بين حفظ السلام وصناعة الحرب في أفغانستان

بين حفظ السلام وصناعة الحرب في أفغانستان

[escenic_image id="5595427"]

ألقى المقال الأخير الذي أنهى عمل الجنرال الأميركي ستانلي ماكريستال؛ كقائد للقوات الأميركية في أفغانستان، على نحو مفاجئ، بالضوء على كثير من الإشكالات؛ فبعيدا عن القضايا المتعلقة بالعصيان العسكري، أشار المقال إلى أن سياسة مكافحة التمرد الحالية ربما تفتقر إلى الفعالية.

وذلك حيث أظهرت شهادات كثيرة أن الجنود على الجبهة لا يؤمنون بالاستراتيجية التي تعرض حياة أفراد الجيش للخطر، رغم ما يكنونه من احترام للجنرال؛ فهم يشعرون بأنهم يخسرون عسكريا أمام حركة طالبان، وأن التضحيات التي بذلوها لإنقاذ حياة الأفغان لم تسهم في تحسين صورتهم في نظر السكان المحليين.

ومنذ شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، كان أوباما يتحدث حول وضع نهاية لحالة النشاط الذي تحظى به حركة طالبان في البلاد. وما زال ذلك هو الهدف الذي تقيس به الولايات المتحدة مدى نجاحها في أفغانستان. وكلما تزايدت تكلفة الحرب - سواء على صعيد الخسارة البشرية أو الوقت والموارد - ازدادت الشكوك التي تحيط بقدرة استراتيجية مكافحة التمرد على أن تحقق أي شيء فيما يتعلق بنشاط حركة طالبان بخلاف تعزيزه.

وأخذا في الاعتبار الشكوك الهائلة التي تثقل كاهل جهود مكافحة التمرد الأميركية، فإن الأمر يستحق أن نتساءل حول السبب الذي جعل جنود ماكريستال يتشككون في قائدهم المحبوب. والإجابة واضحة للغاية؛ فاستراتيجية مكافحة التمرد الأميركية هي أقرب على نحو غريب إلى مهمة حفظ السلام، عدا أنها مهمة حفظ سلام تطلق عليها الولايات المتحدة حربا. فلم يتم تدريب الجنود الأميركيين على حفظ السلام، بل تم تدريبهم على القتال في حروب تقليدية (رغم الخبرة الأميركية المطولة مع حركات التمرد). فقد تم تدريبهم على القتل.

فتلك العملية برمتها التي جلبت الأفراد من قراهم الصغيرة بالولايات المتحدة إلى الأودية الأفغانية، تعتمد على دمج هؤلاء الرجال والنساء في مؤسسة تدرك أن منظومة قيمها تعتمد على قدرتها على تنفيذ العنف. إلا أن هؤلاء الجنود في أفغانستان تصدر لهم أوامر بتفادي استخدام «القوة القاتلة».

ولكي نفهم الشكوك التي يشعر بها هؤلاء الجنود بشأن الحرب في أفغانستان، يجب أن نفهم تفاصيل استراتيجية مكافحة التمرد ومدى التناقض بين تدريبهم والأهداف المرجوة من تلك التكتيكات. فمن أهم عناصر مكافحة التمرد، كما يقول أحد أعضاء «كلية الحرب»، أنه لا يجب النظر إليها باعتبارها نشاطا عسكريا ولكن باعتبارها «حملة تواصل استراتيجي تساندها عناصر الجيش».

وبمعنى آخر، فإن الحرب للفوز بقلوب وعقول الأفغان يجب أن تتضمن تأييد المدنيين على الأرض، أي أنها ليست حربا بالمعنى التقليدي، فالحرب بهذا المعنى تعني خلق خطاب يجعل من حركة طالبان أشرارا ومن الأميركيين أخيارا.

ولا يعني ذلك أن يقتلوا، رغم أن ذلك هو ما تم تدريبهم على عمله، بل يعني، على نحو خاص، تجنب قتل الأبرياء. وذلك لأنه عندما يموت الأبرياء، فإننا نخسر المفهوم الذي يقف خلف حملة التواصل برمتها، كما أن المتمردين سوف يصورون تلك الحوادث باعتبارها نموذجا آخر على محاولة القوة الأجنبية فرض سلطتها غير المشروعة على أفغانستان. وبالنسبة لبلد يعج تاريخه بالغزو والحكام الأجانب، فإن حملة التواصل التي تحاول الولايات المتحدة الترويج لها من خلال وضع 140 ألف جندي (من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي) على الأرض مزودين بالأسلحة الثقيلة، ليست خطة يسهل الترويج لها حتى وإن لم يقتلوا الأبرياء. ومع ذلك فإنه وكما يذكر «الدليل الميداني لقوات مكافحة التمرد» الأميركية في فلسفته المشكوك فيها، فإن استخدام المزيد من القوة يكون أقل فعالية، كما أن تحقيق نجاح حقيقي لن يتم إلا بحماية الشعب وليس قوات مكافحة التمرد.

ولكن هذه الفلسفة لا تتوافق مع الثقافة العسكرية. فقد شهدت مؤسسة الجيش الحديثة تغيرات كبيرة في القرن السابع عشر. وكان تحديث نابليون للجيش يعني أن هدفه كقوة لتعزيز السلطة من خلال العنف، يجب أن يتزامن مع قدرته على دمج الأفراد كعناصر داخل آلة الحرب. كما أن قدرة الجيش كمؤسسة على قمع الفردية كانت تعتمد على التدريب المستمر، وتعزيز مفهوم احترام السلطة، بالإضافة على الاستخدام المنضبط للعنف. وكما قال الميجور «آر دبليو جيه وينيك» عام 1984: فإن «الدور الأساسي لأي قوة عسكرية هو إدارة العنف بالعنف، وبالتالي فإن العنف الفردي يجب أن يكون إحدى الخواص الأساسية للتدريبات المهنية في الوحدات القتالية».

وبالنظر إلى تلك الشروط، فليس مفاجئا أن يتشكك جنود ماكريستال في استراتيجيته لمكافحة التمرد من اللحظة الأولى. فأن تطلب من الجندي «ألا يسير سوى في المناطق التي يكون على يقين فيها بأنه لن يكون مضطرا لاستخدام القوة القاتلة»، بعدما يكون قد خضع لتدريب يحدد قيمته من خلال استعداده لوضع نفسه على طريق الخطر وقدرته على الدفاع عن نفسه، هو أمر غير عقلاني وهم يدركون ذلك.

بل إن قدرة الجيش الأميركي على اتباع تلك الأوامر أمر مثير للدهشة وذلك مقارنة بالموقف المشابه الذي تعرضت له الدولة المجاورة للولايات المتحدة ذات الشعبية العالمية الواسعة في التسعينات من القرن الماضي. فعلى خلاف الولايات المتحدة، تعتمد سياسة كندا الخارجية على نحو أقل على الغزو، وتميل إلى حفظ السلام. ولكن حتى هوية السياسة الخارجية تلك لم تتمكن من تقييد الثقافة العسكرية لجنودها. فقد تعرضت مهمة حفظ السلام في الصومال - التي كانت تتكون بأكملها من الجنود - لانتقادات واسعة بعدما تم الإعلان عن تعرض اثنين من المدنيين الصوماليين للقتل وتعذيب أحدهما حتى الموت على يد أعضاء من القوات الجوية بالبلاد. بل وقام الجنود بالتقاط صور تشبه صور أبو غريب لتسجيل عنف أفعالهم.

وعلى الرغم من أن هذه المقارنة لا تهدف إلى القول بأن الثقافة العسكرية تؤدي بالضرورة إلى التعذيب فإنها ترغب في أن توضح أن الجنود تم تدريبهم على العنف. وبالتالي فإن وضعهم في موقف خطر ومنعهم من استخدام القوة هو أمر منافٍ تماما للتدريب الذي حصلوا عليه، وبالتالي فلا يجب أن يندهش أحد من عدم تأييد الجنود لاستراتيجية مكافحة التمرد الحالية؛ فهم كجنود مهرة، لم يتم تدريبهم على التفكير على ذلك النحو؛ بل تم تدريبهم على أن ينظروا لأنفسهم باعتبارهم جزءا من وحدة أكبر. فإذا ما طلبت من أي جندي أن يصف فرقته فسوف تجد أن اللغة التي يستخدمها تعكس نوع الرابطة التي تربطه بها ولا تجدها إلا بين أفراد الأسرة الواحدة؛ فهم يطلقون على بعضهم البعض إخوة وأخوات كما أن السبب الذي يجعلهم دائما على استعداد للموت في الحرب ليس له علاقة في أغلب الأحوال بالتعريف السياسي للنصر بل له علاقة بالتعريف العسكري للجندي، بما في ذلك قدرته على حماية «إخوته».

والآن، بما أن استراتيجية مكافحة التمرد تتلقى كل ذلك القدر من الاهتمام، فإنها ليست فقط اللحظة الملائمة لتقييم ما يمكن أن نعتبره نصرا في حرب غير تقليدية، بل إنها اللحظة الملائمة لتقييم ما إذا كانت ثقافة الجيش الحالية تلائم المهام المكلف بها الجنود أم لا. فإذا لم تكن ملائمة، فكيف نتوقع أن ينفذ الجنود هذه الاستراتيجية بأي قدر من النجاح؟

 

* بولا ميجيا محررة بـ«المجلة»

font change