دمشق بعيون أهلها من الفنانين المعاصرين

دمشق بعيون أهلها من الفنانين المعاصرين

[escenic_image id="55176777"]

ثمة مدن تستدعي صورا متعددة بمجرد ذكر أسمائها. دمشق، على غرار باريس والبندقية، هي من ذلك النوع من المدن. ولا يوجد مكان آخر يبدو مشبعا بتلك الشبكة من القصص والأساطير مثل العاصمة السورية. وكواحدة من أقدم المدن في العالم، التي ترتبط أيضا بالنبي محمد، عليه الصلاة و السلام، زودت دمشق المقيمين والزوار بآبار المياه النقية، والحدائق المورقة، ونمط حياة هادئ وتقاليد غنية لصناعات يدوية. لقد كانت دمشق موضوعا للشعراء والكتاب حيث تمثل فانتازيا، وهدفا للرغبة والألغاز الأبدية. وكما قال الشاعر محمود درويش: «يا أيها المستحيل يسمونك الشام!».

وتلك الصورة النموذجية للمدينة هي أيضا الصورة التي تستشهد بها صناعة السياحة ونوع أدبي بكامله، والمحملة بسعي نوستالجي إلى «كنوز دمشق القديمة»، كما يصفها عنوان مذكرات طفولة سهام الترجمان. ويبدو العنوان الإنجليزي للكتاب «ابنة دمشق» بالمقارنة جافا للغاية ولا يحمل تلك الجاذبية الخاصة التي ما زالت تلك القصص تقدمها للجمهور. ويمكن لهذا التراث أن يدفع ببساطة الفنانين الشبان لتجنب الموضوع خوفا من تغذية نمط محدد أو غيره. ولكن على الرغم من أن دمشق ليست الموضوع الأكثر إلحاحا للفنانين الشبان في سورية، فقد قبل بعضهم التحدي وقدموا تصورهم الخاص عن مدينتهم في أعمال خالية من النوستالجيا تظهر جوانب جديدة ومدهشة لتلك الأرض.

وتعد التأثيرات المفارقة للخلفية المدنية هي المحور لمشاريع المصور ماهر سلمى. فسلسلة أعماله «واحد كيلومتر» استكشاف للبنى والوسائل التي تعمل على فصل الناس بدلا من جمعهم معا؛ حيث يجد كل فرد نفسه محبوسا في مكان محدود بحدود اصطناعية ومعزولا عن غيره من البشر. وتبدو رؤى سلمى لتلك الفضاءات المدنية المهجورة منعزلة، وداكنة بل وحتى عدائية، ويبدو أنها تقربنا من الأجواء الفنية للقصص القصيرة لزكريا تامر التي تمثل خلفية كابوسية لقصصه حول القمع والمؤثرات اللا إنسانية للقوة العشوائية. ويقدم ماهر سلمى دراسة حول استراتيجيات الانفصال التي تجعل المشاهد يشعر بالانزعاج الفوري، وتقف في تناقض واضح مع الرؤى المريحة للمعمار التقليدي الذي يرتبط في بعض الأحيان بدمشق.

ويعد الفيلم الوثائقي التجريبي «قبل الاختفاء» (2005) لجود غوراني استكشافا آخر للفجوة التي تفصل بين الحقيقة والآيديولوجيا. ويقدم صناع الفيلم رحلة تتبع نهر بردي من منبعه إلى مصبه وتؤرخ للناس والمجتمعات التي يعيشون بها إلى جانب النهر. ونحن نتتبع خلال الفيلم، الذي يبدأ من درس بالمدرسة يدرس فيه الأطفال مزايا النهر المعروف بنظافته وخصائصه المنعشة التي تقدم «الخصوبة، والجمال والمياه النقية والعزبة» إلى أهل المدينة، تيار ذلك النهر الشهير والمصير المحزن الذي آل إليه نظرا للتلوث والإهمال بشكل عام.

ويبدو المظهر المعاصر للنهر بعيدا كل البعد عن تاريخه، حيث أصبح نهر بردي اليوم على حافة الجفاف. وتمتاز اللغة السينمائية لغوراني بالرقة والحساسية، حيث إنها تمثل تتابعا من الصور الساكنة. ويستعرض الفيلم الجميل وغير الدرامي في الوقت ذاته الواقع من خلال تلك الصور الشاعرية. وكما يشير عنوانه، فإنه يمكن قراءته باعتباره آخر بادرة تكريم لنهر بردي قبل أن يختفي إلى الأبد.

وكذلك يستخدم حازم الحموي في فيلمه «دمشق» التناقض بين الواقع والمثالي. ففي تتابع من الصور، التي تبدأ من سكينة الخضرة، والحدائق والمياه والطيور المغردة، سرعان ما ينتقل المشاهد إلى عالم يزداد غرابة وإزعاجا حيث تتغير الألوان والبنى وتبدو غير متزنة. ويقدم الحموي دمشق - المكان الذي ربما تكون المظاهر به مضللة - بصورة مختلفة، حيث تظهر بعض العناصر المسالمة في بعض الأحيان لكي تتراجع أمام التشوهات مما لا يدع مكانا للراحة.

وبالاعتماد فقط على القوة البصرية لصوره واستبعاد أي عناصر سردية من عمله، يفصل الحموي مدينة دمشق عن غموض الأساطير المحيطة بها. ويسمح بإعادة تقديمها، والذي يمكن أن نشعر أنه شكل من أشكال التحرر من العبء التاريخي للقصص التي تتكرر بلا نهاية، للمشاهد بالاقتراب من جوهر المدينة. وهي صورة ما زالت تحمل قدرا كبيرا من السحر الموجود في الصور السابقة لها ولكنها تحمل في الوقت نفسه تحذيرا بألا نستغرق في أحلامنا في الحنين إلي الماضي.

وعبر وسائل مختلفة، تدعو جميع تلك الأعمال المشاهد للنظر إلى ما وراء الصور الاصطناعية للمدينة لكي نرى التناقضات في تقديمها كمدينة نموذجية وبين واقعها الحالي الأسوأ من جهة أخرى.

ولا تختلف دمشق عن غيرها من المدن الكبرى في العالم حيث المساعي التنموية والتلوث وزيادة السكان ما زالت مرتفعة. وفي بعض الأوقات، تبدو المسافة الآيديولوجية بين المدينة المتخيلة لدمشق وواقعها في القرن الحادي والعشرين شاسعة.

فقد أخذ الفنانون الثلاثة على عاتقهم عملية تحليل وتفكيك السرد والأساطير المحيطة بالمدينة ومن ثم تقديم رؤية جديدة لها. ففي أعمالهم، لم تعد دمشق المدينة الملغزة بأساطير الماضي الذي يبدو أجمل من أن تكون حقيقية. وبدلا من ذلك فإننا نقدم صورة أكثر صدقا للمدينة المعاصرة في ظل كافة الصراعات والتناقضات، صورة ربما تحبط هؤلاء الذين كانوا يبحثون عن «الأيام الخوالي» ولكنها في الحقيقة صورة أكثر حيوية من الفاتنازيا المكررة في العروض السابقة.

 

* شارلوت بانك - باحثة وكاتبة تعيش وتعمل بين برلين ودمشق. تركز أعمالها على الممارسات الثقافية والفنية المعاصرة في العالم العربي ومجتمعات الشتات. أشرفت على معارض فنية وأفلام وبرامج تلفزيونية في أوروبا والشرق الأوسط. وهي تنشر دائما في وسائل الإعلام الدولية سواء الإلكترونية أو غيرها

font change