لغز طالبان بين ميدان الحرب وقاعات التفاوض

لغز طالبان بين ميدان الحرب وقاعات التفاوض

[escenic_image id="55194238"]

هرات: لم يكن من المرجح أن يصبح الملا كريم عضوا مناسبا في حركة طالبان. لقد تخلى عضو الحركة غير المنتمي إليها آيديولوجيا عن سلاح كلاشينكوف الذي كان يحمله وترك الجهاد ضد الكفار بمجرد أن سمع أن الميزانية الأميركية المحددة لجهود المصالحة في الطريق. بعد تسليمه أسلحته وحصوله على العفو، أصبح واحدا من بين نحو 2000 مقاتل من طالبان يتجهون إلى شوارع تكتنفها الأشجار في أقل مدينة أفغانية مزقها الصراع منذ بداية مشروع المصالحة عام 2005. في منطقة زركوه الجبلية، التي لم يطأها هو وفرقته المكونة من 30 رجلا منذ أعوام طويلة، ترك خلفه زوجته الأولى من أجل الزواج بأخرى أكثر رقيا في هرات. وتراءت له حياة جديدة.

حسنا، ليس تماما، فبعد ستة أشهر من عودته إلى الحياة المدنية، لم يتحقق للملا كريم سوى القليل من الدعم الذي وعد به. ولم يحصل على منزل في وسط هرات، المكان الوحيد الذي يشعر فيه بالأمان الكافي للهرب من انتقام زملائه القدامى الذين أثارتهم خيانته. وكذلك لم يحصل على الوظيفة المدنية ذات الراتب الكبير الذي يدعي أنه تلقى وعدا بالحصول عليها، ولا معاش شهري أيضا. كل ما حصل عليه هو مبلغ 2000 دولار دفعة واحدة لقطع علاقته مع حركة طالبان. وبعد أن تخلى عن سلاحه ونال كراهية رفاقه القدامى، أصبح الملا كريم في أمان، يتجول في وسط هرات في الصباح مع زملاء سابقين ويفكر مليا في خياراته القليلة. فيشكو قائلا: «لا يمكننا أن نفعل أي شيء الآن. لقد أقسموا لنا على المصحف، وكذبوا علينا».

 

استراتيجية المصالحة

إذن ماذا حدث للأموال الأميركية؟ في يناير (كانون الثاني) عام 2010، كشفت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما عن جزء من استراتيجيتها للمصالحة، التي تضمنت الفصل بين المقاتلين المتشددين أصحاب الآيديولوجية ومن سماهم وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس في ذلك الوقت «الجنود الذين يقاتلون لصالح طالبان من أجل المال، أو بسبب تخويف الحركة لعائلاتهم». وتبنت استراتيجية البنتاغون مرحلة إعادة اندماج يمكن من خلالها نزع سلاح المقاتلين وعودتهم إلى المجتمع، ومصالحة حيث يسوي قادة طالبان والحكومة الأفغانية خلافاتهما ويبحثون عن وسيلة للتعايش.

تسارعت وتيرة عملية المصالحة مؤخرا. واعترف الرئيس حميد كرزاي في الشهر الماضي على الـ«سي إن إن» أنه كان يتباحث «في بعض الأحيان» مع قادة طالبان. وقد شكل مجلس سلام رسمي مكون من 60 عضوا يجمع بين صفوفه سماسرة قوى سابقين، ولكن أنكر المتمردون ذلك على الفور. وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أقيم عدد من المباحثات التمهيدية في فندق سيرينيا المحاط بإجراءات أمنية مشددة في وسط مدينة كابل، بتنظيم من معهد إيست وست للأبحاث الذي يتخذ مقرا له في بروكسل، وحكومة أبوظبي. وكانت مباحثات مشابهة قد أجريت عام 2009، عندما استضافت المملكة العربية السعودية إفطارا يجمع بين ممثلي طالبان.

و تحدث أشخاص مُطّلعون على المباحثات إلى «المجلة» عن شعورهم البالغ بالإحباط بسبب الدور المفسد الذي تؤديه باكستان، وكشفوا عن أن الصيغة الحالية للمفاوضات توصف بـ«الشد والجذب» كوسيلة للتخلص من نفوذ إسلام آباد. لقد تم تقديم مزيج من الحوافز والعقوبات لطالبان من شأنها أن تقنعها بالتخلي عن دعم باكستان والخروج من ميدان المعركة. ووفقا للخطة الموضوعة، يلحق الناتو هزائم عسكرية بطالبان، مما يدفع مقاتليها نحو الحوافز الجيدة التي تقدمها الحكومة للانضمام إلى العملية السياسية. وكان الهدف من وراء المزيد من مهمات العمليات الخاصة داخل الأراضي الباكستانية في الشهور الأخيرة ممارسة ضغوط على باكستان وإقناعها برفض توفير ملاذ لمقاتلي طالبان.

و صرح قائد القوات الأميركية في أفغانستان الجنرال بترايوس في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بأنه تم توفير طريق آمن لممثلين عن طالبان كانوا متجهين إلى كابل لإجراء مباحثات، وهو ما أكده مسؤولو الحكومة الأفغانية الذين سهلوا عملية تحركات طالبان من إقليم هلمند الذي دمرته الحرب إلى كابل.

ولكن رفضت طالبان مرارا وتكرارا التفاوض مع أي أحد بخلاف الأميركيين الذين، على الرغم من مباركتهم لهذه المباحثات، لا يشاركون فيها. ويرفض قادة طالبان حكومة كرزاي التي يعتبرونها غير شرعية. ولكنهم أيضا لن يتحدثوا مع الأميركيين إلا إذا تم الإعلان عن جدول زمني واضح للانسحاب. ومن جانبها، تطالب حكومة كرزاي بأن يسلم مقاتلو طالبان أسلحتهم وأن يقبلوا بالدستور كشرط مسبق للمباحثات، وهو الأمر غير المرجح؛ حيث تنتشر أنباء عن تجربة ما بعد تسليم الأسلحة لقادة مثل الملا كريم.

وبحثا عن إجابات عن كيف يمكن أن تكون الحكومة غافلة إلى هذه الدرجة عن وضع نموذج جيد لأعضاء طالبان المتطلعين إلى العودة إلى القطيع، توجهت إلى لجنة المصالحة في هرات، في فيلا مستقلة بيضاء تحيط بها جدران عالية وقضبان حديدية وحولها حراس مسلحون. في الداخل، كان يجلس محمد شريف مجددي مدير اللجنة وأحد أقارب أول رئيس لأفغانستان بعد مغادرة السوفيات.

قال مجددي: «نحن نؤيد التفاوض مع طالبان حتى نستطيع أن نحقق السلام. وإذا كان هذا يعني منحهم بعض الوزارات أو المناصب في الحكومة فليكن الأمر كذلك». ويبدو مجددي في بعض الأحيان أكثر تعاطفا تجاه طالبان أكثر من الحكومة التي يمثلها. ولكنه تلقى كثيرا من التهديدات بالقتل وطُلب منه التنحي عن منصبه. وأحيانا ما يُظهر شعوره بالإحباط من حكومة كرزاي وميزانيته الشهرية الهزيلة التي تبلغ 50,000 أفغاني (ما يعادل 1000 دولار أميركي).

ويقول مجددي موضحا سبب عدم استطاعته الوفاء بالوعود لأشخاص مثل الملا كريم: «ليس لدينا ما نقدمه لهم (طالبان)، مواردنا ضعيفة للغاية. بخلاف ما نوفره لهم من غذاء وملبس وانتقالات إلى كابل، وتغطية نفقات إقامتهم في مكتبنا هناك، لا يمكننا أن نقدم المزيد مثل الأراضي أو المرتبات».

ويضم جزء من إعادة الاندماج تدريب منظمات مدنية لمقاتلي طالبان السابقين على ممارسة بعض المهن. ولكن لا توجد إشارة على اهتمام أعضاء بارزين في طالبان بالتخلي عن تحديهم في مقابل الوضع الراهن. ويقول سيد سليم شاه زاد، مؤلف كتاب «القاعدة: آيديولوجية واستراتيجية وتكتيكات»: «إن طالبان مهووسون بإحياء إمارات أفغانستان الإسلامية. والقبول بإعادتها سيلغي عقوبات الأمم المتحدة التي فرضت في نهاية التسعينات وإسقاط طالبان في 2001، مما يصل إلى درجة الهزيمة الكاملة للغرب في أفغانستان».

وتعد شورى كويتا وشبكة حقّاني من أكثر الجماعات المتمردة المستقرة في باكستان رفضا، ولكن توجد إشارة بسيطة على أنهم مشتركون في المباحثات الحالية. ومن بين مفاوضي طالبان الذين تم الكشف عن هويتهم الملا عبد السلام ضعيف، وهو سفير سابق في حكومة طالبان الذي سجن في غوانتانامو لمدة أربع سنوات بعد سقوط طالبان، وأصبح المسؤول الوحيد في الحركة الذي كتب مذكراته.

يقول داود مراديان، رئيس الدراسات الاستراتيجية في وزارة الشؤون الخارجية الأفغانية مشيرا إلى ممثلي طالبان: «إنهم ليسوا واقعيين، ولكن لديهم القدرة على توصيل الرسالة. يحتاج مقاتلو طالبان إلى الاقتناع بأنهم لن يسودوا ولن يفوزوا».

 

لغز طالبان

من غير المرجح أن ضعيف، الذي يخضع للحبس المنزلي والرقابة المشددة من قبل الأمن الحكومي الأفغاني، ما زال يستطيع الاتصال مع كبار قادة طالبان. ويبقى سؤال آخر عما إذا كانت القيادة المركزية ما زالت موجودة في تلك الحركة الإقليمية المنقسمة.

صرح مسؤول في الناتو اشترط عدم ذكر اسمه: بأنه «من المُحبط للغاية التفاوض مع كيان مثل طالبان لأنه ليس لديهم هيكل. بالإضافة إلى ذلك، يخشى كثير منهم كسر الغطاء لأنه قد ينتهي بهم الحال في قائمة المستهدفين».

وصرح سهيل سنجار، ناشر صحيفة «هاشتي صبح» اليومية التي تتخذ مقرا لها في كابل: «يوجد خلاف بين الجيل الجديد من قوات طالبان والجيل السابق. يرغب بعض من القادة السابقين مثل ضعيف ومتوكل في عقد اتفاق سلام، ولكن الجيل الجديد أكثر رفضا». وأضاف قائلا: «المشكلة هي أنه لا أحد يعرف تحديدا من هم هؤلاء الناس».

يتصل الجيل الجديد من طالبان جيدا بشبكة حقاني وهو على اتصال مباشر أيضا بجنود «القاعدة» في إقليم وزيرستان القبلي في باكستان. وأحيانا ما يتصرفون على نحو مستقل عن مجلس شورى كويتا. وفي حين أصبح حقيقيا وجود مستويات جديدة في القيادة، انحسر دور الملا عمر إلى كونه قائدا تقليديا يحظى بالاحترام وليس له سلطان على شؤون العمليات اليومية. وعلى الرغم من أنه ما زال يملك بعض النفوذ على القادة السابقين في قندهار وهلمند، فإن سلطته على الجهة الشرقية قد ضعفت.

يقول شاه زاد المحلل الباكستاني: «ستصبح طالبان أقوى بعد عشرة أعوام من المنفى السياسي، ولكن النجاح العسكري قد جعل منهم جيشا لطالبان الجديدة في مناطق باكستان القبلية، وهو ما سيساعدهم على قمع أي معارضة مسلحة في أفغانستان».

ومن الممكن أن يؤدي الفشل في الوصول إلى تسوية عبر المفاوضات مع طالبان إلى فتح الباب أمام تقسيم أفغانستان كما اقترح السفير الأميركي السابق لدى الهند روبرت بلاكويل. ووفقا للخطة، سيقبل الناتو بأن هزيمة المتمردين قضية خاسرة وسينسحب إلى ما وراء جدار فولاذي في ولاية باقية تسودها أغلبية من الطاجيك. وجنوب الحدود الجديدة ستظهر دولة بشتونستان المتمركزة حول قندهار.

وعلق سنجار، الناشر، قائلا: «إذا تم تقسيم أفغانستان، فسيُفتح الباب أمام تقسيم إيران، وباكستان، وبعض الدول الأخرى في وسط آسيا، بل وربما الصين، حيث يطالب البلوش والأوزباكيون والطاجيكيون والأتراك العرقيون باستقلالهم. وسيثير ذلك شبح التطرف الإسلامي الممتزج بالقومية، وسيهدد جميع دول ما بعد الاتحاد السوفياتي الضعيفة بالانهيار».

وعودة إلى الحشائش الطويلة وأشجار الصنوبر العالية، يقف الملا كريم مودعا. وقد قال إن مستقبله غامض، وإنه يشعر بأنه محاصر: حيث يراقبه جواسيس الحكومة ويكرهه رفاقه السابقون، وهو غير قادر على العودة إلى صفوف طالبان، ويفتقد إلى المصداقية والصلات التي تتيح له الحصول على وظيفة حكومية في مجال تخصصه الوحيد، الأمن. وقد أدرك أيضا إلى أي مدى تخترق الأموال الأميركية بلاده.

وقال: «تدور هذه الحرب حول الأموال الأجنبية. لقد استسلمت لأنني سمعت أن هناك ميزانية أميركية. وكنت عضوا في طالبان لأنني كنت أحصل على المال من القادة المحليين الذين كانوا يحصلون عليها من الاستخبارات الباكستانية، لذا يمكنهم أيضا الحصول على أموال من الأميركيين للاستمرار في محاربة التهديدات».

ويأمل مسؤولون أفغان في أن يتم الوصول إلى تسوية عبر التفاوض مع طالبان قريبا بعد بداية العام الفارسي الجديد في 21 مارس (آذار). ويقول مراديان، مسؤول وزارة الخارجية الأفغانية: «إذا بذلت المؤسسة الباكستانية جهودا مخلصة منسقة لإتمام المباحثات، من الممكن أن تتم العملية في غضون ثلاثة إلى ستة أشهر». وأضاف قائلا: «لن ينتهي الصراع الأفغاني، ولكننا سنرى تقدما كبيرا في إدماج مقاتلي طالبان في الحكومة بقبولهم الدستور الأفغاني وقطع علاقاتهم بالإرهاب الدولي».

أما بالنسبة للملا كريم، فتظهر الصورة المحلية على أنه ضحية لعرقه. لقد وصل إلى السلطة في ظل حكم طالبان بفضل تراثه البشتوني، وعاقبه الفاتحون الجدد من الطاجيك بمجرد أن تمت الإطاحة بطالبان.

ويقول مجددي، مدير لجنة المصالحة بهرات عن طالبان: «إنهم ليسوا حيوانات. وإذا توفرت لهم قدرة على أن يعيشوا ويحققوا دخلا، فسيعودوا إلى المدينة ويندمجوا مع الناس».

 

* اياسون اثاناسياديس - صحافي مقيم في إسطنبول. ويغطي أخبار تركيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطي. وهو منذ عام 1999، يعيش ما بين القاهرة ودمشق والدوحة وصنعاء وطهران. وقد عمل مراقبا انتخابيا على الانتخابات البرلمانية الأفغانية التي أجريت في سبتمبر (أيلول) الماضي.

font change