الجزائريون يحتفون بذكرى المولد النبوي بطقوس خاصة

مناسبة يخصها عموم الجزائريين بتقاليد عريقة تضرب جذورها في عمق التاريخ

الجزائريون يحتفون بذكرى المولد النبوي بطقوس خاصة

* من أبرز العادات في هذه المناسبة ما يسميه السكان بـ«لوزيعة»، فبعد أن كانت هذه المناسبة مرتبطة بالأرض وبالماء، باتت الآن مرتبطة بقدوم المناسبات الدينية، ويقيمها البعض احتفالا برأس السنة الأمازيغية.
* يُعد طبق «الشخشوخة»، سلطان المائدة الجزائرية، حيث تقام الحفلات، ودعوة الأقارب والأهل والجيران، من أجل الاحتفال بتلك المناسبة.

 
الجزائر: على وقع أهازيج المديح النبوي التي يشدو بها الشيخ السعيد بوشعر، سليل قرية «أحمام» ببلدية «آيت تيزي» بأقصى شمال محافظة سطيف الجزائرية (400 كلم شرق العاصمة الجزائر)، التأم سكان القرية والقرى المجاورة لها للاحتفال بذكرى المولد النبوي، وهي المناسبة التي يخصها عموم الجزائريين بتقاليد عريقة تضرب جذورها في عمق التاريخ.
فالجزائريون الذين يحفظون عن ظهر قلب أغنية الفنان القدير المرحوم عبد الرحمان عزيز «زاد النبي وفرحنا به» يعتبرون المولد النبوي إحدى المناسبات الدينية التي يجب أن تخصّ بالاحتفاء باستذكار خصال الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بممارسة عادات وتقاليد تكرس قيم التسامح والتضامن والمساواة بينهم، ومن بين أبرز العادات التي تنتشر في هذه المناسبة خاصة في منطقة القبائل ما يسميه السكان بـ«لوزيعة» أو «ثيمشراط».
فبعد أن كانت هذه المناسبة مرتبطة بالأرض وبالماء، حيث كان السكان يتقربون إلى ربهم بذبح العجول والأبقار، وتوزيع لحومها على الفقراء طلبا للغيث، باتت الآن مرتبطة بقدوم المناسبات الدينية كعيد الفطر وليلة القدر، والمولد النبوي، ويقيمها البعض منهم احتفالا برأس السنة الأمازيغية الموافق للثاني عشر من يناير (كانون الثاني) من كل عام.
و«لوزيعة» هي عملية تضامنية يشارك فيها سكان كل قرية من القرى لشراء مجموعة من الذبائح توزع لحومها بالتساوي على كل سكان القرية.
ويكون شراء الذبائح بإشراف شيخ القرية الذي يسمى في منطقة القبائل «الشيخ نثادارث» أي شيخ القرية، وهذا الشيخ عبارة عن هيئة تقليدية مكونة من كبار القوم تعود لهم سلطة الأمر والنهي في كل ما يتصل بشؤون القرية وأمور سكانها الحياتية.
وتبدأ «لوزيعة» بإطلاق عملية التسجيل، ووفق عدد العائلات المسجلة يتم تحديد عدد رؤوس الماشية التي يتم شراؤها، وكلما زاد عدد المشتركين انخفض سعر حصة اللحم التي تتحصل عليها العائلات.
ويعهد للشباب والصبية بتحضير مكان النحر، فيخرجون إلى البراري لجلب أعشاب معروفة لا سيما أغصان أشجار «الرتمة» تغطى بها ساحة توزيع اللحم. وقد تغير الوضع الآن بسبب وجود بدائل للأعشاب ولتذليل التعب تغطى المساحة بقطعة أو قطع كبيرة من البلاستيك.



يتوضأ أمهر الذباحين ويجهز السكين ويختبره، فيما أقوياء القرية يسقطون الثور أرضا، وتتم عملية النحر بحضور حشد كبير من السكان، ويجلس الجميع في حلقة واسعة يجري وسطها توزيع اللحم، حيث توضع القطع واحدة واحدة حتى تشكل أكواما بعدد العائلات المعنية مصطفة بإحكام وسط الساحة.
ولأن النشاط تضامني واجتماعي بالدرجة الأولى، أكد القائمون على هذا النشاط بقرية أحمام التي زارتها «المجلة» أن كل «عائلات القرية يجب أن تأخذ حصتها، بما في ذلك العائلات الفقيرة التي لا تستطيع دفع قيمة الحصة، والتي يتولى محسنون عنها دفع ثمنها».
صابور آكلي وهو أحد أعيان القرية قال لـ«المجلة» إن «هذه المظاهرة هي إحياء لسنن وتقاليد الأجداد بخلق أجواء التضامن ما بين الفقراء والأغنياء، ففي هذا اليوم الجميع فقير وغني وجبتهم واحدة، هذه المظاهرة لديها طعم خاص، فهي تجمع بين الناس، جميع سكان القرية يحضرون، وهي فرصة حتى لمن لديهم خصومات ومشاكل فيما بينهم للصلح ولتسويتها، ونحن دائما نمارس هذه العادات في المواسم الدينية المختلفة، ودائما نحن نستمر في هذه التظاهرات ونستمر في إصلاح ذات بيننا وإصلاح مجتمعنا، نتشاور في أمور القرية ومشاكلها وفي كل ما يفيد المجتمع».
لوزيعة بالنسبة لـصابري العيد وهو أحد المنظمين لها، هي «عادة الأجداد ونريد أحياءها، وهذا هو العام الثاني الذي نقوم فيه بتنظيمها، هدفنا خلق أجواء الأخوة ودعم الفقير، وأن يلتقي الناس ويتصالحوا»، وكشف أن عدد العجول التي تم ذبحها بلغ ثلاثة عجول واستفاد من لحومها أكثر من 350 شخصا.
«المجلة» سألت عثمان معمري الأستاذ في علم الاجتماع والباحث في العادات القديمة عن تاريخ «لوزيعة» فقال ليس ثمة ما يدل على بداية هذه التظاهرة ولكن ارتباطها بمناسبات الأفراح يعطي الانطباع بأنها قديمة جدا وصارت عادة متأصلة عمرها قرون من الزمن، ولم يستبعد أن تكون بدايتها مع بداية التجمعات السكانية البربرية في العهود السحيقة. فالتقويم الأمازيغي في قرنه الثلاثين، وهو يسبق التقويم الميلادي بنحو عشرة قرون، و«لوزيعة» تمارس في هذه المناسبة.


وربما كانت من طقوس الأقدمين ممن عمروا شمال أفريقيا وتطورت مع تطور الزمن وصارت ميزة المناسبات الدينية الإسلامية. وما دفع الأستاذ معمري لهذا الاستنتاج كون «لوزيعة» متأصلة خاصة في المناطق الناطقة بالأمازيغية في القبائل والأوراس ومنطقة بني ميزاب الصحراوية التي حافظت كلها على عادات غارقة في القدم.
وفي المناطق الأخرى يتميز الجزائريون بعادات تصاحب احتفالهم بذكرى المولد، ففي هذه المناسبة تتنوع الأطباق التقليدية، ويُعد طبق «الشخشوخة»، سلطان المائدة الجزائرية، حيث تقام الحفلات، ودعوة الأقارب والأهل والجيران، من أجل الاحتفال بتلك المناسبة، والتي تعتبر بالنسبة للعائلات الجزائرية فرصة لتجميع شمل الأحباب وتبادل الحديث ومن بين العادات والتقاليد التي لا تزال راسخة في التراث الجزائري، إقامة سهرة عائلية، تجتمع فيها الأسرة الكبيرة؛ لتناول وجبة العشاء، والتي تتكون عادة من «الشخشوخة»، ولحم الخروف الجبلي، وفي السهرة تتنوع المشروبات من «صينية القهوة» المصحوبة بالشاي والمكسرات، وطبق «الطمينة»، والتي تعتبر هدية للمسلمين في ليلة الاحتفال بمولد خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم.
وتبدأ الأهازيج والتغني بخصال النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعادة فإن العائلات تفضّل البقاء في البيت للتمتع بالمديح الديني، والذي تُقدمه فِرَق محلية، تغني الأندلسي، والعيساوة، حيث تتعالى الزغاريد، وتشعل الشموع، كما تنتشر في الشوارع الضيقة والمساجد رائحة البخور والعنبر؛ لجلب الخير والبركة على أهل البيت.
وتتواصل أفراح الجزائريين بتلك المناسبة حتى الفجر، حيث تُنظَّم حفلات خاصة بالشباب، وتُقدَّم من خلالها وصلات غنائية شبابية راقصة، وخلال السهرة يتم تقديم المشروبات الغازية والشاي، إلى جانب أطباق الحلويات التقليدية، منها: «المقروض»، وطبق «الزريرة»، والتي تتكون من الدقيق الناعم المحمص، ويضاف إليه العسل والزبد، وتحضر ساخنة، وتلك الأكلة عادة تقدَم للمرأة عند وضع حملها، وفي معتقدات العائلات الجزائرية، أن طبق «الزرير»، هو فرحة بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى جانب هذا يحتفل الصغار بالألعاب النارية، وزيارة الأقارب والمساجد فرحة بالمولد النبوي الشريف.
ويعد البخور أشهر عطر تفوح به بيوت الجزائريين ليلة المولد النبوي الشريف، حيث تقوم ربات البيوت بوضع عيدان البخور في كل زوايا البيت وهي روائح تجعل الشخص يحس بعمق بالمناسبة، في حين تفضل بعض العائلات إعداد صينية بخور تقليدية، يتم وضع الجمر فيها وذر البخور عليه، حيث تشع بدخان كثير ذي رائحة قوية، تنبعث رائحتها حتى نحو الخارج.
وتكتسي بيوت الجزائريين بحلة مشعة ومضيئة من الشموع ذات الأشكال والألوان المختلفة، حيث تنتشر في الزوايا وعلى الموائد لتضفي جوا بهيجا على المكان وعلى الجالسين الذين يفضلون غالبا بين الفينة والأخرى إشعال «عيدان النجوم المضيئة».


واحتفالات الجزائريين بمناسبة ميلاد النبي محمد تعود إلى سنة 691 هـجرية، حين أصدر السلطان الناصر لدين الله، أبو يعقوب المريني، الذي كان في المغرب الأقصى «المغرب حاليًا»، أوامر سلطانية جعلت المولد النبوي الشريف عيدًا رسميًا كعيدي الأضحى والفطر، ويعاقب كل من يمتنع عن ذلك.
تمسك الجزائريون بعاداتهم في إحياء هذه الذكرى، ولم يمنع هذا من بروز عادات دخيلة حذّر كثيرون من مخاطرها، ويتعلق الأمر بالاستعمال المفرط للألعاب النارية، فغالبا ما يفضل الشباب والأطفال الاحتفال في الشوارع إلى وقت متأخر من الليل، إذ تعتبر المفرقعات والألعاب النارية وبعض الألعاب المضيئة أشهر تقاليدهم التي يحيون بها المناسبة، ما دفع بكثير من الأئمة في الجزائر خلال خطبهم التي تسبق المناسبة، إلى التذكير بخطر الألعاب النارية، وأن الاحتفال بمولد خير الأنام يجب أن يكون بإحياء سنن الرسول وأخلاقه الكريمة، لكن تلك التحذيرات لم تمنع من تسجيل حوادث مؤلمة بسبب الألعاب النارية.



فليلة الاثنين التهبت حرب المفرقعات والألعاب النارية في الشوارع الجزائرية، إلى غاية الفجر، وتحولت الأماكن والأزقة الهادئة إلى ضجة عارمة تدوي فيها «الأبواق»، و«الصواريخ» و«الديناميت»، وهي أسماء تطلق على أنواع المفرقعات، وتضيء ظلمتها الألعاب النارية، لكن في غمرة هذا الاحتفال الجنوني دفع عشرات الأطفال والمراهقين الثمن بحروق بالغة وإصابات في العيون والأطراف تسببت في حالات عمى وبتر للأصابع، فضلا عن الحرائق التي طالت المنازل أو السيارات والحافلات، حيث تدخلت مصالح الحماية المدنية (الدفاع المدني) لإخماد أزيد من 13 حريقا عبر الوطن وكذا لإسعاف المواطنين.
وأوضحت مصالح الحماية المدنية في بيان لها، تسجيل وحداتها 13 حريقا عبر مختلف محافظات الجزائر، وقد مست النيران المندلعة في الغالب شرفات وغرف المنازل، الأشجار، والنخيل، والأحراش اليابسة، وكانت المفرقعات والألعاب النارية المتسبب الرئيسي فيها، لتتدخل وحداتها مباشرة عقب تلقيها نداءات الاستغاثة لإخماد النيران وإسعاف المصابين وإجلائهم للمستشفيات والوحدات الطبية لتلقي العناية الصحية اللازمة.
 

font change