العالم العربي بعد الربيع.. أزمة حرجة

العالم العربي بعد الربيع.. أزمة حرجة

[caption id="attachment_55233815" align="aligncenter" width="620" caption="ماذا بعد الثورة!"]ماذا بعد الثورة![/caption]

شهد العالم العربي عددا من التغيرات والصدمات منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، فلم يكن أبدا محصنا ضد لحظات التغيير، ولكن على الرغم من أن مثل تلك اللحظات، وإن كانت تمثل لحظات تغيير في وقت وقوعها، فقد أخفقت، في أغلب الأحوال، في أن يكون لها تأثير جذري على المنطقة.

يرى الأكاديمي المغربي عبد الله العروي أن تجربة العالم العربي يمكن تقسيمها إلى أربع مراحل منفصلة. المرحلة الأولى (1850 ـ 1914) وهي مرحلة النهضة، النهضة العربية، عندما حاول العالم العربي التحديث وتبني تكنولوجيات وابتكارات غربية. والمرحلة الثانية (1914 ـ 1950) والتي تمثل الصراع من أجل الاستقلال، حينما واجهت المنطقة انهيار الإمبراطورية العثمانية وبناء النظام الحديث للدولة في الشرق الأوسط تحت الحكم الاستعماري. والمرحلة الثالثة (1950 ـ 1967) التي مثلت «الحركة الاتحادية» حينما جاهد كل من الرئيس المصري جمال عبد الناصر وحزب البعث في سوريا من أجل إنشاء دولة وحدة عربية. والمرحلة الرابعة (بعد 1967)، وهي الفترة التي ينتهي عندها تحليل العروي، هي فترة «المأزق الأخلاقي» ــ البحث عن هوية جديدة بعد هزيمة الدولة القومية العربية في حربها ضد إسرائيل. وبالاعتماد على تحليل العروي، يقول فؤاد عجمي في «المأزق العربي» إن الفترة بعد عام 1973 امتازت بالصراع من أجل التخلص من الطابع الراديكالي الذي كان يسبغ السياسة العربية، وبناء نظام دولي مستقر في المنطقة.
وقد أسفر الربيع العربي في عام 2011 عن انهيار للنظام ــ أصبحت القوى التي ميزت النظام الإقليمي بعد عام 1973 مضطربة ــ وولد نظام إقليمي جديد في شوارع تونس، القاهرة، طرابلس، ودمشق. وما زال هذا النظام الجديد قيد التشكل بعد، ولفحص تطور هذا النظام ومساره أهمية قصوى، من أجل فهم تداعياته على مستقبل المنطقة.
وقد قدم العروي شهادته حول العالم العربي في اللحظة الحرجة التي مر بها في عام 1967.

استقرار الهيمنة

النظام الذي كان راسخا من قبل: الاستقرار السلطوي في الفترة من 1973 ــ 2011، بخلاف العالم العربي قبل 1967، تمكن النظام الإقليمي فيما بعد عام 1973 من احتمال العديد من العواصف التي تعرض لها. وكانت النتيجة هي الاستقرار، ولكنه استقرار قائم على الهيمنة السلطوية. وبنهاية العقد الأول من ذلك القرن، كان الاستقرار الذي دعمته تلك الأنظمة (المتحللة حاليا) هو ما شكل «النظام الإقليمي».
وكان قد تم عقد زواج مصلحة بين النظام الدولي ونظام الدويلات في الشرق الأوسط. فقد كان صناع السياسة في واشنطن، وباريس، ولندن، وموسكو، وبكين، والمصرفيون الدوليون في واشنطن، ونيويورك، يستطيعون الاعتماد على هذه الفضاءات السلطوية، في الحفاظ على الوضع الراهن لحماية مصالحهم المتعلقة بالبترول والأمن من دون التدخل في المجتمعات نفسها.
وعلى الرغم من أن الشرق الأوسط شهد ثورة في إيران عام 1979، إلا أنه لم يتعامل مع ذلك بجدية سوى عدد محدود من الزعماء السياسيين. وقد تم تجاهل الصحوات الديمقراطية الكبرى في أوروبا في الثمانينات والتسعينات باعتبارها حالات استثنائية خاصة بالغرب.

[caption id="attachment_55233806" align="alignleft" width="300" caption="بعد التخلص من نظام بن علي.. التونسيون يعودون الى الشوارع احتجاجا على تصاعد التطرف الديني"]بعد التخلص من نظام بن علي.. التونسيون يعودون الى الشوارع احتجاجا على تصاعد التطرف الديني [/caption]

وكان الزعماء يستندون عادة في شرعيتهم السلطوية إلى العقود التي قضتها المنطقة في الصراع القديم مع إسرائيل، والتهديدات الإرهابية، بالإضافة إلى إيران (الغول الرئيسي في المنطقة بعد عام 1979). وعلى الرغم من أن دولا مثل مصر كانت تعاني من مستوى كبير من الإخفاق المؤسسي وفقا لمعظم المعايير الدولية (أي تقرير لبرنامج التنمية التابع للأمم المتحدة خلال العقد الماضي، كان يشير إلى ذلك بوضوح)، استخدمت تلك الأنظمة جيوشها وأجهزة مخابراتها لاحتواء أي حركة معارضة.
وقد أكد العديد من المعلقين في المنطقة لسنوات عدة أن المنطقة سوف تصل إلى مرحلة الانهيار الداخلي في نهاية الأمر. حيث إن تلك البيئة المؤسسية المنهارة، لم يكن باستطاعتها الحفاظ على استمرارية أنظمة مثل أنظمة بن علي ومبارك إلى الأبد.
وعلى نحو مفاجئ، أثارت حادثة انتحار واحدة في تونس عاصفة في العالم العربي. وعلى الرغم من أن القومية العربية كان الزمن قد عفى عليها في المنطقة في أعقاب عام 1973، إلا أن الوحدة العربية قد بزغت على نحو مفاجئ على الجبهة السياسية بعد سقوط بن علي. وقد ساعد ذلك على تعزيز المعارضة التي كانت تجيش منذ فترة طويلة في البلدان العربية من سوريا إلى اليمن، والدفع بـ«الصحوة العربية» إلى الأمام.

القديم والجديد

عندما اجتاحت الثورات المنطقة عام 2011، سعى المعلقون المرموقون إلى تصويرها باعتبارها لحظة «الصحوة العربية» بعد عقود من القبول الخانع للأنظمة السلطوية الراسخة والمتحللة. وقد وصل العالم العربي على نحو ما إلى تلك اللحظة متأخرا، بعد نحو عشرين عاما من ميلاد الديمقراطيات الجديدة في شرق أوروبا مع سقوط حائط برلين.
فبدءا من السبعينات، اجتاحت عقود من المقاومة المنطقة، بدءا بظهور الإسلام السياسي كوسيلة للمعارضة في الفضاءات السلطوية من القاهرة إلى الجزائر. وبخلاف تلك المقاومة، تحمل الاضطرابات الحالية خصائص جيل الألفية. فقد كانت الوسيلة القديمة المختبرة من المقاومة التي تفضلها الجماعات الإسلامية تعتمد على التمرد والإرهاب لفتح الفضاء السياسي في العالم العربي.
والأكثر أهمية، هو أن الطرائق القديمة للمقاومة كانت تختلف لدى اليسار وحركات المعارضة القومية، الذين كانوا يعملون عادة في ظل الحكومات، حيث كانوا يمثلون المعارضة المصرح بها. ولم تكن أي من المعارضة المصرح بها أو المعارضة الإسلامية، قادرة على هز ركائز النظام السلطوي المتحلل في العقد الأول من الألفية.

وقد قام جيل الألفية الواعد ــ الذي يتحدر على نحو كبير من الطبقة الوسطى ــ بتنسيق الاحتجاجات في المدن الكبرى عبر شبكات التواصل الاجتماعي مثل «تويتر» و«فيس بوك»، وهو ما فاجأ أنظمتهم، فقد كان توقع الأنظمة لخروج «معارضة الأوضاع الراهنة» إلى الشوارع والمطالبة بالتغيير أمرا مختلفا لأنهم كانوا دائما على يقين من قدرتهم على الاحتواء عبر أشكال مختلفة من سياسة العصا والجزرة. ولكن تلك المرة كانت تمثل تحديا مختلفا للغاية، عندما طالب أشخاص غير متوقعين ـ الجيل المتعلم والأصغر ـ بتغيير الأوضاع الراهنة. وفي العديد من الثورات، لم تستطع الأنظمة تقديم أي مزايا تمكنها من الحفاظ على الأوضاع الراهنة.

ومن ثم، فإن الأنظمة القومية في شمال أفريقيا والمشرق كانت تواجه أزمة حقيقية في مواجهة تلك الموجات في بلدانها، حيث إن الزعماء السابقين مثل مبارك وبن علي اللذين كانت شرعيتهما تعتمد على التأييد الغامض لشعبيهما، وجدوا أنفسهم في موقف لم يمر به أي من سابقيهم.
وقد تحدث الدكتور سعد الدين إبراهيم، أحد كبار المفكرين المصريين اليساريين ومن الشخصيات المرموقة في المعارضة، حول تفرد تلك اللحظة من الصحوة العربية. فيقول الدكتور إبراهيم: «لقد كانت تلك اللحظة مثل يوم الحساب. بنفس الطريقة التي وصف بها القرآن الكريم تلك اللحظة، عندما يحتشد البشر كافة في مكان واحد، ولا يمكنك التعرف على أي أحد، فقط وجوه.. وجوه».
وإقرارا منه بالتأثير التحولي لجيل الألفية، يقول إبراهيم إننا «حتى نعطي الفضل لمن يستحقه، فإن ذلك الجيل الشاب كان أكثر ابتكارية وأكثر ذكاء منا عبر تسخيره التكنولوجيا لخدمة أغراضه. فقد اكتشف هؤلاء الشباب الأدوات التي لا تستطيع الحكومة مواجهتها».

[caption id="attachment_55233807" align="alignright" width="300" caption="ليبيا ما بعد القذافي.. اقتتال بين القبائل وبداية التقسيم"]ليبيا ما بعد القذافي.. اقتتال بين القبائل وبداية التقسيم[/caption]

أفكار جديدة

على الرغم من التغيرات المبدئية للأشخاص في قمة النظام، لم تتحقق الآيديولوجيا التي جاءت بها الثورات إلى حد كبير في الدول العربية. حيث لم تحل أنظمة ديمقراطية جديدة محل مبارك أو بن علي أو عبد الله صالح، بل وصلت إلى السلطة أنظمة هشة وسلطوية إلى حد كبير. فما زالت الهشاشة المؤسسية حاضرة هنا، وتمكنت الآليات السياسية القديمة من الهيمنة على جيل الألفية. فقد توصل التقرير السنوي لـ«فريدوم هاوس» في عام 2011 إلى أنه على الرغم من تلك التغيرات التي طرأت على العالم العربي، فإنه ما زال غير حر.
حيث ترزح كل من ليبيا وسوريا تحت وطأة الاضطرابات الداخلية. وهاتان الدولتان ـ وفقا لما يقال ـ غير مستقرتين، وأكثر عنفا وأكثر قمعا تجاه شعبيهما، من الدول التي كانت موجودة قبل الربيع العربي.
وإذا ما أخفقت تلك الأنظمة في معالجة المشكلات الاقتصادية الأساسية ومواجهة التحديات المؤسسية المصاحبة لمطالب التغيير الديمقراطي، سوف تهز المزيد من الاضطرابات المحلية النظام الإقليمي لمدة أطول.
وربما لا يكون تأثير الصحوات العربية مباشرا بقدر ما يتمنى العديد من المراقبين. ولكنه حطم الافتراضات الإقليمية والدولية التي ترى أن شعوب تلك الدول لا تحتاج إلى أن تدلو بدلوها في نظام حكمها، بالإضافة إلى أن استمرار الإخفاق في معالجة التحديات الاقتصادية والمؤسسية داخل تلك الدول سوف يدفع تلك الشعوب، بلا شك، مرة أخرى إلى الشوارع، وهو ليس إنجازا يستهان به.
ومما لا شك فيه أن الفضاء الداخلي في تلك البلدان سوف يشكل النظام الإقليمي أكثر من أي وقت سبق منذ توطيد دعائم السلطوية في السبعينات. وسوف يكون لذلك الفضاء أهمية بالنسبة لمستقبل الاستقرار والأمن في المنطقة.
لقد كانت هناك صحوة كبرى في شوارع العالم العربي. ومع ذلك ــ وبخلاف الوهج الثوري في 1967 ــ حاول عدد من المفكرين في العالم العربي أن يجدوا اتجاها ورؤية لمستقبل العالم العربي. يقول حازم صاغية، المحرر السياسي بصحيفة «الحياة» في حوار مع «نيويورك تايمز»: «في السابق، كان كل شيء يتم قصره على العوامل الخارجية: هل أنت موال أم مناهض لأميركا، ما هو دور إسرائيل.. إلخ. ولكن هذه الثورة مختلفة تماما».
حيث تحرك الأهداف قصيرة المدى الثورة في اللحظة الراهنة، من دون الأخذ في الاعتبار القضايا الأوسع المتعلقة بكيفية تشكيل تلك المجتمعات. فـ«تويتر» هو منتدى رائع لحشد الناس، ولكن محدودية مساحته التي لا تسع سوى 160 وحدة فقط لا تسمح بالترويج لرؤى أو توجهات.
كما أن المطالب بالحرية والديمقراطية والعدالة ــ كما روجت لها حركة الإخوان المسلمين أو اليسار الليبرالي في مصر أو المدونين في سوريا ــ هي مطالب منطقية، ولكنها لا تستطيع وحدها التغلب على الواقع المتجمد للمنطقة. حيث لا يمكن التغلب على الجمود المؤسسي والاقتصادي عبر الآيديولوجيا وحدها. فمن دون نظريات متماسكة، لن تتحقق أبدا رؤية الثورة للعالم العربي بعيدا عن ظلال السلطوية.

تراجع النفوذ الأميركي

قال هنري كيسنجر: «ليست لدي أي كوابيس محددة، ولكنني أستطيع تخيل تراجع دور الولايات المتحدة في المنطقة».
وعلى الرغم من مساعي أميركا الفاشلة للتفاوض على إنهاء النزاع العربي الإسرائيلي في أعقاب عام 1973، ظل النظام الإقليمي نفسه راسخا. فبعدما خرجت مصر من النزاع مع إسرائيل في عام 1979 وتم إعلان وقف إطلاق النار مع سوريا في عام 1975، لم تواجه إسرائيل أي تهديد حقيقي بحرب وشيكة مع جيرانها. وقد وفر ذلك النظام الإقليمي الذي كان راسخا في الفترة من 1973 وحتى 2011 المصالح الأميركية والأمن الإسرائيلي.
وحتى الصراعات الدموية في الشرق الأوسط ــ حرب إيران والعراق بعد الثورة الإيرانية في عام 1979 ــ أخفقت في تغيير توازن القوى في المنطقة. كما أخفقت محاولات القادة العرب ــ خاصة محاولة صدام حسين في الخليج في 1990 ــ في تغيير ذلك التوازن.

[caption id="attachment_55233808" align="alignleft" width="300" caption="مصر.. اضرابات واعتصامات واقتصاد في خطر"]مصر.. اضرابات واعتصامات واقتصاد في خطر[/caption]

وقد تركت التغيرات الأخيرة أيضا مساحة لنمو الطبقة الوسطى في مختلف دول العالم العربي، كما وفرت الفرصة للاستقرار والأمن على الرغم من الافتقار للديمقراطية. جدير بالذكر، أن النظام الإقليمي مكن دول الخليج من تطوير نماذج للتنمية الاقتصادية والتقدم في المنطقة. كما مكن الابتكار والريادة في دول الخليج الشرق الأوسط من أن يصبح مركزا للتجارة العالمية، وليس فقط مركزا لسوق الطاقة العالمية. وحتى رغم التوترات والحروب في المنطقة، ظلت دول الخليج إلى حد كبير مستقرة وآمنة.
كما أخفق الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، أكبر عمليات التدخل الخارجية في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية، في تحقيق الأحلام الكبرى لإدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن بإعادة ترتيب النظام الإقليمي للعالم العربي. فعلى الرغم من التوترات الطائفية والاقتتال، فقد تم احتواء الاضطرابات الداخلية العراقية داخل حدود العراق، على الأقل حتى الآن.
والأكثر أهمية، أن الزعماء الذين ظلوا لفترة طويلة في الحكم مثل الرئيس المصري السابق حسني مبارك كانوا يضمنون استمرار الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، كما أنهم كانوا يقولون إن أمن المنطقة يمكن الحفاظ عليه تماما على المستوى الإقليمي.
من جهة أخرى، أخفق التهديد الإرهابي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) ــ الذي قام به تنظيم القاعدة الدولي ــ في تغيير النظام الإقليمي أو إعادة تأسيس حضور مهم في الدول الرئيسية مثل العراق ومصر.
وقد غير الربيع العربي أساس ذلك النظام الإقليمي. فبدلا من الجيش، بدأ الشعب الآن في تحريك السياسة ومن المحتمل أن يشكل النظام الإقليمي.
وعلى الرغم من أن السياسة الإسلامية ليست ظاهرة جديدة في الشرق الأوسط، فلم يكن لدى الإسلاميين من قبل حزب سياسي رئيسي في السلطة (عدا في غزة ولفترة وجيزة في الجزائر). بيد أن الممارسات الديمقراطية المحدودة في تونس ومصر والمغرب قد حلت محل الأحزاب التي يرعاها الجيش، أو الأحزاب القومية، والعلمانية مع أشكال مختلفة من الإسلام السياسي. وعلى الرغم من أنه من المبكر للغاية أن نجزم بكيفية تغير السياسات الدولية، فسوف تتحرك تلك الدول، بلا شك، بعيدا عن حالتها السابقة في علاقتها مع إسرائيل والولايات المتحدة.

وبالطبع فإن ذلك التأثير يمكن الإحساس به على نحو أقوى في السياسات المحلية، ومن الطبيعي أن تتغير أيضا السياسات الخارجية لتلك الدول لكي تعكس على نحو أفضل الهوية الجديدة لتلك الأنظمة.
ومن المرجح أن تدفعهم تلك الصعوبات الاقتصادية على مستوى الدولة لأن يلعبوا بقواعد النظام الدولي، على الأقل إلى حد ما. كما لعب سابقوهم أيضا بمقتضى تلك القواعد. حيث إن النظام ممتد بما لا يسمح بتجاوزه، حتى وإن كان الجيل الجديد ينتقد ميل سابقيه لقبول المساعدات والاستثمارات الغربية.

وسوف يستمر الجيش في لعب دور لتوفير الاستقرار في تلك البلدان، وهو ما سوف يحافظ نسبيا على الأوضاع الراهنة في النظام الإقليمي. وربما تكون مصر أفضل نموذج لذلك، حيث حصل الجيش على موقع مستقر في مصر ما بعد الثورة. وفي اليمن ما بعد الثورة، ما زالت أسرة الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، التي كانت من قبل الأسرة الحاكمة، تهمين على الجيش.
وتمثل الظروف الجديدة تلك بالنسبة للولايات المتحدة بيئة إقليمية أكثر تعقيدا وأقل وضوحا. فسوف يصبح من الصعب تأمين المصالح الأميركية، حتى وإن كانت تلك الدول ما زالت تعتمد على الولايات المتحدة في المساعدات العسكرية والاقتصادية. وعلى الرغم من تعهد أوباما بمساعدة الديمقراطيات الجديدة، فقد أسفر تخفيض الميزانيات في واشنطن عن تقديم مساعدة مالية تقل عن المليار دولار. وهو مبلغ محدود بالنسبة للدول التي هي في أمس الحاجة للمعونة. وإذا لم تستطع تلك الدول الاعتماد على الولايات المتحدة فيما يتعلق بأمنها الاقتصادي المستقبلي، فمن المرجح أن تتطلع صوب قوى مثل الصين والهند.
ومن المستبعد أيضا أن تنهج الدول العربية نفس النهج تجاه الولايات المتحدة فيما يتعلق بالسياسة صوب إسرائيل. كما من المستبعد أن تكون بنفس القدر من التعايش مع أهداف الأمن الأميركي في المنطقة. وسوف تنشأ دائما التوترات بين الولايات المتحدة وتلك الأنظمة الجديدة حول سياستها: وقد منحتنا بالفعل محاكمة العاملين الأميركيين بالمنظمات غير الحكومية الدليل على ذلك.
ومن المحتمل أن يصبح النظام الإقليمي في الشرق الأوسط ما بعد أميركا أقل وضوحا، نظرا للطبيعة الأكثر هشاشة للأنظمة، ومع ذلك، فمن المستبعد أن تتحرك الدول وفق قواعد مختلفة تماما.

إيران ومحورها المكسور

مما لا شك فيه أن وضع إيران الذي أصبح أكثر قوة مؤخرا ــ والذي برز بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 ــ قد تأثر إلى حد كبير بردة فعلها تجاه الربيع العربي. فحتى قبل الربيع العربي، لم يكن لإيران نفوذ هائل في العالم العربي بخلاف العراق، وسوريا ولبنان. كما لم يحافظ تردد طهران في تأييد الحركات الديمقراطية ــ لا يستطيع المرء أن ينسى ردة فعلها تجاه الحركة الخضراء ــ على شعبية إيران لدى الجمهور العربي. فعلى الرغم من أن لإيران قدرا معقولا من النفوذ السياسي فيما يتعلق بالنزاع العربي الإسرائيلي، فإنها في ظل تغير التركيز إلى التغيير الديمقراطي، كانت إيران عاجزة عن إعادة التوجيه الفعال لتوجهاتها. حيث إن التوتر الناجم عن المقاومة والممانعة يقع في قلب الوضع الاستراتيجي لإيران في الشرق الأوسط. وتجمع الفكرة بين كل من حزب الله، وحماس، وسوريا، وإيران حتى في لحظات انفصالهم. فإذا ما سقط الرئيس السوري بشار الأسد، سوف تختلف العلاقة بين سوريا وإيران إلى حد كبير: فسوف تخسر طهران حليفها الرئيسي في العالم العربي.

ويرتبط بعلاقتها بسوريا علاقتها بحزب الله كذلك: فسوريا هي سبيلها الرئيسية لتسليح حزب الله. وسوف تضعف التغيرات التي تحدث في دمشق نفوذ إيران على حزب الله، وسوف يبقى العراق باعتباره الدولة الوحيدة التي ما زال لإيران فيها نفوذ كبير في العالم العربي.
وسوف تتراجع المكاسب التي حققتها إيران في المشرق منذ ثورتها في عام 1979، مع تراجع نفوذها على حركة حماس. ويعني إعلان خالد مشعل استقالته كزعيم لحركة حماس ــ وبحث الجماعة عن مقر جديد ــ أن شكل مقاومة حماس لإسرائيل لم يعد من الممكن أن يستمر. ولم يعد هناك من صديق لمحور المقاومة والممانعة سوى حركة الإخوان المسلمين. ولكن حتى الآن، أظهرت حركة الإخوان استعدادها للعب وفق قواعد الجيش. ومن ثم، فمن المستبعد أن تبتعد مصر عن علاقتها الحالية مع الدول المعتدلة في المنطقة ومع الولايات المتحدة لتشكيل صداقة عميقة مع طهران.

وبالتالي، من المرجح أن تركز إيران على التأثير على دول الخليج رغم أنها أخفقت في أن تلعب دورا فعالا فيه منذ عام 1979. وعلى الرغم من كافة الأحاديث حول «حرب باردة» بين العرب والفرس، فإن إيران ليست في موقف يمكنها من الفوز في مثل تلك الحرب الآن. فقد تغيرت الخارطة الجيوسياسية لإيران في ظل الصحوة العربية.

ما زال أمل إيران المتبقي هو نجاة نظام الأسد، فإذا ما تمكنت سوريا من البقاء في ظل حكم الأسد، فإن ذلك سيرجع في جانب منه إلى طهران. وهو ما سيمنح إيران صوتا نافذا في المشرق. وعلى الرغم من أن توازن القوى في العلاقة الإيرانية السورية قد تغير بقوة لصالح إيران، فإن نجاة الأسد سوف تجعل من إيران، بلا شك، الشريك المهيمن في تلك العلاقة.
في الوقت الراهن، تتمثل قدرة إيران الرئيسية على التأثير على النظام الإقليمي في برنامجها للتسلح النووي. فإذا ما أعلنت إيران أنها أصبح لديها سلاح نووي، من المرجح أن تتسبب ردة فعل الدول العربية في زيادة اضطراب النظام الإقليمي، حيث إن انتشار السلاح النووي رغم الاتجاه العالمي صوب الحد من الانتشار سوف يكون له تداعيات أصيلة على أمن المنطقة والأمن الدولي.

[caption id="attachment_55233810" align="alignright" width="300" caption="اليمن.. رحل صالح وبقي السلاح والارهاب وغياب سلطة الدولة"]اليمن.. رحل صالح وبقي السلاح والارهاب وغياب سلطة الدولة[/caption]

لاعبون جدد

في الوقت الذي ربما لا تصبح فيه تلك الحكومات النماذج الديمقراطية التي كان يتمناها جيل الألفية، فإنها سوف تكون صادرة عن المنطقة بتفرد. فأحد مزاياها الرئيسية أن تلك الحكومات الجديدة لم تحمل عبء الاستعمار أو التدخل الغربي. والأهم من ذلك، فإن هذا العام يمثل أول مرة ــ خلال ما يزيد على العقد ــ تخلو فيها المنطقة من الاحتلال العسكري الغربي. فقد أبعد تغير الحكومات في المنطقة النزاع العربي ــ الإسرائيلي والإرهاب من مركز النقاش الجماهيري. فالدول نفسها هي الآن مركز الحوار والجدل. ومثل تلك الحوارات ضرورية للنجاح المستقبلي والتنمية في المنطقة.
وفي الوقت الذي تقوم فيه تلك البلدان بإعادة بناء نفسها وإعادة التفكير في علاقاتها الاقتصادية، ظهرت هناك فرصة للاعبين خارجيين جدد للمشاركة في المنطقة ــ خاصة الهند والصين. وغالبا ما سيغير ذلك التفاعل، المنطقة من كونها منطقة يهيمن عليها الغرب، إلى منطقة تعكس الوضع الجغرافي بين الشرق والغرب.

وفي كتابه العميق، «الرياح الموسمية»، يقول روبرت كابلان إن المحيط الهندي سوف يكون مركزا لتنافس القوى والنفوذ في القرن الحادي والعشرين، في ظل استمرار صعود نجم الصين والهند. ومن المرجح أن يلعب الشرق الأوسط، والخليج على نحو خاص دورا محوريا في تلك المساحة الجديدة من التنافس. وسوف تمنح الروابط التجارية الطويلة بين منطقة الخليج والمحيط الهندي دورا محوريا للمنطقة.
وأخيرا، فإن الصحوة العربية تمثل صعودا مستمرا لتركيا. ففي ظل حكم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية، تطورت تركيا وأصبحت نموذجا لما يمكن أن تصبح عليه دول العالم العربي، وكانت من أقوى الأصوات وأكثرها فعالية في العالم العربي منذ الصحوات العربية. اقتصاد تركيا القوي، هويتها الإسلامية ــ العلمانية، والنظام الديمقراطي، جميعها عوامل وفرت مسارا لتحول تلك الدولة.

تنوع و فعالية

مما لا شك فيه، أن العالم العربي اليوم ليس أكثر استقرارا أو أكثر قدرة على التنبؤ بما يحدث به كما كان في السابق. ولحسن الحظ، فإن التنوع والغموض في حد ذاتهما يوفران فرصا لمنطقة أكثر استقرارا، وأكثر فعالية.
لقد كانت الأنظمة القديمة في مصر، واليمن، وسوريا، وليبيا، وتونس معرضة للانهيار عند مرحلة ما: حيث إن الأنظمة السلطوية الهشة ليست الوصفة الملائمة لاستقرار إقليمي طويل المدى.
على المدى القصير، إذا ما تم طرح المشكلات الأساسية ومعالجتها، سوف تتطور المنطقة. سعد الدين إبراهيم يتخيل نموذجا للسياسة المصرية يعتمد على النظام الأميركي قائلا: «أنا أكثر اهتماما بأن أرى حملات انتخابية مشابهة لما لديكم هنا في أوروبا الغربية.. فذلك جزء من دفع أو تفعيل الشعوب نحو التعددية ــ أن تراها وهي تعمل، وأن يكون هناك جدل، وأن يكون لديك وسائل إعلام حرة».
فإذا ما رجعت تلك الدول للوضع الاقتصادي والمؤسسي الذي كانت عليه قبل عام، فسوف تفرغ المنطقة نفسها على المدى البعيد حتى أكثر من قبل، وسوف تتعرض في النهاية للانهيار.

وفي مقالته الأخيرة في «نيويورك تايمز»، أثار أنتوني شديد ملاحظة مهمة حول مستقبل العالم العربي في شكله الجديد: الفجوة بين النظرية والواقع. وهو يقارن أحلام الشرق الأوسط الديمقراطي مع الممارسات العملية للحكومة في السلطة. فيقول شديد: «إذا كانت الثورات التي اجتاحت الشرق الأوسط قبل عام، هي إيذان بعصر الشباب العازمين على تخيل مستقبل آخر للعالم العربي، فإن النتائج التي جاءت بها الانتخابات في مصر وتونس وآفاق الهيمنة الإسلامية في المغرب، وليبيا، وربما في سوريا هي لحظة جيل آخر أكبر سنا».

ومن آخر الحوارات التي أجراها شديد كان حواره مع سعيد فرجاني، الإسلامي التونسي المنفي في لندن. ففي حوار سابق مع شديد، قال فرجاني بيقين: «أستطيع أن أخبرك بشيء واحد، نحن لدينا الآن فرصة ذهبية.. في تلك الفرصة الذهبية، لست مهتما بالسلطة. بل إنني مهتم بتقديم النظام الإسلامي المبهر، نظاما ديمقراطيا مبهرا. ذلك هو حلمي».
وقد غير فرجاني، الذي أصبح في السلطة حاليا، من نبرته. ففي رد فعل على الانتقادات السائدة في الشوارع من قبل من يرغبون في تونس أكثر علمانية، قال فرجاني: «نحن لا نخشى حرية التعبير، ولكننا لا نستطيع السماح بالفوضى. فيجب أن يتحلى الناس بالمسؤولية. وينبغي أن يدركوا أن هناك قانونا ونظاما».
ونأمل أن يستطيع فرجاني وجيله تجاوز سهولة السقوط في فخ الحكم السلطوي، أو لن يكون ذلك النظام الجديد مختلفا بنفس القدر الذي كنا نتخيله. فإذا ما كان الجيل الأقدم غير مستعد لمعالجة التوترات في مجتمعاتهم، لن يكونوا مختلفين عن الزعماء الذين خلعوهم.
font change