قمة بحر قزوين: طهران لا تزال حجر عثرة

قمة بحر قزوين: طهران لا تزال حجر عثرة

* قضية تحديد الطبيعة القانونية لبحر قزوين من أبرز المشاكل التي تواجه الدول المطلة عليه لاستغلال ثرواته.
* قواعد القانون الدولي لا تلزم دول منطقة بحر قزوين بأي حل محدد، سواء كان تقسيماً أم إدارة مشتركة. وإن كانت السوابق تميل إلى الجمع بين الاثنين معاً.
* التقديرات المؤكدة والمتوقعة في منطقة بحر قزوين قد لا تصل إلى حقل رئيسي واحد في دولة من دول منطقة الخليج مثل السعودية.
* أمام الأطراف الخمسة المعنية آليتان تتناسبان مع إراداتهم، وهما: التحكيم أو التوافق.
* على دول بحر قزوين الدخول في مقاربة تأخذ في اعتبارها مصالح الفرقاء كافة، ولا تقفز على حقائق التاريخ تحت ذريعة متغيرات الجغرافيا.

 

 

أكتاو (كازاخستان): في خطوة جديدة نحو حلحلة واحدة من أعقد الخلافات القانونية المترتبة على تفكك المنظومة الاشتراكية ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في بداية تسعينات القرن العشرين، عُقدت في مدينة «أكتاو» الكازاخية يوم الأحد الموافق 12 أغسطس (آب) 2018 القمة الخامسة للدول المطلة على بحر قزوين، وهي: أذربيجان وإيران وكازاخستان وروسيا وتركمانستان، وذلك بهدف التوصل إلى اتفاقيات بشأن التعاون في استثمار ثروات بحر قزوين وموارده، بعد حسم الوضع القانوني لطبيعة هذا البحر، والتي كانت محلا للخلاف والتباين بين دوله الخمس لمدة تزيد على 20 عاما.
وغني عن القول إن هذه القمة جاءت استكمالا لسلسلة من اللقاءات جمعت دول المنطقة، كان أولها في أبريل (نيسان) 2002 في مدينة عشق آباد عاصمة تركمانستان، ثم تلاها قمة أكتوبر (تشرين الأول) 2007 في العاصمة الإيرانية طهران، وجاءت الثالثة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 في العاصمة الأذرية باكو، والرابعة في سبتمبر (أيلول) 2014 بمدينة أستراخان الروسية.
وفي ضوء ما أفرزته القمة الخامسة من اتفاق تجسد في التوقيع على المعاهدة القانونية لبحر قزوين، تثار كثير من التساؤلات حول مضمون هذه المعاهدة وأبرز بنودها؟ وإلى أي مدى نجحت هذه المعاهدة في حل الخلاف القانوني حول طبيعة هذا البحر؟ وما انعكاسات هذه المعاهدة على استغلال البحر واستثمار موارده؟ وما انعكاسات هذا الاستغلال على سوق الطاقة العالمية وعلى أسعار النفط والغاز؟ وإلى أي مدى يمكن أن تصبح الموارد النفطية لبحر قزوين منافسة لنفط منطقة الخليج العربي؟
وفي خضم الإجابة على هذه التساؤلات، يستعرض التقرير المحاور الآتية:

 
 
أولاً: بحر قزوين... الموقع الجغرافي والأهمية الاقتصادية
 


يقع حوض بحر قزوين في منطقة غرب آسيا، ويمتد على مساحة تبلغ 371 ألف كيلومتر مربع، وهو أكبر بحر مغلق في العالم، ويبلغ طول البحر 1200 كيلومتر وعرضه 300 كيلومتر، ويبلغ أقصى عمق له 1023 متراً.
وتتقاسم شواطئه خمس دول، هي: تركمانستان من الشرق (1700كم)، وروسيا من الشمال الغربي (1100كم منها: 300كم في منطقة استراخان و600كم لداغستان، 200كم في كالموكيا)، وكازاخستان من الشمال الشرقي (2000كم)، وإيران من الجنوب (600كم)، وأذربيجان من الغرب (800كم).
وكان يُطلق على بحر قزوين عدة تسميات مثل: بحر الخزر نسبة إلى قبائل الخزر التي أقامت دولة لها على سواحل البحر الشمالية. وأيضاً كان يُطلق عليه اسم بحر كاسبيان وهو اشتقاق من لفظ (كاسب) وهو الاسم الذي أُطلق على السكان المحليين من قاطني جنوب هذا البحر، ويتضح من ذلك أن هذا البحر مرتبط بالشعوب التي تعيش على سواحله.


[caption id="attachment_55268318" align="alignleft" width="594"]رئيس كازاخستان نور سلطان نزارباييف (يسار) والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمشون بقرب بحر قزوين خلال قمة قزوين الخامسة في قصر الصداقة في أكتاو، كازاخستان. (غيتي) رئيس كازاخستان نور سلطان نزارباييف (يسار) والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمشون بقرب بحر قزوين خلال قمة قزوين الخامسة في قصر الصداقة في أكتاو، كازاخستان. (غيتي)[/caption]


وتبرز الأهمية الاقتصادية للبحر ليس فقط في ضوء حجم إنتاجه الراهن والذي لا يزال أقل بكثير من حجم الاحتياطيات المتوقعة، وفقا للتقديرات العالمية، إذ تقدر وكالة الطاقة العالمية، احتياطي النفط في البحر ما بين 15 إلى 40 مليار برميل أي ما يوازي ما بين 1.5 في المائة إلى 4 في المائة من الاحتياطي العالمي، واحتياطي غاز طبيعي يتراوح ما بين 6.7 إلى 9.2 تريليون متر مكعب، هذا بالإضافة إلى 8 تريليونات متر مكعب احتياطي محتمل بما يوازي ما بين 6 إلى 7 في المائة من الاحتياطي العالمي للغاز الطبيعي.
كما لا تقتصر الأهمية الاقتصادية لهذا البحر على ثرواته من النفط والغاز فحسب، وإنما يُعد بحر قزوين مجالاً فعالاً للنقل البحري رغم أنه من البحار المغلقة ولا يتصل بالبحار المفتوحة، إلا أن شبكة طرقه الملاحية تربطه ببحر آزوف وبحر البلطيق والبحر الأسود عن طريق الأنهار والمجاري المائية الروسية، ويساعد قصر الطرق الملاحية لبحر قزوين على اختصار زمن التنقل بين موانئه إلى أقل وقت ممكن، وهو ما يُعد من أهم مميزات هذا البحر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكن أن يلعب هذا البحر دوراً أساسياً على الساحة الدولية نظراً لإمكانية اتصاله ببحر البلطيق والبحر الأسود والبحر المتوسط، ولهذا فإن الاستفادة من هذه الطرق والإمكانات الملاحية يمكن أن تكون عاملاً مهماً في زيادة التعاون الاقتصادي في تلك المنطقة.
إضافة إلى ذلك، يتميز البحر بالتنوع في أشكال الحياة البحرية، حيث يعيش فيه نحو 850 نوعاً من الكائنات البحرية، وأكثر من 500 نوع من النباتات البحرية، كما يضم أسماكاً تنتمي إلى 21 سلالة و64 فصيلة، وإن كان من أهم كل ما سبق أنه يُعد أكبر منطقة تجمع للأسماك المنتجة للكافيار. ويعزز من أهمية المنطقة اقتصاديا كذلك أنه يوجد بها أكبر التجمعات النباتية وأكثرها تنوعاً، حيث تحتوي على غابات تضم أكثر من 400 نوع نباتي، فضلاً عن عدد كبير من الطيور المائية والبرية، حيث تضم المنطقة نحو 312 نوعاً من الطيور، كما يعيش بها 42 نوعاً من الزواحف.



 
ثانياً: بحر قزوين... الخلفية التاريخية
 


خلال العهد السوفياتي كانت هناك دولتان فقط تطلان على بحر قزوين، هما الاتحاد السوفياتي وإيران، لذلك تم تنظيم الملاحة واستغلال موارد بحر قزوين من خلال المعاهدة السوفياتية الإيرانية في 25 مارس (آذار) 1940 التي شملت حرية الملاحة عبر مياه البحر وحرية الصيد (مبدأ مجموع المياه)، باستثناء مناطق الصيد الوطنية بعد 10 أميال، ولكن لم يتم تنظيم استخدام باطن الأرض، والأنشطة العسكرية ومسائل الملاحة والعبور عبر قزوين.
ومع بداية التسعينات من القرن العشرين وعقب انهيار الاتحاد السوفياتي ظهر عدد متزايد من الدول الساحلية المطلة على بحر قزوين؛ وهي أذربيجان وتركمانستان وكازاخستان، فنشأت الحاجة إلى تحديد الوضع القانوني الجديد لهذا البحر، خاصة مع تصاعد الحديث حول أهمية هذه المنطقة كمورد عالمي للطاقة، اعتماداً على البيانات التي تصدر عن بعض المؤسسات العالمية كما سبقت الإشارة، وهو ما وضع حكومات دول المنطقة أمام تحديات هائلة متعلقة بالاستخدام العادل لثروات البحر وبما لا يُشكل تعدياً على حق بعضهم البعض، ثم تزايدت تلك الإشكالية في ضوء الاهتمام الأميركي المتزايد بهذه المنطقة وتحديدا عام 1993 عندما قامت مجموعة من شركات النفط الأميركية بعمل عقود مع حكومات كازاخستان وأذربيجان للاستفادة من النفط الموجود بأراضيها.
وقد اعتبرت روسيا أن هذا الوجود الأميركي يمثل تهديداً لأمنها القومي، خاصة مع تحول الهدف الأميركي من مجرد السيطرة على واحد من أهم منابع النفط في العالم، إلى البدء في الوجود العسكري في المناطق المجاورة لتأمين مصالحها السياسية والاقتصادية، مستغلة أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. وما صاحبه من احتلال أميركي لأفغانستان. ولذا، فقد تزايدت المخاوف الروسية بما دفعها إلى الدخول في مسار المفاوضات المباشرة مع بلدان المنطقة لحسم الخلافات حول استغلال ثروات البحر من جانب ومنع الوجود الأميركي العسكري في تلك المنطقة من جانب آخر، وهو ما يفسر بدء عقد لقاءات القمة السابق الإشارة إليها منذ عام 2002، وإن كانت قد بدأت في البحث عن اتفاق بشأن الوضع القانوني للبحر منذ عام 1996؛ حيث تم تشكيل فريق عمل متخصص (AHWG) على مستوى نواب وزراء الخارجية، وذلك بناء على قرار وزراء خارجية الدول الخمس المطلة على البحر. وتعاقبت المحاولات واللقاءات رفيعة المستوى إلى أن وصلت للاتفاقية الحالية، والتي تم توقيعها في مدينة أكتاو الكازاخستانية، والتي تعد بمثابة ملخص للجهد المتواصل على مدار السنوات المتعاقبة منذ منتصف التسعينات.



 
ثالثاً: بحر قزوين في ميزان القانون الدولي
 


أصبحت قضية تحديد الطبيعة القانونية لبحر قزوين من أبرز المشاكل التي تواجه الدول المطلة عليه لاستغلال ثرواته، إذ تنازعت الأطراف حول طبيعة هذا البحر حول ما إذا كان اعتباره بحراً أم بحيرة، حيث تطبق على التسميتين بنود مختلفة من القانون الدولي.
- إذا اعتبر البحر بحراً مغلقاً، فإنه يخضع لقواعد القانون الدولي للبحار واتفاقية الأمم المتحدة لعام 1982 الخاصة بالبحار، فيتم تقسيم مياهه وثرواته حسب طول شواطئ الدول المحيطة به وجرفها القاري... إلخ.
- إذا اعتبر البحر بحيرة، فيكون ملكاً عاماً للدول الواقعة عليه بلا تقسيم وليست هناك لا مياه إقليمية ولا مناطق اقتصادية ولا جرف قاري لأي دولة، بحيث يتم تقاسم مياهه وثرواته بالتساوي بين الدول المحيطة به.
وتختلف الدول المشاطئة له في تحديد طبيعته الجغرافية المؤثرة على وضعه القانوني، فهناك من ينظر إليه على أنه بحيرة (الموقف الإيراني)، وبناء على ذلك لا يمكن أن يكون خاضعاً للقانون الدولي الخاص بالبحار، على الجانب الآخر هناك من ينظر إلى بحر قزوين باعتباره أكبر من البحيرة، وبذلك فلا يمكن معاملته كبحيرة أو ككيان داخل أرض به ماء دون أي أهمية وهذه هي رؤية أذربيجان وكازاخستان.
وقد تجلى هذا التباين في مواقف الدول المطلة عليه، إذ تملك دوله مواقف مختلفة ليس فقط بشأن ترسيم قاع البحر، بل أيضا بالنسبة إلى الارتباط الإقليمي لترسبات الهيدروكربونات الكبيرة الموجودة على جرف البحر. لذا، عرضت أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان تحديد بحر قزوين من خلال طريقة «الخط الوسط المعدل» (خط تكون كل نقطة فيه على مسافة متساوية من أقرب النقاط المقابلة على سواحل هذه الدول). أصرت إيران على الحفاظ على بحر قزوين بشكل عام على مبدأ الملكية المشتركة من خلال إنشاء خمسة قطاعات متساوية (20 في المائة لكل منهما) بينما عارضت بشكل قاطع إبرام اتفاقات ثنائية على بحر قزوين. في حين أن روسيا - بدورها - أيدت ترسيم أعماق بحر قزوين، ولكنها كانت ضد تقسيم منطقتها المائية.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن قواعد القانون الدولي لا تلزم دول منطقة بحر قزوين بأي حل محدد، سواء كان تقسيماً أم إدارة مشتركة. وإن كانت السوابق هي التي تميل إلى الجمع بين الاثنين معاً، فنجد على سبيل المثال أن معظم البحيرات والبحار المغلقة أو شبة المغلقة مثل البحيرات العظمى خضعت للتقسيم، وصاحبت عملية تقسيمها درجات متفاوتة من التعاون والإدارة المشتركة فيما يتصل بحقوق العبور وصيد الأسماك والتوصيلات الممددة تحت الأرض من الكابلات والتعاون في الجوانب المتعلقة بحماية البيئة، وهو ما حاولت أن تصل إليه اتفاقية «أكتاو» 2018.


[caption id="attachment_55268319" align="alignright" width="594"]. رئيس كازاخستان، نور سلطان نزارباييف (إلى اليمين) والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف (إلى اليسار) يتصافحان خلال القمة الخامسة لزعماء الدول المطلة على بحر قزوين في أكتاو، كازاخستان في 12 أغسطس 2018. (غيتي) . رئيس كازاخستان، نور سلطان نزارباييف (إلى اليمين) والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف (إلى اليسار) يتصافحان خلال القمة الخامسة لزعماء الدول المطلة على بحر قزوين في أكتاو، كازاخستان في 12 أغسطس 2018. (غيتي)[/caption]

 
رابعاً: بحر قزوين واتفاقية أكتاو 2018... قراءة في مضمونها
 

تضمنت الاتفاقية الجديدة مجموعة من الضوابط الناظمة لكيفية استغلال ثروات البحر، إذ اعتبرت أن المنطقة الرئيسية لسطح مياه البحر ستبقى متاحة للاستخدام المشترك للأطراف، فيما ستقسم الدول الطبقات السفلية وما تحت الأرض إلى أقسام متجاورة بالاتفاق فيما بينها على أساس القانون الدولي.
وتتم عمليات الشحن والصيد والبحث العلمي ووضع خطوط الأنابيب الرئيسية وفقاً للقواعد المتفق عليها بين الأطراف عند تنفيذ مشاريع بحرية واسعة النطاق، ويراعى العامل الإيكولوجي بالضرورة.
وتحدد الاتفاقية أيضاً الحكم المتعلق بمنع وجود قوات مسلحة للقوى الأجنبية الإقليمية والدولية في بحر قزوين، وتحدد الدول الخمس لبحر قزوين المسؤولة عن الحفاظ على الأمن البحري وإدارة موارده.
كما تشير الاتفاقية إلى أن تعزيز العلاقات الاقتصادية سيصبح موضوعاً آخر على رأس جدول الأعمال. وفي هذا السياق، من المقرر توقيع الكثير من الاتفاقات الدولية. تتعلق ثلاث اتفاقات منها بالتعاون في مجال النقل والتجارة والتعاون الاقتصادي وفي مجال تجنب الحوادث في بحر قزوين. وتحدد هذه الوثائق استراتيجية التطوير المشترك للقطاعات الرئيسية في اقتصاد قزوين، ومواءمة العمليات التكنولوجية والإدارية في تنفيذ التجارة والنقل الدوليين. كما أن المهمة الرئيسية هي زيادة حجم التجارة بين الدول المطلقة على البحر وتحويل بحر قزوين إلى واحد من أكثر طرق النقل المتعدد الوسائط فعالية في أوراسيا.



 
خامساً: منطقتا قزوين والخليج... تكامل أم تنافس؟



يتواتر في كثير من الأحيان أحاديث عن أن موارد بحر قزوين وثرواته ستكون منافسا لثروات منطقة الخليج العربي، بل ربما تكون بديلة عنها، خاصة لدى السوق الأوروبية، بما يعني تراجع أهمية منطقة الخليج العربي في الاستراتيجيات العالمية التي تعتمد بصورة كبيرة على مواردها من النفط والغاز. ولا شك أن هذا القول مردود عليه، إذ إنه إذا كان من المقبول أن يكون هناك تكامل بين المنطقتين في تلبية احتياجات السوق العالمية للطاقة، فإنه من غير الوارد على الإطلاق أن تكون منطقة بحر قزوين بديلة لمنطقة الخليج العربي في مدى أهميتها الجيواستراتيجية والجيواقتصادية، وهو ما يجد تفسيره في عدة عوامل أبرزها ما يأتي:
1- الاستقرار السياسي والقانوني لدول منطقة الخليج العربي مقارنة بمنطقة بحر قزوين المتوترة. صحيح أن منطقة الخليج تواجه منذ الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية 2011 تهديدات وأزمات، إلا أنها لا تقارن بما تشهده منطقة بحر قزوين من صراعات وحروب. فضلا عن التباين في المواقف القانونية لدول بحر قزوين بشأن طبيعة البحر وكيفية استغلال ثرواته وهو ما ينعكس سلبا على الاستثمارات في مجال الطاقة في تلك المنطقة حيث تواجه مخاطر عدة، وذلك على عكس استقرار الأوضاع القانونية للحقول البحرية والبرية في منطقة الخليج بما يجعلها منطقة جاذبة للاستثمارات.
2- سهولة وصول ثروات الخليج إلى الأسواق العالمية قياساً بمنطقة بحر قزوين المغلقة، فكما تعد مناطق اكتشاف واستخراج مصادر الطاقة ذات أهمية كبيرة في عمل شركات النفط الدولية، فإن منظومة نقل تلك المصادر للخارج تشغل أهمية مماثلة، وثمة علاقة طردية موجبة يمكن رصدها هنا، وهي أنه كلما زادت خطوط نقل الطاقة تعددت وتكالبت شركات الطاقة على الاهتمام والاستثمار المالي، غير أن ذلك مرتبط بشكل رئيسي بعامل مهم جداً وهو عدم وجود معوقات سياسية أو طبيعية أمام مد شبكات تلك المنظومة من ناحية، والإمكانات العالية لمخزونات الطاقة الكامنة في تلك المناطق من ناحية أخرى.
3- الجهود التي تبذلها دول الخليج لتحسين وضعها الاستراتيجي في سوق الطاقة العالمية، سواء في مجال الإنتاج أو الاحتياطي، إذ إن التقديرات المؤكدة والمتوقعة في منطقة بحر قزوين قد لا تصل إلى حقل رئيسي واحد في دولة من دول منطقة الخليج مثل السعودية على سبيل المثال (حقل الغوار الذي يقدر احتياطي النفط فيه بما يعادل 90 مليار برميل)، بل يصل الأمر لكون منطقة بحر قزوين لا تكاد تذكر بالمرة حال تقديرات مؤشرات الطاقة العالمية سواء على مستوى الإنتاج أو الاحتياطي.
ولكن، إذا كانت المقارنة بين ثروات الطاقة في منطقتي الخليج وقزوين، قد حُسمت لصالح منطقة الخليج، فإن هذا لا يعني التقليل من أهمية منطقة بحر قزوين بما تحويه من ثروات وموارد وإمكانات تستوجب من العالم العربي أن يوليها اهتماماً خاصاً ضمن خريطة توزيع علاقاته ومصالحه. ولعل المبادرة السعودية بإنشاء منتدى تعاون دول آسيا الوسطى وأذربيجان تحت مظلة جامعة الدول العربية وعقد الدورة الثالثة منها في طاجيكستان عام 2017 يمثل خطوة مهمة في سبيل تعزيز التقارب والتعاون مع دول تلك المنطقة بما يحقق مكاسب متبادلة للطرفين.



 
سادساً: اتفاقية أكتاو 2018... طهران حجر عثرة في طريق الحل
 


رغم كل الطموحات والآمال التي عقدتها الأطراف كافة على نجاح تلك المعاهدة في الاستغلال الأمثل لموارد البحر وثرواته، كما عبر عن ذلك «نور سلطان نزارباييف» رئيس جمهورية كازاخستان بقوله: «القادة يشاركون في حدث تاريخي... بإمكاننا إقرار أن التوافق على وضع البحر كان أمراً صعب المنال. واستغرق وقتاً، بحيث دامت المحادثات أكثر من 20 عاماً، واحتاجت إلى كثير من الجهود المشتركة من الأطراف المعنية».


ولكن هذه الطموحات لا تزال تراوح مكانها في ظل موقف إيران الذي يمثل حجر عثرة في سبيل تعزيز التعاون المشترك والاستفادة المتبادلة من ثروات البحر وموارده، إذ أصدرت طهران عقب التوقيع على هذه الاتفاقية بيانا أعاد الأمور إلى نقطة الصفر من جديد، حيث تضمن هذا البيان ثلاث نقاط رئيسية، هي:
- الحديث عن بنود كل من اتفاق عام 1921 بين إيران وجمهورية روسيا الاشتراكية الاتحادية، وكذلك الاتفاق التجاري والملاحي بين إيران واتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية لعام 1940. وهو ما يعني العودة إلى ذات الرؤية التي تجاوزها الزمن مع بروز دول أخرى على شاطئ البحر.
- أكد البيان على أنه لم يتم تعيين حدود القاع وتحت القاع لبحر قزوين في معاهدة النظام القانوني، وينبغي إنجاز ذلك لاحقا خلال اتفاق بين الأطراف المعنية.
- طالب البيان بتحديد الخطوط المبدئية المباشرة وفق المادة الأولى لمعاهدة النظام القانوني لبحر قزوين بالنسبة إلى وضع ساحل الجمهورية الإسلامية الإيرانية في بحر قزوين، إذ إن الهدف من صياغة هذا البند هو التركيز والاهتمام بالحالة الخاصة لإيران، وأن أسلوب تحديد الخطوط المبدئية المباشرة ينبغي أن يتم ضمن اتفاقية منفصلة بين جميع الأطراف المعنية.
يعني ما سبق أن الدول الخمس لا تزال تقف عند ذات النقطة التي انطلقت منها في بدايات تسعينات القرن المنصرم، وهي ذات السياسة التي تنتهجها طهران في مفاوضاتها، إذ إنها تتفاوض ليس من أجل التوصل إلى تفاهمات أو توافقات وإنما يكون التفاوض من أجل التفاوض تضييعا للوقت واستغلالاً للظروف طالما لم يحقق الاتفاق رؤيتها هي كمستفيد أوحد من عملية التفاوض، وهذه الرؤية تنسف فكرة التفاوض من أساسها، إذ إنه كما هو معلوم فإن الهدف من التفاوض هو التوصل إلى حلول وسط تحقق مصالح الأطراف المتفاوضة دون أن ينفرد أحد هذه الأطراف بالحل لصالحه على حساب مصالح الأطراف الأخرى. في حين أن سياسة طهران تتمثل في أن التفاوض آلية لتحقيق مصالحها وتطبيق رؤيتها دون مراعاة لرؤى ومصالح الأطراف الأخرى. ويُذكر هذا الموقف بما سبق وأقدمت عليه طهران في بداية تسعينات القرن المنصرم حينما اقترحت عام 1991 تأسيس منظمة دول بحر قزوين وكانت تهدف من ورائها إلى بسط رؤيتها على الأطراف الثلاثة حديثي الاستقلال (أذربيجان، كازاخستان، تركمانستان)، إذ كان من بين أهداف هذه المنظمة كما جاء في ميثاق تأسيسها إيجاد تنسيق متبادل تجاه القضايا محل الخلاف بين الأطراف، والاتفاق على أساليب ووسائل استغلال موارد هذا البحر، وعلى الرغم مما تم الاتفاق عليه بين الأطراف من حيث المبادئ الحاكمة لاستغلال ثروات البحر، وإنشاء الأجهزة والآليات التي يقوم عليها عمل المنظمة، إلا أنها فشلت في التوصل إلى اتفاق بين أعضائها بشأن تحديد الطبيعة القانونية لبحر قزوين. وهو ما يمكن تفسيره في ضوء الهدف الذي سعت إيران لتأسيس هذه المنظمة من أجله وهو محاولة فرض رؤيتها لاستغلال ثروات البحر وموارده، تلك الرؤية التي لا تزال طهران متمسكة بها، وهو ما يُنبئ بأن المعاهدة الأخيرة (معاهدة أكتاو) الموقع عليها من الأطراف الخمسة ستواجه معضلات وتحديات يجب على الدول الأطراف إذا أرادوا حلولا أن يتفهموا بداية السياسة الإيرانية وألاعيبها التي تحاول استغلال عملية التفاوض لكسب مزيد من النقاط على حساب الأطراف المتفاوضة الأخرى، وهي سياسة لن تنجح في ظل يقظة وفهم قادة الدول الثلاث للأهداف الإيرانية ومراميها، وكان التحول الأخير في الموقف الروسي بعيدا عن الموقف الإيراني في قضية بحر قزوين تأكيدا على تفهم الأطراف كافة للمرامي الإيرانية التي تمثل معوقات فعلية في مسار تحقيق التوافق والتعاون المشترك.



 
سابعاً: بحر قزوين... التحديات الماثلة والحلول المقترحة
 


لن تكن مبالغة القول إن التحديات التي تواجه دول بحر قزوين كثيرة ومتنوعة وإن كان من الممكن أن نجملها في ثلاثة تحديات رئيسية، على النحو الآتي:
أولاً - ترسيم الحدود البحرية في بحر قزوين: إذ يتطلب استغلال ثروات البحر وموارده التوافق بين الدول الأطراف على كيفية حسم الصراعات بشأن ترسيم الحدود البحرية. وفي هذا الخصوص، يقدم القانون الدولي للبحار كثيراً من الآليات لحسم هذا النزاع، يمكن تقسيمها إلى ثلاث آليات أو وسائل، هي:
1- اللجوء إلى القضاء كما هو الحال في محكمة العدل الدولية أو المحكمة الدولية لقانون البحار.
2- التحكيم بصورتيه: محكمة تحكيم، محكمة تحكيم خاصة.
3- التوافق أو التوفيق بين الأطراف المعنية.


[caption id="attachment_55268321" align="alignleft" width="594"]حفل لإطلاق أسماك الحفش الصغيرة في بحر قزوين كجزء من قمة قزوين الخامسة. (غيتي) حفل لإطلاق أسماك الحفش الصغيرة في بحر قزوين كجزء من قمة قزوين الخامسة. (غيتي)[/caption]


وإن كان كثير من الدول لا تفضل عادة اللجوء إلى الآلية الأولى خشية أن تفقد تأثيرها ونفوذها وسيطرتها على القرار في القضايا الخلافية. فيصبح أمام الأطراف الخمسة المعنية آليتان تتناسبان مع إراداتهم، وهما: التحكيم أو التوافق.
ثانياً - مسألة نقل موارد البحر وثرواته: إذ تواجه بلدان المنطقة معضلة البحث عن مسارات لنقل النفط والغاز إلى الأسواق العالمية وذلك باستثناء روسيا. ويقترح في هذا الخصوص الاستفادة من معاهدة ميثاق الطاقة المعروف باسم CECT))، حيث يُمكن لتلك الدول استخدام الإطار العام لهذه المعاهدة في معالجة بعض القضايا الرئيسية مثل حماية البيئة وقضايا النقل، حيث تعالج معاهدة ميثاق الطاقة بصورة مباشرة قضية نقل الطاقة باعتبارها عنصراً رئيسياً في مجال تأمين الكميات المعروضة من هذه الموارد. ولهذا الغرض تؤكد المعاهدة على ما يأتي: أن تمر منتجات الطاقة عبر دول ثالثة، على الدول التي تمر بها إمدادات الطاقة اتخاذ الخطوات اللازمة لتسهيل عملية عبورها، تلتزم هذه الدول كذلك في حالة نشوب نزاع حول نصوص اتفاقيات العبور وشروطها بعدم توقف عمليات النقل.
ثالثاً - منع عسكرة البحر سواء عبر وجود قوات أجنبية أو حتى من جانب الدول المطلة عليه: ضمانا لاستقرار المنطقة وتعظيم الاستفادة من مواردها. وفي هذا الخصوص، ثمة مقترحات طرحت من جانب بعض دوله يمكن تبني أيهما، منها: اقتراح كازاخستان عام 2005 إبرام معاهدة جماعية أطلقت عليها اسم «معاهدة الاستقرار» تتضمن وضع آليات لمحاربة الإرهاب، وتجارة الأسلحة، والهجرة غير المشروعة. واقتراح روسيا بتشكيل «قوة عسكرية موحدة في بحر قزوين»، محددا مهمتها في حماية مصالح بلدان المنطقة من انتشار أسلحة الدمار الشامل، وأعمال القرصنة، وضمان أمن إمدادات مصادر الطاقة.
خلاصة القول إن دول منطقة بحر قزوين تواجه تحديات جسام، بما يستوجب منها ضرورة الإسراع بإرساء مقاربة متوازنة لقضايا الأمن والتعاون في الإقليم، مقاربة تأخذ في اعتبارها مصالح الفرقاء كافة، ولا تقفز على حقائق التاريخ تحت ذريعة متغيرات الجغرافيا، ولا تنظر إلى العلاقات الثنائية على أنها أداة للضغط على الآخر، بل وسيلة للتعايش وبناء الاستقرار الإقليمي. وعلى هذا، فعلى دول الإقليم أن تسارع إلى تشييد الأجهزة الإقليمية المعنية بفض النزاعات وخلق تفاهمات بعيدة المدى، أخذا في الاعتبار أن تنامي الخلافات لا يمثل عائقا أمام قيام هذه المؤسسات، بل محفزا لها.

 
* باحث زائر بمركز الدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة جمهورية أذربيجان
font change