هل تستطيع التجارة رسم خارطة جديدة للعالم؟

هل تستطيع التجارة رسم خارطة جديدة للعالم؟

[escenic_image id="55162361"]

قال الكاتب الأميركي الشهير مارك توين ذات مرة إن "الفارق بين الكلمة الصحيحة والكلمة شبه الصحيحة هو الفارق بين اليرق واليراعة". وذلك حيث تعاني المؤسسات متعددة الجوانب مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومعظم الحكومات حول العالم من مشكلة اليراعة. فهم ينظرون للعالم من خلال إطار "شبه صحيح" ويتجاهلون "الصحيح".

وتكمن المشكلة في الجغرافيا؛ حيث ترى معظم الحكومات والمؤسسات الدولية العالم من منظور الجغرافيا السياسية التي تفرض على الأذهان النظر إلى البلدان في نفس "المنطقة" أو الذين يتشاركون في اللغة أو التاريخ أو الثقافة كجزء من كتلة متماسكة. ونظرا لأن الجغرافيا التجارية ربما تكون أهم مؤشرات الدولة: إلى أين ومن أين تتدفق تجارتها واستثماراتها؟ فالجغرافيا التجارية للبلدان عادة ما تكون بعيدة للغاية عن الجغرافيا السياسية، كما أنها أدوات أقوى للتنبؤ بمستقبل البلد.

ولكي نقدم مثالا، فإن مستقبل النمو الاقتصادي للمملكة العربية السعودية ليس مرتبطا بمصر أو لبنان أو غزة، رغم أن تلك المناطق الثلاث هي التي تتصدر وسائل الإعلام العربية. ولكنه يتعلق بالصين والهند، اللتين لديهما أكبر معدل لاستهلاك البترول في المستقبل. وبالتالي فإنه لم يكن مصادفة أن يختار العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز الصين والهند كموقعين لأول زيارتين رسميتين يقوم بهما بعد اعتلائه العرش قبل خمس سنوات.

ويقسم البنك الدولي العالم إلى المناطق التالية: أفريقيا (جنوب الصحراء)، وشرق آسيا والمحيط الهادئ، وأوروبا ووسط آسيا، وأميركا اللاتينية والكاريبي، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وجنوب آسيا. وتستخدم وزارة الخارجية الأميركية إلى حد بعيد تصنيفات مشابهة. وإذا ما زرت أي بلد حول العالم فسوف تجد نفس التصنيفات، وتطلق الصين والهند على منطقة الشرق الأوسط "آسيا الغربية".

 

ما عيب تلك التصنيفات الإقليمية؟

إنها تقصر الأذهان على النظر إلى خارطة جغرافية سياسية للعالم وأنها غير قادرة على رصد الخارطة الأكثر أهمية للعالم وهي الخارطة التجارية الجغرافية للعالم. بل إن الخارطة الجغرافية التجارية للعالم في رأي كثير من الناس أكثر أهمية لأنها ترصد المال: التجارة وتدفق النقد في كافة أنحاء المناطق التي تدفع بالنمو العالمي ومراكمة الثروة داخل البلدان.

وتقدم منطقة وسط وشرق وشمال أفريقيا نموذجا جيدا لتجاهل القصة الأكثر أهمية. فالمنطقة المعروفة باسم الشرق الأوسط في أوساط البنك الدولي تتضمن دولا من المغرب على البحر المتوسط إلى عمان على البحر العربي. وعلى الرغم من أن ممثلي كل من عمان والمغرب يحضرون اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد في نفس القاعة، وعى الرغم من أن عضويتهما في الجامعة العربية تعكس الروابط الجغرافية السياسية التي تجمع بينهما، فإنها لا تجمع بينهما أي من روابط الجغرافيا التجارية. وذلك حيث إن جغرافيا المغرب التجارية هي أوروبا، فيما جغرافيا عمان التجارية هي آسيا.

وذلك ينطبق على معظم دول مجلس التعاون الخليجي. فهي دول غنية بالاعتماد على آسيا وأوروبا وإلى حد ما الولايات المتحدة؛ حيث إن كلا من تلك البلدان تعد من المشترين الرئيسيين لبضاعتهم الرئيسية وهي البترول.

وعلى الرغم من أن دول مجلس التعاون الخليجي جزء من الشرق الأوسط فإن ثرواتها لا تعتمد على الشرق الأوسط. فحتى العمالة التي يقومون باستيرادها يأتي معظمها من آسيا وليس من الشرق الأوسط. بل إن حجم التجارة البينية في منطقة الشرق الأوسط - رغم تزايده - ما زال يمثل خمس إجمالي الحجم التجاري للمنطقة. وذلك يعني أن 80% من تجارة الشرق الأوسط تأتي من خارج حدوده.

وتتجه تلك التجارة، على نحو متزايد، صوب آسيا. كما أن الرحلة من دبي إلى مومباي أقصر من الرحلة بين دبي والقاهرة. وتتجه معظم حاويات الشحن التي تخرج من موانئ منطقة مجلس التعاون الخليجي إلى آسيا وليس إلى موانئ الشرق الأوسط. وقد أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لمنطقة الشرق الأوسط، حتى أنها تقدمت على الولايات المتحدة. وإذا تعرض معدل النمو الصيني لتباطؤ كبير فإن معظم مصدري البترول حول العالم سوف يتأثرون، كما أنه سوف يعمل على تراجع الاستثمارات المستقبلية الكبرى التي يتم التخطيط لها في ظل الأفكار المتعلقة بالنمو الآسيوي.

ما سبب أهمية الجغرافيا التجارية؟ إنها مهمة لأنها تقدم نموذجا تنبؤيا أفضل لمستقبل المنطقة ككل ولكل دولة على حدة. فعندما تصبح أوروبا هرمة فإنها سوف تحتاج إلى مزيد من العمال الشباب. وهو ما سوف يقدم فرصة للهجرة من شمال أفريقيا إلى أوروبا الغربية، إذا ما سمح المناخ السياسي. وبالمثل، فعندما يتباطأ التعافي الاقتصادي فإن التجارة والسياحة التي تربط أوروبا بشمال أفريقيا سوف تتباطأ أيضا. وهو ما سوف يضيف المزيد من ضغوط الهجرة غير الشرعية للشباب من شمال أفريقيا على السواحل الأوروبية.

ولكي نراهن على مستقبل الدول البترولية والغنية بالغاز في المنطقة يجب علينا أن ننظر إلى مستقبل نمو الطلب في العالم: الهند والصين. فيجب أن تكون الدول البترولية والغنية بالغاز قد تنفست الصعداء بعدما اطلعت على الأرقام الأخيرة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فسوف تشهد الصين والهند نموا كبيرا خلال العامين المقبلين.

وبالفعل ذكرت إدارة معلومات الطاقة الأميركية أن الصين والهند من المتوقع أن يصبحا من أكثر الاقتصادات نموا حتى عام 2030.

وبالنسبة للمكسيك ودول أميركا الوسطى والكاريبي، فإن تعرض الاقتصاد الأميركي للتباطؤ يعني تباطؤ اقتصاداتهم. ومع ذلك، فإنهم يحضرون اجتماعات أميركا اللاتينية - الكاريبي في البنك الدولي في الوقت الذي يجب عليهم فيه أن يصبحوا أكثر اهتماما بحضور اجتماعات مجلس الاحتياطي الأميركي، لأن تلك الاجتماعات لها عواقب كبرى على مستقبلهم.

وأخذا في الاعتبار تلك الجغرافيا التجارية المختلفة، فإننا يمكن أن نأتي بتصنيفات أفضل مثل الشرق الأوسط الآسيوي، أو أوروبا - وسط أفريقيا. وعندما نبدأ في النظر للعالم من منطلق الجغرافيا التجارية، فإننا سوف نبدأ في رؤية الأبعاد الأمنية والدبلوماسية التي لا تكون دائما واضحة من منطلق الجغرافيا السياسية.

ومع ذلك فإن الجماعات الإرهابية الدولية في باكستان أو أفغانستان سوف تنظر على الأرجح إلى دول الخليج باعتبارها مركزا إقليميا أو مناطق مستهدفة. وفي النهاية، فإن انتقال سفينة من كراتشي إلى ميناء دبي هو انتقال سهل.

وعلى مستوى جيو سياسي أوسع، فإن تزايد اعتماد الصين على إمدادات البترول من الخليج العربي يرجح أنها سوف تتخذ موقفا متشددا بشأن أي محاولة من قبل إيران لإغلاق مضيق هرمز في حالة دخولها في مواجهة مع الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن البحرية الأميركية ما زالت هي شرطي الخليج، فإن الصين لن يكون لديها صبر على أي دولة أو أي طرف يهدد إمدادات البترول التي تغذي نموها الاقتصادي.

 

ماذا عن أفريقيا؟

تلعب الصين دورا متزايدا في مستقبل النمو الأفريقي. وذلك حيث يمثل شراؤها للبضائع الأفريقية واستثماراتها الكبرى في البنية التحتية الأفريقية - لكي تتمكن من الحصول على تلك البضائع ونقلها للأسواق الصينية على نحو أسهل - العامل الأكبر فيما ينظر إليه باعتباره قصة النمو الأفريقي. وبالتالي يجب على كافة المؤسسات التنموية الكبرى أن يكون لديها مكتب "صيني - أفريقي" (وليس فقط فريق عمل أو أفرادا يعدون أبحاثا موسمية حول تلك القضية). وذلك نظرا لتزايد الدور الذي تلعبه الصين في رسم مستقبل أفريقيا سواء كان ذلك جيدا أم سيئا.

إن البيروقراطيين يتسمون بالعناد؛ فهم لا يحبون التغيير، ويميلون للعمل داخل الجغرافيا السياسية ولكنهم إذا لم يبدأوا التفكير على نطاق أوسع من منطلق الجغرافيا التجارية فإنهم سوف يستمرون في جعل العالم "شبه صحيح".

 

*أفشين مولافي - زميل بمركز الأبحاث غير الحزبي "مؤسسة أميركا الجديدة"، نشرت أعماله في عشرات المطبوعات من "فورين افيرز" إلى "نيويورك تايمز" و"الفايننشيال تايمز".

font change