بالفيديو: السماع الصوفي يضيء ليالي سطيف الجزائرية

من الفنون الإنشادية المعروفة في شمال أفريقيا

بالفيديو: السماع الصوفي يضيء ليالي سطيف الجزائرية

* قدمت عدة فرق إنشادية على مدى أربعة أيام أجمل القصائد وامتزجت أصواتها العذبة بجمال وعمق المعاني
السماع الصوفي من الفنون الإنشادية المعروفة في العالم العربي، وهو مصطلح عربي استعمله الصوفيون للدلالة على الإنشاد الديني.

الجزائر: «ختامها مسك».. هكذا كانت الحفلة الختامية للمهرجان الدولي للسماع الصوفي الجمعة الماضي بمحافظة سطيف الجزائرية، حيث سما الأداء العربي المشترك للمنشدين السوري أحمد سليمان مدغمش، والمغربي محمد الزمراني، والتونسي يوسف الصفراوي، والجزائري عبد الجليل آخروف بأرواح الحاضرين في دار الثقافة هواري بومدين في سماء الإنشاد الروحي على وقع لوحة إنشادية رائعة عنوانها «طلع البدر علينا».

فخلال أربعة أيام تُمثل عمر المهرجان في طبعته السابعة، عاش سكان محافظة سطيف التي تبعد عن عاصمة البلاد بنحو 400 كلم شرقا، لحظات أنس وعشق في حضرة المحبوب، على وقع أجمل القصائد وأحلى الكلام في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم، والتغني بصفاته الحميدة، بمشاركة 12 فرقة للسماع الصوفي من داخل وخارج الجزائر.
ويُعدُ السماع الصوفي من الفنون الإنشادية المعروفة في العالم العربي خاصة في شمال أفريقيا، وهو مصطلح عربي استعمله الصوفيون للدلالة على الإنشاد الديني الذي يكون ضمن مجالسهم العلمية أو التعبدية، وبالأخص المولوية وأتباع الطريقة الجشتية في الهند، ويتضمن السماع عادة الدعاء والإنشاد الديني، وترديد الأذكار واسم الله، والالتفاف حول النفس عند المولوية.
ينسب وضع أوائل الألحان الموسيقية للسماع حسب بعض المصادر إلى السلطان ولد، بهاء الدين محمد، الابن الأكبر لجلال الدين الرومي، وتدور موضوعات الغناء الصوفي حول حب الله ورسوله، وقد كان السماع في البداية مصحوبًا بعزف الناي وإيقاع الطبول والدفوف فقط، ثم تطور ذلك في القرن التاسع عشر الميلادي لتنضم آلات جديدة كالقانون والطنبورة والكمان وغيرها من الآلات، كما بدأ موسيقيو المولوية في تدوين موسيقى السماع بغرض الحفاظ على تراثها.
وأشعار السماع، كما يرى الصوفية، هي «أشعار تحمل معاني رمزية لا يعرف كنهها وأسرار معانيها إلا من وصلت به النشوة إلى التجرّد من كلّ ما هو جسدي وتحللت روحه من كلّ ما هو مادي، وكلمات تحمل عبارات العشق والغزل والحب بكل مقاييسه وشدة الهيام ولوعة الفراق والحنين والشوق إلى رؤية الذات الإلهية».



وخلال الأربعة أيام، تداول على رُكح العروض عدة فرق إنشادية امتزجت أصواتها العذبة بجمال وعمق قصيدها، حيث كانت البداية مع المنشد السنغالي عمر النيان الذي أدخل الجمهور في حالة من الدفء الروحاني أنساه البرد القارس السائد خارج القاعة حيث اكتست الثلوج شوارع المدينة وأزقتها، من خلال أدائه لابتهالات رائعة بصوت عربي مميز على غرار«أهلا يا شهر المولد»، و«يا رسول الله للعالمين»، و«طبيبي»، و«كيليني» التي تعني باللغة العربية «ابتعدي عني»، ليختمها برائعة «طلع البدر علينا».
فرقة أشواق القادمة من بشار في الصحراء الجزائرية، بقيادة منشدها محمد شعيب، أمتعت الحاضرين بباقة متنوعة من الأناشيد الصوفية الممزوجة بطباع صحراوية ونايلية على غرار «الصلاة على رسول الله»، و«أولاد لجواد»، و«لميمة»، و«الصلاة على محمد شفيع الأمة».
المايسترو السوري أحمد سليمان المدغمش أمتع الحضور بفواصل وباقة من المدائح، رفقة بلبل مدينة قسنطينة الجزائرية عبد الجليل آخروف، الذي شدا «سبحان من صور حسنك»، في مدح الرسول، و«اللهم صل على المصطفى حبيبنا محمد عليه السلام».
المنشد التونسي يوسف الصفراوي صنع بمعية الفرقة الجزائرية إشراق بونة، ليلة استثنائية، بأدائهما المشترك لكثير من الأناشيد الصوفية المستلهمة من التراث المغاربي خلال ثاني سهرات المهرجان، على غرار «طلع البدر علينا»، و«يا عاشقين رسول الله».
وتواصل تناغم الألحان التونسية مع الأنغام الموسيقية الجزائرية في طابع صوفي مميز، دفع بكثير من النساء الحاضرات إلى مشاركة الثنائي«التونسي الجزائري» بزغاريد أضافت للآلات الموسيقية (الدف والبندير) التي وظفتها فرقة إشراق بونة حلاوة صوتية منقطعة النظير.
فرقة «إسكتا» القادمة من أقصى الجنوب الجزائري تمنراست أطربت الحاضرين بباقة من الأغاني الصوفية المستوحاة من التراث الأمازيغي الصحراوي تجلت جمالياتها الفنية من خلال تنوع الآلات الموسيقية المستعملة التي تجمع بين ما هو تقليدي وما هو عصري.
الطبعة السابعة إلى جانب السماع، شملت عدة جلسات فكرية نشطها الأديب نبيل غندوسي، علاوة على مداخلات للأستاذ ياسين بن عبيد من جامعة سطيف حول «دور الاستشراف في معالجة التصوف الإسلامي وإسهامات عبد الواحد يحيى في التعريف بالتصوف الإسلامي لغير المسلمين»، والدكتور سفيان زدادقة حول «السماع في عالم التصوف: السماع والموسيقى... قراءة في المصطلح والتشغيل لدى المتصوفة».
كما تزين بهو دار الثقافة بمعرض للفنون الإسلامية ضمن جناحين: الأول يضم 38 لوحة فنية للفنان التشكيلي محمد أكرور، خريج مدرسة الفنون الجميلة لسيدي بلعباس، تعبّر في مكنوناتها على كثير من الخواطر اللّارمزية، شبه التجريدية، وظّف فيها مبدعها شيئًا من الكتابة زادتها رونقا وبهاء.


أما الجناح الثاني الخاص بالحرف العربي، للمبدع الفنان، عبد الوهاب خنينف، من سطيف، فيتضمن 40 لوحة فنية لمختلف أنواع الخطوط على غرار الكلاسيكي، والكوفي، والثلث، والديواني، والمغاربي، وذلك بتوظيف الحرف كوسيلة تشكيلية.
كما تزّينت أجنحة المعرض بأربعة مصاحف مزخرفة يدوياً، بخطوط عربية متنوعة، يتكون المصحف الأول من 604 صفحات، استغرق إنجازه 8 سنوات، ومصحف ثان من 80 صفحة استغرق إنجازه 5 سنوات وبه زخرفة عند كل 15 حزبا أما المصحف الثالث فهو مكتوب بخط النسخ التركي واستغرقت مدة إنجازه 6 سنوات.
وأوضح محافظ المهرجان إدريس بوديبة لـ«المجلة» أن «هذه الفعالية الثقافية والفنية تعد جسرا ممتدا بين الجمهور والفرق المحلية والدولية، التي تقدم تنويعاتها في السماع الصوفي المعبر عن التعدد الفني داخل الوحدة الروحية للمجتمع العربي والإسلامي».
وكشف أن «السماع الصوفي بالجزائر عرف خلال السنوات الأخيرة انتشارا واسعا، وتحرر من احتكار وقبضة بعض النوادي والزوايا، فالجمهور لم يقتصر على الشيوخ وبعض المريدين بل امتد ليشمل كل فئات المجتمع من طلبة وباحثين وأساتذة جامعات، فضلا عن الجمهور العادي المتذوق للفن».
ويوجد في الجزائر كثير من الطرق الصوفيّة تتمركز فيما يعرف بـ«الزوايا»، والتي يتجاوز عددها في الجزائر 8900 زاوية، تتبع نحو 35 طريقة صوفية، وأحيانًا يدفن فيها الشيوخ القائمون على رعاية هذه الزوايا، وبعد مرور فترة يعتبر سكان المنطقة هذه الزوايا أضرحة تتم زيارتها من حين إلى آخر تبركاً بأصحابها.



وتعتبر مدينة بجاية من أكبر المدن الحاضنة للتصوف في الجزائر، ويرجع هذا لحلول كبار المتصوفة بها، فالشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي رحل من الأندلس إلى الجزائر وأقام في بجاية فترة قبل أن ينتقل إلى دمشق ليتوفى بها. كما حلّ الإمام الصوفي الشهير ابن سبعين في بجاية مدة واستقر بها بعد أن طرد من سبتة، لينتهي به الحال مستقرًا بمكة إلى وفاته.
ومنذ عهد الرئيس بوتفليقة الذي بدأ في 1999 فطنت حكومته إلى ضرورة استيعاب الصوفية وإعطائها مساحات أكبر للظهور وتأدية دورها في المجتمع. فساعدت الحكومة مشايخ الطرق الصوفية في ترميم الزوايا المنتشرة في البلاد لدعمها مرة أخرى بعد سنوات من التهميش لصالح السلفيين.

font change