من السواحل الليبية، لاجتياز البحر المتوسط إلى السواحل الأوروبية. لكن بعض المصريين يكتفون بالعمل في ليبيا، مثل روماني، ولا يخاطرون بركوب البحر.
وقال روماني في آخر اتصال له بذويه يوم الثلاثاء 31 يوليو، من مكان ما على حدود ليبيا عبر الهاتف: «رفيقي مات، وحولي جثث كثيرة في الجبل، وأسمع صوت البحر. أبلغوا العالم لإنقاذي. ثم توقف هاتفه عن العمل. وبدأت أسرته في التواصل مع السلطات لتحديد موقعه على الحدود مع ليبيا».
وتمكنت السلطات من العثور عليه بعد ذلك بيومين، بعد أن توصل رجال الحدود إلى حصر المنطقة التي يمكن أن يكون روماني موجودا داخلها، وهي منطقة «وادي الوديان» وتقع تحت الحافة الشمالية للهضبة الضخمة التي تفصل مصر عن ليبيا.
وفي التوقيت نفسه عثرت قوات الحرس الليبية، من الجانب الآخر من الحدود، لكن إلى الجنوب قليلا، باتجاه واحة جغبوب، على ثلاث جثث لمهاجرين غير شرعيين من مصر. ويعتقد أنهم كانوا من بين الثمانية الذين حاول روماني العبور معهم إلى ليبيا، قبل أن يتفرقوا إلى ثلاث مجموعات، وفقا لمصادر على علاقة بالمهربين على الحدود.
المجموعة الأولى ماتت عطشا في صحراء جغبوب جنوبا، والمجموعة الثانية، وتتكون من ثلاثة أيضا، سلمت نفسها مبكرا إلى حرس الحدود المصري. أما روماني وأحد رفاقه، فقد حاولا العبور من الشمال، من طريق «وادي الوديان». وفي اتصال روماني الأخير من هاتفه، قال لأسرته إن رفيقه لفظ أنفاسه الأخيرة بجواره.
وتعد السلوم آخر مدينة مصرية في أقصى الشمال الغربي ويعمل سكانها في مهنة الصيد. وكانت قبل 2011 مدينة تجارية مهمة، منفتحة على الشمال الأفريقي، لكن الفوضى التي ضربت المنطقة أصابتها بالركود بسبب المخاوف الأمنية من تسلل العناصر المتطرفة والمهربين والهجرة غير الشرعية.
ويقول شهود عيان على علاقة بمهربين عبر حدود ليبيا الصحراوية الجنوبية، إن القوافل التجارية وصيادي الغزلان قرب حدود ليبيا مع مصر والسودان وتشاد، يعثرون بين وقت وآخر على مهاجرين مدفونين تحت الرمال، بعد أن ضلوا طريقهم في الصحراء. وهزت المآسي الإنسانية للمهاجرين غير الشرعيين الرأي العام في أوروبا، خاصة بعد أن جرى تسريب المعاملة الوحشية التي يتلقاها المهاجرون في مراكز تجميع يديرها مهربون، على سواحل ليبيا، قبل نقلهم في مراكب إلى عرض البحر.

[caption id="attachment_55268096" align="alignright" width="300"]روماني، تم إنقاذه بعد أن تقطعت به السبل على الحدود المصرية الليبية (صورة خاصة من عائلته) روماني، تم إنقاذه بعد أن تقطعت به السبل على الحدود المصرية الليبية (صورة خاصة من عائلته)[/caption]

وفي مطلع الشهر الماضي قال رئيس البرلمان الأوروبي، أنطونيو تاياني، إن ليبيا ضحية الهجرة غير الشرعية، وليس الليبيون من يهاجر إلى أوروبا، بل من يدخل إلى ليبيا عبر حدودها الجنوبية، ولهذا يجب بذل كل الجهود لمراقبتها. وأضاف أن المشكلة لا تكمن في المهاجرين المتجهين إلى أوروبا فقط، بل في المهاجرين الذين يدخلون إلى ليبيا، لافتًا إلى أنه سيتحدث حول هذا الأمر مع رئيس النيجر، ورؤساء دول الساحل، والصحراء المهتمة، والمعنية بملف الهجرة غير الشرعية.
وتمكنت مصر من القضاء على المراكب التي كانت تنطلق من سواحلها بمهاجرين غير شرعيين إلى الشواطئ الأوروبية في البحر المتوسط. ويقول المسؤولون في القاهرة إنه منذ سبتمبر (أيلول) 2016 لم تخرج أي مركب من السواحل المصرية بمهاجرين غير شرعيين في اتجاه أوروبا. ويقول المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية، السفير أحمد أبو زيد، إن بلاده تقدم نموذجا ناجحا في التعامل مع قضايا الهجرة غير الشرعية، وهو الأمر الذي يقتضي أن يقوم الشريك الأوروبي بدعم الجهود المصرية في هذا الصدد.

[caption id="attachment_55268097" align="alignleft" width="169"]صموئيل عدلي، حارس عقار بالقاهرة وابن خالة روماني (تصوير: عبد الستار حتيتة) صموئيل عدلي، حارس عقار بالقاهرة وابن خالة روماني (تصوير: عبد الستار حتيتة)[/caption]

وتضم مقرات لاحتجاز المهاجرين غير الشرعيين في ليبيا الآلاف ممن تمكنوا من عبور الصحراء إلى السواحل الليبية. وسيكون على السلطات الليبية إعادتهم إلى بلادهم، لكن هذا يتطلب مساعدة من المجتمع الدولي. وفي الأسابيع الأخيرة دخل إلى ليبيا عدة مئات من جنسيات مختلفة عبر الحدود الليبية الجنوبية والشرقية، من بينهم سودانيون، وإريتريون، ومصريون. ويقول مسؤول في جهاز مكافحة الهجرة في طرابلس: نحن بصدد إعادة نحو مائتي مهاجر غير شرعي من السودان، إلى الخرطوم، عبر مطار معيتيقة في العاصمة الليبية، وذلك بالتعاون مع المنظمة الدولية للهجرة.

وتتعاون السلطات الليبية، المنقسمة على نفسها، كذلك مع دول الجوار للحد من تدفق الهجرة غير الشرعية. وسيطرت مصر بشكل كبير على ثلاثة طرق رئيسية لعبور المهاجرين من الأراضي المصرية إلى الأراضي الليبية، الأول يقع في الجنوب قرب واحة جغبوب والثاني جنوب السلوم، من طريق وادي النصراني، والثالث بمحاذاة البحر من خلال «وادي الوديان»، المهلك.
وتعد قصة المهاجر روماني التي استعرضها التلفزيون المصري الرسمي، آخر واقعة تعكس المأساة التي يعيشها المهاجرون غير الشرعيين. ويقول مسؤول محلي: «السلطات حددت الموقع الموجود فيه روماني، وهو عبارة عن متاهة صخرية ضخمة. بدأنا في الاستعانة بالأدلاء من حرس الحدود، ومن المواطنين المتطوعين لاقتفاء آثار روماني والبحث عنه. المنطقة كانت صعبة».
ويقول إبراهيم عبد القادر، ابن السلوم الذي قاد مجموعة من المدنيين المتطوعين: «بحثنا في 13 خورا. المنطقة التي تاه فيها روماني تتكون من 26 خورا. وأخيرا تم العثور عليه حيا».
ومن جانبه، يضيف العمدة المالكي، قائلا إن الأجهزة الأمنية قامت على الفور بتسيير دوريات بحثا عن روماني: «لكن لا أخفي عليك أن المهمة كانت صعبة بسبب خروج هاتف روماني عن الخدمة. لقد شكلت السلطات الأمنية في السلوم فريقا للبحث، وتسيير زوارق وقوارب بحرية لمسح المنطقة الساحلية المحاذية لـلوادي من ناحية البحر، للوصول إلى روماني قبل أن يلفظ أنفاسه.
وبمجرد العثور عليه حيا، بدأت السلطات في التحقيق معه عن الطريقة التي وصل بها إلى هذا المكان الخطر، ومن كان معه، ومن هم المهربون الذين قادوا مجموعات الهجرة غير الشرعية في اتجاه الحدود مع ليبيا».

font change