القمة الرابعة... هل من جديد؟

سوتشي والأزمة السورية

القمة الرابعة... هل من جديد؟

* ليس صحيحاً أن القمة كانت معنية بالقضايا المطروحة على جدول أعمالها، بل كانت القضية الأبرز هي الوضع في إدلب في ظل تعثر الاتفاق الروسي التركي
* ثمة تفاهمات روسية-تركية، وأخرى روسية-إيرانية، وثالثة روسية–إسرائيلية، تحمل هذه التفاهمات الثنائية مواقف متعارضة مع بعضها البعض
* قد يصبح مصير مساري سوتشي وآستانه مثل مسار جنيف ما لم تتبن موسكو رؤى جديدة من خلال دعوة أطراف أخرى للمشاركة في مثل هذه المسارات

في الرابع عشر من فبراير (شباط) 2019 التقى الرؤساء: الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب إردوغان، والإيراني حسن روحاني، في قمتهم الرابعة في منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود، منذ انطلاقها في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 في إطار عملية آستانه لتسوية الأزمة السورية، وتحددت أجندتها في ثلاث قضايا رئيسية، وهي:
- الوضع في إدلب على خلفية تعثر تطبيق الاتفاق الروسي التركي على تشكيل منطقة منزوعة السلاح فيها.
- تداعيات القرار الأميركي المفاجئ في 20 ديسمبر 2018 بالانسحاب من سوريا، وبحث إجراءات منع انتشار الفوضى وعدم الاستقرار وفراغ القوة بعد خروج الأميركيين.
- إطلاق عمل اللجنة الدستورية السورية وذلك لاستكمال جهود التسوية السياسية في سوريا.
وفي خضم هذه القضايا الثلاث، جاءت المناقشات بين الرؤساء الثلاثة والتي خرجت ببيان ختامي لم يأت بجديد سوى في نقطتين: الأولى تتعلق بموقفهم من قرار الانسحاب الأميركي من سوريا، إذ اعتبروه خطوة لتعزيز الأمن والاستقرار. والثانية، تتعلق بالاتفاق على إجراء لقاء دولي جديد حول سوريا في العاصمة الكازاخية آستانه في أبريل (نيسان) 2019. في حين ظلت بقية البنود تكرارا لذات الفقرات والبنود التي سبق ذكرها في ختام اللقاءات التي جمعت الأطراف الثلاثة أو ممثليهم، وهو ما يدفعنا إلى القول بأن القراءة المتأنية لمخرجات قمة سوتشي في جولتها الرابعة لم تأت بجديد، وهو ما يمكن أن نرجعه إلى عاملين، هما:
1-           ليس صحيحا أن القمة كانت معنية بالقضايا الثلاث المطروحة على جدول أعمالها كما تحدث المسؤولون من الدول الثلاث، بل كانت القضية الأبرز في هذا اللقاء هي الوضع في إدلب في ظل تعثر الاتفاق الروسي التركي الموقع في 17 سبتمبر (أيلول) 2018. والذي كان يقضي بإقامة منطقة منزوعة السلاح بعرض يتراوح بين 15 إلى 20 كيلومترا على طول خط التماس، ابتداء من 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2018، حيث تتولى تركيا إخراج جميع الفصائل الجهادية مع نزع الأسلحة الثقيلة من دبابات وصواريخ ومدافع هاون التي بحوزة تلك الجماعات، على أن تقوم وحدات من الشرطة الروسية والتركية بمراقبة المنطقة منزوعة السلاح. إلا أن ثمة تلكؤ تركي في تنفيذ هذا الاتفاق، إذ إنه بعد مرور أكثر من أربعة أشهر من توقيعه لم تأخذ تركيا أي خطوات إيجابية في هذا الخصوص رغم اللقاءات المستمرة التي جمعت الطرفين سواء على مستوى القمة (كان آخرها لقاء الرئيسين الروسي والتركي يوم 23 يناير/ كانون الثاني 2019) أو على مستوى الوزراء المعنيين (كان أخرها لقاء وزيري الدفاع الروسي سيرغي شويغو، والتركي خلوصي أكار» في العاصمة التركية أنقرة قبيل القمة بثلاثة أيام أي في 12 فبراير 2019). كمحاولة من الطرفين للمساهمة- كما أشار إلى ذلك وزير الدفاع الروسي- في التوصل إلى تفاهمات حول المسائل الأساسية في سوريا، ويعني بها تحديدا أزمة إدلب، والتي ترفض روسيا كليا الموقف التركي الداعي إلى أن تأخير تنفيذ هذا الاتفاق لا يمكن اعتباره ذريعة لشن عملية عسكرية واسعة في المحافظة، وهو ما ترفضه موسكو كما عبر عن ذلك نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فرشينين، بقوله: «إن روسيا تعتبر إدلب جزءًا لا يتجزأ من الدولة والأراضي السورية، ولن نسمح بوجود محميات للإرهاب البغيض في سوريا»، موضحًا في الوقت ذاته طبيعة الاتفاق بشأنها، بأن: «إدلب هي آخر منطقة عاملة بين مناطق خفض التصعيد الأربع التي تم إنشاؤها عام 2017. وأننا اتفقنا منذ البداية بالنص على أن تدبير خفض التصعيد تدبير مؤقت، وهذا يعني أن لا أحد سيعترف بهذه المنطقة (إدلب) على هذا النحو إلى الأبد»، بمعنى أن اللقاء كان يهدف إلى تطبيع الوضع النهائي لمحافظة إدلب وهو ما لم يتم الاتفاق عليه بصورة قاطعة بين البلدين، وقد عبر عن ذلك الرئيس فلاديمير بوتين، بقوله عن «بؤرة الإرهاب في إدلب»، إنه «لا يمكن التسامح معها، ويجب اتخاذ إجراءات القضاء عليها». الأمر ذاته تكرر بالنسبة للجنة الدستورية السورية إذ لم يتوصل الأطراف إلى تفاهم بشأنها.



2-           حجم التباينات بين الدول الثلاث بشأن كثير من القضايا، بل يمكن القول إنه رغم وجود قمة تجمع البلدان الثلاثة لمناقشة الأزمة السورية وتطوراتها، فإن الواقع يشهد وجود مسارات ثنائية متقاطعة هي التي تناقش في جلسات مغلقة تلك الأوضاع، ويظل العامل المشترك في كل هذه المسارات هو الدور الروسي، إذ كما هو معلوم أن ثمة تفاهمات روسية-تركية، وأخرى روسية-إيرانية بالتوافق مع النظام السوري، وثالثة روسية–إسرائيلية، تحمل هذه التفاهمات الثنائية مواقف متعارضة مع بعضها البعض، منها على سبيل المثال الموقف الروسي من الضربات الإسرائيلية الأخيرة ضد الوجود الإيراني في سوريا على غرار ما جرى فجر الاثنين (21-1-2019) في محيط مطار دمشق الدولي، إذ لم يصدر رد فعل روسي حيال تلك الضربات إلا بعد ثلاثة أيام، بل البعض اعتبر أن إقدام إسرائيل على هذه الضربات لم يكن ليتم إلا بالحصول على الضوء الأخضر من روسيا. وبقطع النظر عن مدى صحة هذا القول فإن روسيا في موقف أكثر صعوبة في كيفية إدارة ملف المصالح المتعارضة بين حلفائها، فهل ستنجح موسكو في إقناع إسرائيل بوقف هذا التصعيد؟ بل هل يمكن لها أن تمنع حربا محتملة بين إيران وإسرائيل على الأرض السورية؟ الأمر ذاته يتكرر بل يزداد صعوبة مع الانسحاب الأميركي المتوقع من سوريا وما يترتب عليه من تزايد تعقيدات الأزمة وتشابكات أطرافها.
في ضوء هذين العاملين، يصبح التساؤل المطروح: ما هي المسارات المطروحة للأزمة السورية؟
ويجدر بنا الإشارة قبل الإجابة على هذا التساؤل إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي تزامن انعقاد قمة سوتشي مع قمة وارسو لأمن الشرق الأوسط، والتي واجهت هي الأخرى تحديات صعبة في الخروج برؤى أكثر توافقا بشأن القضايا المطروحة على جدول أعمالها وعلى رأسها التدخلات الإيرانية في شؤون المنطقة.
إذ إنه رغم تزامن انعقاد القمتين مع التباينات في جدول أعمالهما وكذلك في حجم المشاركة ومستواها، فإن ثمة عنصرا مشتركا يفسر عرقلة مخرجات القمتين، يتمثل فيما تحمله كل قمة من متناقضات بين المشاركين فيها، أو بمعنى أكثر دقة وجود مصالح متعارضة للأطراف المشاركة في هاتين القمتين. فكما سبقت الإشارة بالنسبة لقمة سوتشي تتعدد المصالح المتعارضة بين أطرافها رغم محدودية المشاركين (ثلاثة أطراف)، الأمر ذاته واجهته قمة وارسو رغم مشاركة (63) دولة، إذ ناقشت القمة الترتيبات المطلوب اتخاذها حيال تهديدات إيران لأمن المنطقة واستقرارها، في حين أن ثمة رؤى متباينة بين الولايات المتحدة صاحبة الدعوة لعقد القمة وبين الأطراف الأوروبية التي تتبنى وجهة نظر مغايرة لواشنطن في تعاملها تحديدا مع ملف البرنامج النووي الإيراني. صحيح أن ثمة توافقا أميركيا أوروبيا على دور طهران الواضح في دعمها للإرهاب وتمويلها للتنظيمات الإرهابية التي ترتكب جرائمها في كثير البلدان الأوروبية، إلا أنه من الصحيح كذلك أن الرؤية الأوروبية تتباين مع الرؤية الأميركية في كيفية معالجة الأزمة النووية وهو ما أشارت إليه صراحة المتحدثة باسم الخارجية البولندية إيفا سوفارا، بقولها: «تلتزم بولندا برؤية الاتحاد الأوروبي بشأن الاتفاق النووي مع إيران... نحن نتقاسم الرؤى مع الولايات المتحدة لكن لكل منا وجهة نظره»، وإن أكدت في الوقت ذاته على أن: «بلادها تتخذ موقفًا واضحًا إزاء ضرورة مواجهة التهديدات في الشرق الأوسط ومن بينها السلوك الإيراني».
ما نود الإشارة إليه أن التفاهمات بين الأطراف المشاركة في هذه اللقاءات تظل هي العنصر الحاسم في التوصل إلى اتفاقات تراعي مصالح جميع الأطراف بما يجعلها قابلة للتطبيق على أرض الواقع، وإلا ظلت حبرا على ورق، بل ربما تعيد الأوضاع إلى مراحل أكثر صعوبة في التعامل مع تعقيداتها، ويظل الاتفاق النووي الإيراني الموقع عام 2015 نموذجا في هذا الخصوص، إذ كان لتجاهل الإدارة الأميركية السابقة في عهد الرئيس باراك أوباما، للرؤى الخليجية بشأن السياسات الإيرانية في المنطقة والتي حذرت آنذاك من أن هذا الاتفاق يمنح طهران فرصة للاستمرار في سياستها التدخلية في شؤون دول المنطقة بل واستكمال برنامجها الصاروخي، قد أوصل التجاهل الأميركي الأوضاع في المنطقة إلى مزيد من التعقيد كما هو الحال في الأزمة السورية وكذلك اليمنية، بل تعثر العملية السياسية في كل من العراق ولبنان مع فشلهما في تشكيل حكومة تدير شؤون البلدين.



وعليه، يصبح من الأهمية بمكان النظر إلى الأزمة السورية وتعقيداتها في ضوء هذه التدخلات المستمرة من الأطراف كافة ذات المصالح المتعارضة، بل يزداد الأمر تعقيدا مع الانسحاب الأميركي المتوقع في أبريل القادم إذا ما تم تنفيذه. ومن ثم نكون إزاء ثلاثة مسارات للأزمة السورية على النحو الآتي:
الأول: استمرار الوضع على ما هو عليه، تشابك مصالح مختلف الأطراف وتعارضها بما يعطل أي حلول منتظرة للأزمة، في حين يظل الشعب السوري هو من يدفع الثمن.
الثاني: توصل الأطراف الرئيسية إلى تفاهمات تتعلق بترتيب الأوضاع على الأرض السورية وفقا لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة وذلك ما بعد الانسحاب الأميركي، وهو ما يعني التوصل إلى وضع دستور للدولة السورية يرسم مخرجات المرحلة الانتقالية وما بعدها وفقا لتوافق مختلف الأطراف السورية.
الثالث: تزداد الأمور تعقيدا في ظل تعنت مختلف الأطراف الفاعلة على الأرض السورية ويقصد بها تحديدا الدور التركي في شمال سوريا، والوجود الإيراني على الأرض السورية، والدور الإسرائيلي في تفاصيل الأزمة، بما قد يحول سوريا إلى ساحة حرب بين إيران وإسرائيل، تجر معها الأطراف المنغمسة إلى مستنقع يزداد البارود فيه اشتعالا بما قد يفاقم الأوضاع في المنطقة برمتها.
وتعطي المؤشرات الأولية أن مستقبل الأزمة السورية في المديين القصير والمتوسط مع المسار الأول وذلك في ضوء حالة الترقب التي تغلب على مواقف الأطراف كافة من ناحية، وفي ضوء الموقف الروسي كونه الفاعل الدولي الأكثر تواجدا في الأزمة وحرصه على عدم تصعيدها لأبعد من ذلك من ناحية أخرى، إذ يحاول قدر الإمكان ضبط تصرفات مختلف الأطراف وفقا لقواعد لعبة يرسمها مجددا في ظل التحولات التي قد تشهدها الأوضاع ما بعد القرار الأميركي بالانسحاب من سوريا خلال الأشهر المقبلة ومع تحركات الأطراف الإقليمية في بناء تحالفات جديدة على غرار قمة وارسو.
ولكن كل هذا يظل مرهونا بقدرة موسكو على ضبط أدوار مختلف الأطراف المنغمسة في الأزمة ذات المصالح المتعارضة، وهو ما يحتاج إلى تبني مقاربات جديدة بعيدة عن مسارات لم تعد تقدم جديدا، فقد يصبح مصير مساري سوتشي وآستانه على غرار مسار جنيف ما لم تتبن موسكو رؤى جديدة من خلال دعوة أطراف أخرى للمشاركة في مثل هذه المسارات ربما تسهم بدورها في حلحلة الأزمة من خلال تفكيك بعض تعقيداتها وتشابكاتها.
 

font change