هل يعيد الربيع العربي تشكيل السياسة الخارجية التركية؟

هل يعيد الربيع العربي تشكيل السياسة الخارجية التركية؟

[caption id="attachment_55230523" align="aligncenter" width="620" caption="رجب طيب أردوغان"]رجب طيب أردوغان[/caption]

نجح طيب أردوغان في إعادة تنشيط دور تركيا في العالم. وكانت إعادة انتخابه في يونيو (حزيران) عام 2011 لفترة ثالثة في رئاسة الوزراء بعد احتفاظ حزب العدالة والتنمية بأغلبية مقاعد البرلمان إشارة إلى تحول تركيا من دولة يشكلها إلى حد كبير تراث أتاتورك إلى دولة يقودها حاليا حزب العدالة والتنمية والإسلام المعتدل المختلط بالعلمانية والديمقراطية.

في ظل قيادة أردوغان، حققت تركيا نهضة في العقد الماضي، وأصبح لديها حاليا سابع أكبر اقتصاد في العالم (مع وجود توقعات بأن تصل إلى أكبر عشر اقتصادات بحلول عام 2023). كما أنها حققت معدل نمو اقتصادي قوي وصل إلى 4.62 في المائة، وانخفض حجم الدين العام إلى 42 في المائة فقط من إجمالي الناتج المحلي، وارتفع حجم الصادرات من 35 مليار دولار أميركي عام 2000 إلى 134 مليار دولار عام 2010. وارتفع حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة من مليار دولار في التسعينيات إلى 10 مليارات دولار عام 2010. وعلى الصعيد السياسي، نفذ حزب العدالة والتنمية عددا من الإصلاحات السياسية التي تتضمن تقليص سلطة الجيش وتعزيز استقلال القضاء.

[caption id="attachment_55230524" align="alignleft" width="300" caption="أردوغان مع المشير طنطاوي خلال زيارته الى مصر"]أردوغان مع المشير طنطاوي خلال زيارته الى مصر[/caption]

جدير بالذكر أن نهضة أردوغان بتركيا جعلت من أنقرة قوة تجمع بين الغرب والشرق. كما تحولت تركيا من سياستها الكمالية من الميل نحو الغرب وعدم اهتمامها بالشرق الأوسط فيما عدا علاقاتها الثنائية القوية مع إسرائيل، وفي بعض الأحيان تنازعها مع جيرانها وبخاصة في قضية قبرص، إلى مفهوم جديد أعاد ظهور تركيا على الساحة الجغرافية السياسية. وتأكيدا على سياسة تصفير المشاكل مع الدول المجاورة والعمق الاستراتيجي، أعاد داود أوغلو وضع تركيا في مكانة أكثر ميلا إلى الشرق من الغرب فلسفيا، ولكنها استمرت أيضا في إقامة علاقات وثيقة مع الغرب.

كان رجب طيب أردوغان هو اختيار الجمهور لشخصية عام 2011 في مجلة «التايم». قبل أحداث الربيع العربي، حققت هذه السياسة الخارجية الجديدة نتيجة إيجابية إلى حد كبير، وأصبحت تركيا حاليا لاعبا إقليميا نشطا. لقد أعادت ضبط علاقاتها مع الدول المجاورة، وأقامت صلات قوية بكل من طهران ودمشق، في حين أنها حسنت علاقاتها مع موسكو. وعلى جانب العمق الاستراتيجي، لعبت أنقرة دورا قويا كوسيط إقليمي، حيث تفاوضت من أجل السلام الهش منذ انسحاب سوريا من لبنان عام 2005، وتوسطت في عدة مسارات في الصراع العربي الإسرائيلي: المفاوضات الإسرائيلية - السورية حتى عام 2008، ومباحثات المصالحة بين حماس وفتح. وحاول أردوغان التدخل في المفاوضات حول برنامج إيران النووي بتقديم اقتراح في مايو (أيار) عام 2010، حول المشاركة في الوقود النووي، ولكن واجه هذا الاقتراح معارضة قوية من الولايات المتحدة. وأصبحت أنقرة صديقة للكثيرين في الشرق الأوسط نتيجة إقامة علاقات مع كل من أصحاب السلطة وفي الوقت ذاته التواصل مع حركات المعارضة الإسلامية في المنطقة، وأهمها حماس وحزب الله.

حقق انفصال أردوغان عن إسرائيل نتيجة للحرب الإسرائيلية على غزة عام 2009 والاعتداء على قافلة المساعدات المتجهة إلى غزة عام 2010 شعبية كبيرة لرئيس الوزراء التركي بين الجماهير في الشرق الأوسط على الرغم من أن تركيا ما زالت تعتبر إسرائيل أحد أكبر شركائها التجاريين. تسبب هذا الخلاف في تعقيد العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، ولكن قاوم أوباما الدعوات الجمهورية المطالبة بإبعاد الولايات المتحدة عن تركيا. جدير بالذكر أن أوباما اتخذ من أنقرة أول عاصمة يزورها في المنطقة بعد إعادة انتخابه، ويعترف الرئيس الأميركي بأهمية تركيا الاستراتيجية في المنطقة.

قبل انطلاق أحداث الربيع العربي، نجحت تركيا في إعادة تحديد مكانتها دون أي خسائر كبيرة في تحالفاتها الرئيسية فيما عدا تدهور علاقاتها مع إسرائيل. وفي حين يشير معارضو أردوغان إلى سياسته الخارجية بأنها «عثمانية جديدة»، فإنه في العموم يرحب الغرب والشرق بدور تركيا الجديد، كما أن مرونتها الاستراتيجية جعلت من الممكن استقبال أردوغان بترحيب شديد في كل من طهران وواشنطن.

ولكن غيّر الربيع العربي من الساحة الجغرافية السياسية لتركيا ووضع أمامها عددا من التحديات الجديدة. اضطربت علاقات تركيا مع جيرانها مرة أخرى، بعد أن تدهورت الصلات مع سوريا وإيران وروسيا. ويشير تقرير مهم صدر عن تشاثام هاوس كتبه فادي هاكورا إلى أنه ينبغي على تركيا الآن الاختيار بين الأطراف في الشرق الأوسط، وعلى الرغم من تمكنها في السابق من الإبقاء على علاقات جيدة مع الجميع، فإنها الآن لا تملك تلك الرفاهية. وربما ينتج عن هذا خسارة أنقرة لنفوذها في المنطقة بناء على كيفية تطور الأحداث في الشرق الأوسط.

[caption id="attachment_55230525" align="alignright" width="300" caption="اردوغان يستقبل رئيس حزب حركة النهضة التونسي راشد الغنوشي في مكتبه الرسمي في قصر دولمة باهجة في اسطنبول"]اردوغان يستقبل رئيس حزب حركة النهضة التونسي راشد الغنوشي في مكتبه الرسمي في قصر دولمة باهجة في اسطنبول[/caption]

ازداد تعقيد عملية العمق الاستراتيجي التي اتبعتها أنقرة بسبب ارتفاع عدد الأصوات الجديدة في المنطقة. برزت أنقرة في الشرق الأوسط، الذي كانت فيه تركيا الدولة الديمقراطية الوحيدة ذات الهوية الإسلامية والعلمانية، وسط منطقة تسودها أنظمة علمانية قومية شمولية. ولكن في حين حقق النموذج التركي للديمقراطية شعبية كبيرة لأنقرة بين الحركات الشبابية والإسلامية من صنعاء إلى تونس - الذين يرون في نجاح الديمقراطية التركية مسارا يحتذى به - قد تصبح تركيا قريبا واحدة من بين عدة أصوات في المنطقة، أبرزها القاهرة، تروج لنماذج مختلفة من الديمقراطية المحلية التي ترتبط قوتها الناعمة بعدد الدول التي ستتبنى هذا النموذج.

وعلى الرغم من تلك القضايا الاستراتيجية، فإن شعبية أردوغان في جميع أنحاء الشرق الأوسط لم تتأثر حتى الآن بسبب الربيع العربي. لقد كان واحدا من أوائل القادة الذين طالبوا مبارك بالرحيل، وبعد ذلك دعا القذافي والأسد أيضا للتنحي. وقوبلت زيارتاه إلى القاهرة وتونس العاصمة في سبتمبر (أيلول) بترحيب حاشد من الجماهير. وعلى الرغم من عدم اختيار محرر «التايم» له كشخصية عام 2011، فإن رجب طيب أردوغان كان اختيار الجمهور.

استفاد أردوغان أيضا من الربيع العربي فيما يتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة. فقد أصبح أردوغان قائدا لا يمكن الاستغناء عنه في المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة بفضل تأييده لعمليات الناتو في ليبيا، وتأكيده على الديمقراطية والإسلام والعلمانية، وضغطه على سوريا. لم يحظ عدد كبير من القادة الأجانب بمدة طويلة من المقابلات مع الرئيس أوباما كما فعل أردوغان، كما أنه في بداية الشهر الحالي، قام نائب الرئيس جوزيف بايدن بزيارة تركيا.

ووجدت جامعة الدول العربية أيضا في أردوغان حليفا مهما في محاولاتها لإنهاء العنف في سوريا. ودخلت حركة حماس في مباحثات مع أنقرة في إطار بحثها عن مقر جديد لها بديلا عن دمشق في حال استمرار تدهور الأوضاع في سوريا.

لذلك في الوقت الحالي، ما زالت أنقرة تحتل مكانة مؤثرة في الشرق الأوسط، وما زالت تحظى بتأييد شعبي كبير يتيح لها الاحتفاظ بهذا الدور حتى في ظل توتر علاقاتها مع دول الجوار. ولكن تواجه أنقرة شرق أوسط متغيرا لن يضمن استمرار الدور المحوري لتركيا، التي ظلت على الرغم من تاريخها وشعبيتها الراهنة على الأطراف سياسيا وجغرافيا إلى حد كبير منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية.

لن يجد أردوغان وداود أوغلو بُدا من تعديل سياستهما الخارجية لتتلاءم مع البيئة الجديدة. على الصعيد الاقتصادي، ستحافظ الصلات التجارية التركية القوية على ارتباطها بالشام وإيران، ولكن سيعتمد الأمر سياسيا على مدى نجاح أنقرة في بناء هذا النظام السياسي الجديد وتشكيله. لقد اتخذت أنقرة بداية صحيحة، وما زالت تحظى بأهمية بالغة، ولكن يعتمد نفوذها المستقبلي في الشرق الأوسط على حجم نجاحها في الاحتفاظ بهذه الأهمية.

أندرو بوين
font change