كارثة إنسانية تهدد حياة الملايين في شمال السودان وجنوبه

كارثة إنسانية تهدد حياة الملايين في شمال السودان وجنوبه

[caption id="attachment_55233934" align="aligncenter" width="620" caption="السودان المقسم.. مجاعة وحرب تهددان الملايين"]السودان المقسم.. مجاعة وحرب تهددان الملايين  [/caption]

السودان والسودان الجنوبي يترنحان: حرب.. مجاعة.. تدهور بيئي.. نزوح مئات الآلاف من السكان، كلها أسباب قد تقضي على حياة الملايين، كارثة حقيقية من صنع الإنسان، كان يمكن تفاديها، لكنها تشير إلى اخفاق القيادة سواء في الداخل أو في الخارج.
أرقام مفزعة، ففي السودان، تشير تقديرات الأمم المتحدة حاليا إلى أن هناك نحو 4.3 مليون مواطن، أو نحو 14 في المائة من سكان البلاد، في حاجة ماسة للمساعدات الإنسانية الفورية. وفي الجنوب، هناك نحو 21 في المائة من السكان (أو 1.7 مليون نسمة) يتعرضون لمخاطر جمة.

انفجار النزاعات


بعد ست سنوات من السلام النسبي، وتحقيق قدر من التنمية، انفجرت النزاعات على طول الحدود التي تم رسمها بين السودان ودولة السودان الجنوبي في الفترة السابقة، وبعد انفصال الجنوب مباشرة في يوليو (تموز) 2011، وفي مايو (أيار) 2011، تحولت النشاطات العسكرية في منطقة أبيي المتنازع عليها والغنية بالبترول، إلى احتلال عسكري موسع من قبل «القوات المسلحة السودانية» التي تسببت في نزوح ما يقدر بنحو 110 آلاف نسمة من قبائل «الدينكا نقوق» في الجنوب. وبعد ذلك بشهر، شنت «القوات المسلحة السودانية» هجوما على «الجيش الشعبي لتحرير السودان ـ جيش الجنوب» في ولاية كردفان الجنوبية المجاورة. وأسفر ذلك النزاع المستمر حتى الآن عن نزوح نحو 300 ألف نسمة، كما أجبر عشرات الآلاف من السكان على الانتقال إلى المنفى الجنوبي. وفي سبتمبر (أيلول)، اتسعت الجبهة ضد «الجيش الشعبي لتحرير السودان ـ جيش الجنوب» لتشمل ولاية النيل الأزرق، التي تأثر نحو 50 في المائة من سكانها حتى الآن بالنزاع؛ حيث تعرض نحو 66 ألفا إلى النزوح الداخلي، ونحو 87 ألفا إلى الهروب إلى إثيوبيا وجنوب السودان.

كما أن الاضطرابات التي تسود ليبيا حرمت متمردي دارفور من الملاذ الآمن، مما أجبر عددا من ميليشيات حركة «العدالة والمساواة» القوية التسليح على العودة إلى السودان، مما أمد ذلك النزاع بدماء جديدة. ويعد نحو مليونين من مواطني دارفور نازحين داخليا؛ حيث نزح نحو 700 ألف نسمة، بعضهم للمرة الأولى، وبعضهم للمرة الثانية خلال عام 2011.

في جنوب السودان، أسفر النزاع الذي لا تربطه علاقة منطقية بالعداء مع الشمال عن عنف مروع في أنحاء واسعة من البلاد، مما ساعد على الحد من قدرة الآلة الأمنية المحدودة بالفعل، كذلك قدرة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

قتلى ومشردون


وفي ولايتي جونقلي، ووراب، تصاعدت الغارات على المواشي بين جماعات الدينكا، النوير، والمورلي وتحولت إلى نشاط شبه عسكري واسع النطاق، مما أسفر عن مقتل الآلاف وإجبار نحو 150 ألف نسمة على مغادرة منازلهم.
وعلى الرغم من أن سرقة المواشي تعد تقليدا عتيقا في بعض المجتمعات (يمنح الشبان فخرا)، ولكن إساءة المعاملة وتسليح الميليشيات العرقية لتصبح جيوشا صغيرة خلال أعوام الحرب الأهلية ـ بالإضافة إلى تزايد الصراع على الموارد، والتغير المناخي، والإفراط في رعي الماشية في الاراضي الخصبة، جميعها عوامل تضافرت معا وشجعت ذلك المزيج على المذابح وعمليات الانتقام. ويزعم شيوخ قبيلتي النوير، والدينكا حاليا أنهما شكلا جيشا قوامه 30 ألفا من المجتمعات المتضررة في السودان وإثيوبيا للانتقام، في أعقاب هجوم شنه نحو ثمانية آلاف من قبيلة المورلي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

[caption id="attachment_55233936" align="alignleft" width="240" caption="مخاوف حقيقية من اندلاع حرب بين الشمال والجنوب"]مخاوف حقيقية من اندلاع حرب بين الشمال والجنوب[/caption]

وبالغضافة إلى التحدي الهائل الذي يفرضه ذلك العنف، يعاني جنوب السودان أيضا من تلبية احتياجات ما يقدر بنحو 190 ألفا من اللاجئين من أبيي، وولاية النيل الأزرق، وجنوب كردفان، بالإضافة إلى التحديات التي يفرضها ما يزيد على 300 ألف من العائدين (مواطنون من السودان الجنوبي كانوا مقيمين في الشمال)، والذين لا توجد سوى صلة سطحية بين العديد منهم ببلدهم «الجديد».
وقد أعلنت الخرطوم مؤخرا أن هناك نحو 700 ألف مواطن من جنوب السودان يعيشون في الشمال ــ نحو 9 في المائة من سكان الجنوب الحاليين ـ وأنه سيتم اعتبارهم أجانب بدءا من أبريل (نيسان) 2012. ومما لا شك فيه أن عودتهم جميعا سوف تمثل أزمة اجتماعية منقطعة النظير.

ولكن تلك الأضرار الجانبية للنزاع، هي التي من المحتمل أن تثير كارثة المجاعة الأكثر فداحة، ففي الشمال، أسفر النزوح والنزاع عن تناقص في المحاصيل الزراعية بنسبة 40 في المائة في ولاية النيل الأزرق، ونحو 50 في المائة في جنوب كردفان، مما يترك نحو نصف مليون نسمة معرضين لانعدام الأمن الغذائي. الأمطار الغزيرة، النزوح، النزاع المستمر، ونحو 25 في المائة انخفاضا في محاصيل الحبوب، بالإضافة إلى انتشار فيروس خطير يصيب المواشي، كل هذا يعني أن هناك نحو ثلاثة ملايين من مواطني السودان الجنوبي سوف يحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة خلال 2012. وبالفعل، أفادت الأمم المتحدة بأن هناك زيادة هائلة في حالات سوء التغذية والإصابة بالملاريا، وأن هناك نحو مليون مواطن يعانون من الانعدام الحاد للأمن الغذائي.

وقد ازدادت المشكلات في الشمال نظرا لاستمرار كراهية الحكومة للمنظمات الدولية غير الحكومية، ورفضها السماح بإنشاء ممرات مساعدة للمناطق المتأثرة بالنزاعات، وتتهم بعض الجماعات والحكومة الأميركية، حاليا الخرطوم باستخدام المجاعة سلاحا، وهو ما يعد من جرائم الحرب، كما أنه يضر بأشخاص مستضعفين بالفعل.

تضخم هائل




إن التضخم الغذائي في كلا البلدين هائل، حيث إنه يتراوح بين 19 في المائة في الشمال، ونحو 65 في المائة في الجنوب، وسيؤثر بضراوة على حياة المواطن السوداني، ويلقي بالعديد من الأسر إلى هاوية الفقر.

وفي ظل تلك الحاجة الماسة، ربما يتوقع المرء أن ينأى القادة بأنفسهم عن القتال، وأن يعطوا أولوية لحياة مواطنيهم المستضعفين. ولكنهم بدلا من ذلك، وفي منطقة رزحت وترزح تحت وطأة الحروب، والاختطاف، والنزوح، فإن تدمير المحاصيل والمساكن، والكراهية العميقة، وثقافة تحقيق نقطة على حساب الخصم، ما زالت تفاقم حالة عدم الاستقرار التي يعاني منها ملايين من الأشخاص الفقراء.

وقد يدفع التصريح الأخير الصادر من نظام جوبا، بوقف استخراج البترول كرد فعل على المزاعم بالسرقة من جانب الخرطوم، كلا البلدين إلى الحافة. جدير بالذكر، أن السودان الجنوبي يحصل على نحو 98 في المائة من عائدات العملة الأجنبية من البترول، وهو ما يعزز آفاق الانتحار الاقتصادي. وقد أخفق باستمرار المفاوضات المستمرة لعقد صفقة حول عائدات البترول، ويقع اللوم في ذلك على كلا البلدين، حيث يبدو أن كليهما عازم على السير معا نحو الحافة.

وبذلك، سيقضيان على حياة ما يقدر بنحو ستة ملايين سوداني في كارثة إنسانية يمكن تجنبها.
إنها كارثة ستكون وصمة عار في جبين الضمير الأخلاقي العالمي.
font change