سوريا والخليج بين السياسة والاقتصاد

المصالح الاقتصادية المشتركة المتوقعة بعد المصالحة بين دمشق وعواصم خليجية

سوريا والخليج بين السياسة والاقتصاد

* ليس خفياً وجود حسرة مزمنة لدى الحكم التركي الحالي (النيو-عثماني) على خسارة أجزاء مما كان يعرف سابقاً بالسلطنة العثمانية.
* خبراء لجنة الأمم المتحدة لغرب آسيا (الإسكوا): إجمالي حجم الأضرار التي لحقت برأس المال الطبيعي وتوزيعه في قطاعات الاقتصاد السوري نحو 388 مليار دولار.
* تشيع أجواء إيجابية في الأوساط الإعلامية العربية والخليجية والسورية حول إعادة ترميم البيت العربي. ولعل الاقتصاد مدخل مفيد للحفاظ على ما تبقى من وحدة هذا البيت!

جدة: لم يكن مشهد العناق الحار بين وزير خارجية البحرين، خالد بن أحمد آل خليفة، ووزير الخارجية السوري، وليد المعلم، في نيويورك أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، وكذلك افتتاح السفارتين الإماراتية والبحرينية في دمشق، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، والحديث عن عودة دمشق إلى الجامعة العربية، سوى انعكاس لمتغيرات سياسية وعسكرية وآيديولوجية. فقد فرزت منطقة الشرق الأوسط إلى محورين: الأول تتزعمه تركيا الإردوغانية، وقطر، ومجاميع الإخوان المسلمين الإرهابية، والحركات الجهادية التي خرجت من رحمها، مثل داعش، والنصرة، وحراس الدين، وغيرها من التنظيمات الجهادية، وبقايا حركات الإسلام السياسي. أما المحور الثاني، فهو محور الدول العربية المكافحة للإرهاب، الذي يضم السعودية، والإمارات، ومصر، والبحرين. 
وبين هذا وذاك، يعادي الحكم السوري القائم، وبشكل واضح، المحور الأول من حيث تجريم الإسلام السياسي (أصدر الرئيس الراحل حافظ الأسد القانون رقم 49 عام 1980 القاضي بتجريم جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية)، إلى جانب استعادة الخطاب المعادي للعثمانية الجديدة وتحالفها مع قطر. وتبقى الحالة الإيرانية معقدة، فهي تتحالف مع الحكم السوري من جانب، وتحتفظ بعلاقات في غاية الدفء مع قطر وتركيا لأسباب تتعلق بتشارك حقول الغاز مع الأولى، فيما تساعدها الثانية على الالتفاف على العقوبات الأميركية المرهقة.
ولكن أين يقع الاقتصاد في صلب كل هذا؟ وهل كان هناك صراع اقتصادي في قلب الأزمة السورية؟ وما المصالح الاقتصادية المشتركة التي يتوقع نشوؤها عن المصالحة السورية-الخليجية؟
 
مطامع نيو-عثمانية
ليس خفياً وجود حسرة مزمنة لدى الحكم التركي الحالي (النيو-عثماني) على خسارة أجزاء مما كان يعرف سابقاً بالسلطنة العثمانية، وتحديداً سوريا والعراق، والحديث سيكون مركزاً على سوريا. وتعود أسباب تلك الحسرة إلى 3 أمور، تتلخص في افتقار تركيا إلى مصادر الطاقة كالنفط المتوفر بكثرة في شرق الفرات، مع إثبات وجود الغاز بكميات هائلة على سواحل محافظة بانياس على المتوسط، إلى جانب المنافسة القوية للصناعة السورية التي ازدهرت في حلب ودمشق قبيل الأزمة السورية لنظيرتها التركية مع وجود سوق استهلاكية سورية ضخمة، وأخيراً الموقع الاستراتيجي لسوريا، الواصل بين أوروبا وأسواق الخليج العربي عبر البر.
ومن الأمور الدالة على ذلك، تفكيك مصانع المناطق الصناعية في حلب ونقلها إلى تركيا خلال السنوات الأولى للأزمة السورية بتسهيل من ضباط الجمارك والحدود الأتراك؛ رغم عدم علاقة ذلك بالصراع المسلح. ويبدو أن هناك أجندة تركية خفية، جرى تنفيذها عبر مجموعات مسلحة ذات ولاء تركي، لأسباب آيديولوجية أو عرقية، تهدف إلى تدمير البنية الصناعية السورية الشمالية. ولا يخفى أن الدور التركي في محافظة إدلب وريفها، لا يقتصر على نقاط المراقبة العسكرية وضبط الحدود، بل إن فروعاً للمصارف والجامعات والشركات والجمعيات الخيرية التركية، جرى افتتاحها منذ الغزو التركي لعفرين العام الماضي وبسط النفوذ على أجزاء من الشمال السوري، فيما تؤدى تحية العلم التركي في المدارس ويضبط الأمن الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا.
 
خسائر باهظة واقتصاد منهك
لا أرقام ثابتة أو حقيقية، يمكن الركون إليها بشكل قاطع لتحديد خسائر الاقتصاد السوري والأوضاع المالية السورية بعد 8 سنوات من الحروب الطاحنة للبشر والحجر، لكن لا يختلف اثنان على أن الخسائر هائلة وتحتاج إلى نحو عقد أو أكثر لترميمها.
فقد توصل خبراء لجنة الأمم المتحدة لغرب آسيا (الإسكوا) في أغسطس (آب) الماضي إلى أن تقييم إجمالي حجم الأضرار التي لحقت برأس المال الطبيعي وتوزيعه في قطاعات الاقتصاد نحو 388 مليار دولار.
وفي أواسط عام 2017، قدر البنك الدولي تكلفة إعادة الإعمار المدمرة في سوريا ما قيمته 226 مليار دولار، وهي قيمة الخسائر التي تكبدها الاقتصاد مع فقدان أكثر بقليل من نصف مليون وظيفة سنوياً بين 2011 و2015.
لكن دراسة مثيرة للجدل بأرقامها الكبيرة نشرت عام 2017، أعدها الباحث الدكتور عمار اليوسف المستشار في الحكومة السورية بأن الخسائر الحقيقية تصل إلى 1.17 تريليون دولار.
ليس هذا فحسب، فقد خسرت خزينة الدولة إيرادات تصدير النفط بقيمة 4.7 مليارات دولار وأصبحت سوريا مستورداً للقمح، بعدما كانت تنتج 3 ملايين طن من القمح سنوياً.
 
الليرة السورية.. الضحية الكبرى
قضت الحرب على الاحتياطي السوري من العملات الأجنبية بنحو 80 في المائة ليصل إلى أقل من ملياري دولار (أو أدنى من ذلك إلى نحو 700 مليون دولار) بعد أن كان قد وصل بداية عام 2011 إلى نحو 20 مليار دولار. ويسيطر البنك المركزي السوري على التحويلات النقدية الرسمية، فلا يسمح بتسلم التحويلات الأجنبية إلا بالليرة السورية، ويحتسب سعر الدولار أو العملات الأجنبية بقيمة أقل. فمثلاً يساوي الريال السعودي في السوق الحرة نحو 134 ليرة. لكن عند التحويل من السعودية إلى سوريا، فإن الريال يحتسب بنحو 111 ليرة فقط! ويبلغ حجم التحويلات من المغتربين السوريين حوالي 6 ملايين دولار يومياً، تساند الاستيراد والتجارة الخارجية بحدها المتاح.
وفقدت الليرة السورية نحو 90 في المائة من قيمتها، حيث كان الدولار في بداية الأزمة يساوي 50 ليرة، إلا أن الدولار ذاته صار يساوي في هذه الأيام 500 ليرة (في السوق الحرة). ولعل العملة الوطنية السورية هي الخاسر الأكبر، بعد الإنسان، في جميع جولات الحرب النارية وكذلك السياسية في حقبة ما بعد الحرب، حيث إن تلاشي قيمة العملة يرفع مستويات التضخم ويدمر المدخرات الشخصية لملايين السوريين.
 
تطبيع الاقتصاد... خليجياً
لعل أول بوادر عودة العلاقات بين الخليج ودمشق بعد الحلحلة الدبلوماسية الإماراتية-البحرينية، هي خطوة هيئة الطيران المدني الإماراتية في تقييم وضع مطار دمشق الدولي للبت في استئناف الرحلات من دبي وأبوظبي إلى دمشق. ومن المتوقع عودة تدفق الرحلات إلى دمشق، انطلاقاً من المزيد من المطارات الخليجية، علماً بأنها لم تنقطع عن الكويت والدوحة والشارقة ودبي وغيرها، ولكن من طرف واحد فقط عبر الخطوط السورية للطيران (حكومية) وأجنحة الشام (خاصة).
أما بالنسبة لتدفق الاستثمارات من جديد، فقد بدأت شركة كويتية منذ بضعة أشهر في تطوير مجمع سكني تجاري في منطقة يعفور بريف دمشق، وبدأ إجراء الحجوز لشراء منتجات المشروع. كما شاركت مجموعة شركات إماراتية (بصفة مستقلة) في نسخة 2018 من معرض دمشق الدولي. وتزود بعض الشركات السعودية والإماراتية إلى الآن السوق السورية بمجموعة من المستلزمات الحيوية، وهناك وكلاء لبعض الشركات السعودية، خاصة في قطاع المستلزمات الطبية والمنتجات الغذائية، يواصلون تعاملاتهم مع السوق السورية عبر بيروت. أما المنتجات الغذائية والزراعات السورية، فقد عادت للحضور مجدداً على رفوف متاجر السوبر ماركت الخليجية.
 
ماذا عن الاستثمارات القائمة؟
لم يجرِ إحصاء دقيق عن مصير الاستثمارات الخليجية في سوريا، حيث تحل الإمارات العربية المتحدة في المرتبة الأولى للمستثمرين العرب في سوريا بحجم استثمارات بلغ 20 مليار دولار، وتأتي قطر ثانية بعشرة مليارات دولار، ثم الكويت بنحو 8 مليارات دولار، والسعودية باستثمارات تبلغ 2.5 مليار دولار.
وقد تضررت المنشآت الاقتصادية جراء الحرب، فتوقفت حركة البنيان والاستثمار العقاري الخليجي منذ 2011 وحتى قبل بضعة أشهر. ولكن ظلت استثمارات القطاع المصرفي نشيطة، وبخاصة في دمشق ومدن الساحل التي لم تطلها الحرب. كما أن الاستثمارات السياحية في المناطق البعيدة عن المعارك والتي كانت تعمل قبل الأزمة استمرت في مزاولة نشاطاتها، وبخاصة في اللاذقية وطرطوس. وعدا عن استثمارات الشركات الحكومية أيضاً، يمتلك الأفراد الخليجيون مئات الألوف من العقارات والمزارع.
وهناك كثير من شركات الاستثمار المشترك، مثل الشركة السعودية-السورية للاستثمار التي تأسست عام 1976 المملوكة لوزارتي المالية السعودية والسورية، ولا تزال الشركة تمارس عملها في مجالات الغذاء والمفروشات وغيرهما.
بذكر أن آخر لقاء رسمي سعودي-سوري في دمشق، كان بين وزير المالية السعودي آنذاك الدكتور إبراهيم العساف (وزير الخارجية حالياً)، حيث التقى الرئيس السوري بشار الأسد ووقع الطرفان عقد تمويل سعودي لشبكة الكهرباء السورية بقيمة 100 مليون دولار في الأشهر الأولى للأزمة التي اندلعت في مارس (آذار) 2001.
 
فرص واعدة في إعادة الإعمار
تحسنت أرقام التصدير السورية لتنمو من 574 مليون دولار عام 2015 لتصل إلى نحو 700 مليون دولار عام 2017. لكن ميزان التجارة يميل لصالح الواردات، التي تشكل 86 في المائة. ولعل انخفاض قيمة العملة يفتح أبواباً للتصدير عبر ضخ المزيد من الاستثمار في القطاعات المنتجة ذات القيمة المضافة، بسبب رخص قيمة المنتج مع فتح الأسواق الخليجية والسورية بعضهما على بعض.
كل شيء في سوريا يحتاج إلى إعادة إعمار أو تأهيل؛ حتى في المناطق التي تبسط الدولة نفوذها عليها. هناك مناطق شاسعة مسواة بالأرض. عندما تزور دمشق الآن، ستجد أن الشوارع والمباني لم تخضع لعمليات تجديد منذ نحو 10 سنوات. وهناك مناطق صناعية وسكنية تنتظر تدفق المال وعودة عجلة الحياة. وإذا جرى ضخ بضعة مليارات، فإن السوق السورية ستكون متعطشة للمزيد.
يقول رجال أعمال سوريون تحدثت إليهم «المجلة» إن التفاؤل بعودة الحياة إلى العلاقات الدبلوماسية وخطوط النقل الجوي والبري مع دول الخليج، ستفتح فرصاً للمصدرين والمستوردين السوريين، وتعيد السوريين، اللاجئين والمقيمين بالخليج، والسياح السعوديين إلى سوريا لإنعاش الاقتصاد وتحسين واقع البلاد.
كما يتذكر سعوديون وكويتيون وإماراتيون أملاكهم في سوريا وما حل بها، ويتابعون بشتى الطرق الاطمئنان على مصيرها. يقول الكويتيون: «المال عديل الروح» أي أنه غالٍ وثمين.
 
موازنة الحضور الإيراني-التركي
إن أي انفتاح اقتصادي عربي على دمشق، سيعيد إلى الساحة السورية توازنات غابت عنها، فالنفوذان الاقتصاديان الإيراني والتركي، سيعودان إلى حجميهما الحقيقيين عند عودة الحضور الخليجي والعربي.
تقدم الحكومة الإيرانية خطوطاً ائتمانية بمليارات الدولارات لتمويل الواردات السورية. كما عقد الجانبان قبل أيام اتفاقية اقتصادية استراتيجية، تسهل الاستثمار والتبادل التجاري بين البلدين.
ستختفي سيطرة تركيا الاقتصادية على أجزاء من الشمال السوري عند توحيد سوريا، بحكم توقع استعادة الصراع السوري-التركي التقليدي، الذي يدور حول سلخ لواء إسكندرون العربي من سوريا، وجعله إقليماً تركياً تحت سلطة الأمر الواقع. فقد ألغت الحكومة السورية اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا عند بداية الأزمة السورية.
 
ماذا بعد؟
تشيع أجواء إيجابية في الأوساط الإعلامية العربية والخليجية والسورية حول إعادة ترميم البيت العربي. ولعل الاقتصاد مدخل مفيد للحفاظ على ما تبقى من وحدة هذا البيت!

 
 
font change