أوغلو يهزم إردوغان في إسطنبول «2 - صفر»

أثبت بعد معركتين انتخابيتين أنه «نجم السياسة» التركية المنتظر

أوغلو يهزم إردوغان في إسطنبول «2 - صفر»

* تعددت وتنوعت محركات فوز أكرم إمام أوغلو ولكن جوهرها ارتبط بشخصه الذي لم ينزع إلى التصعيد حينما أُعيد الفرز بعد انتخابات مارس الماضي
* عمدة إسطنبول الجديد أثبت منذ بداية ترشحه وحتى إعلان نتيجة انتخابات كبرى مدن تركيا قدراً من «الاتزان السياسي» والنضوج الفكري والتصالح مع الآخرين
* حصل إمام أوغلو في الجولة الأولى، على نحو 4.171.118 صوتاً بينما حصل في الجولة الثانية على 4.741.885 صوتاً
* كانت المعركة الانتخابية الحقيقية في إسطنبول... والتي يكتسي الفوز برئاستها أهمية خاصة بحسبانها كبرى مدن تركيا
* أثبت إمام أوغلو أنه ليس بمقدوره هزيمة بن علي يلدريم، وحسب، وإنما أيضا «رجل تركيا الأول» إذا ما سنحت له الفرصة، سيما بعدما غدا في أنظار مناصريه «أيقونتهم الجديدة»
 

أنقرة: على الرغم من حالة «الركود السياسي» التي عانت منها تركيا بفعل سيطرة حزب العدالة والتنمية على كافة مقاليد السلطة منذ أواخر عام 2002. غير أن شهور أنقرة الأخيرة شهدت أنماطا مختلفة من التفاعلات السياسية، وذلك بفعل الانتخابات البلدية وما ترتب عليها من ارتدادات. فقد خسر حزب العدالة والتنمية ورئيسه السابق بن علي يلدريم الانتخابات في مدينة إسطنبول للمرة الثانية في مواجهة أكرم إمام أوغلو، الذي أثبت بعد معركتين انتخابيتين، ومعارك سياسية وإعلامية متعددة أنه «نجم السياسة» التركية خلال السنوات المقبلة، وأن الرهان عليه من قبل أحزاب المعارضة لم يكن صدفة بعد الفوز بكبرى المدن التركية وبفارق أكبر عن نتائج الانتخابات التي أجريت في 31 مارس (آذار) 2019... وقد أوضحت النتائج فوزه بنحو 55.12 في المائة من جملة الأصوات في مقابل 44.85 لمرشح الحزب الحاكم.

وقد تعددت وتنوعت محركات فوز أكرم إمام أوغلو ولكن جوهرها ارتبط بشخصه الذي لم ينزع إلى التصعيد حينما أُعيد الفرز بعد انتخابات مارس الماضي، ولم يصطدم بالسلطة عندما قررت إعادة الانتخابات رغم فوزه المؤكد بفارق يصل إلى نحو 13 ألف صوت. ورغم احتجاج مؤيديه واعتراض مريديه على سلوكيات السلطة السياسية وممارساتها، إلا أنه أعلن أنه لم يخسر من قبل معركة سياسية أو جولة انتخابية، وأن نهجه يقوم على النزوع إلى التسويات لا اختلاق الصراعات. وربما كان ذلك هو العامل الحاسم في إحباط خطط العدالة والتنمية وفوز أكرم إمام أوغلو بفارق يقارب المليون صوت، بما أوجد مشهدا سياسيا في إسطنبول بمجرد إعلان النتيجة يوحي بأنها شهدت انتخابات رئاسية وليست محض بلدية، وأن دلالات الفوز وانعكاساته قد تتجاوز حدود المدينة لتشمل كافة أرجاء الدولة.

ذلك أن عمدة إسطنبول الجديد أثبت منذ بداية ترشحه وحتى إعلان نتيجة انتخابات كبرى مدن تركيا قدرا من «الاتزان السياسي» والنضوج الفكري والتصالح مع الآخرين، فبعد فوزه الكاسح في جولة الإعادة أعاد إمام أوغلو تأكيد خطابه المتزن، قائلاً أمام مئات الآلاف من أنصاره: «هذه الانتخابات تعني فتح صفحة مغايرة، وتشكّل بداية جديدة ليس لإسطنبول وحدها وإنما لتركيا».


 

نصر أكرم إمام أوغلو وانتكاسة إردوغان

حصل إمام أوغلو في الجولة الأولى، على نحو 4.171.118 صوتا بينما حصل في الجولة الثانية على 4.741.885 صوتا أي أنه تمكن من الحصول على 570.767 صوتا جديدا، وذلك في مقابل حصول يلدريم في الجولة الأولى على 4.149.656 صوتا، وحصل في الجولة الثانية على نحو 3.935.429 صوتا أي أنه خسر 214.227 صوتا. وفيما يتعلق بنسبة المشاركة، فقد شارك في الجولة الأولى نحو 8.866.614 ناخبا، بينما شارك في الجولة الثانية 8.925056 مواطنا، وفيما كان عدد الأصوات الصحيحة في الجولة الأولى نحو 8.547.074 صوتا فقد بلغت في الجولة الثانية نحو 8.746.458 صوتا، وهذا يعني أن هناك 199.384 صوتا جديدا جرى احتسابها في الجولة الثانية.

وأكد إمام أوغلو عبر الكثير من الأحاديث الودية ترحيبه بالتعاون مع السلطة التركية، هذا فيما رحب إردوغان بعمدة إسطنبول الجديد. وبينما يشير ذلك إلى إمكانية تحقق التعاون بين سلطة الحكم والمعارضة السياسية في تركيا، غير أن خبرات التفاعلات الداخلية التركية تشير إلى صعوبة ذلك، فانتصار أكرم إمام أوغلو الكاسح أوجد مشهدا تركيا مغايرا. فالعدالة ورموزه يمسكون بزمام الحكم، والمعارضة في مواجهتهم على خطوط التماس المباشرة مع الناخبين والمواطنين عبر رئاسة بلديات كبري، بلغ مجموعها زهاء 19 بلدية، ومجموع مواطنيها يتجاوز مؤيدي حزب العدالة الحاكم، في مختلف البلديات.

ومع ذلك كانت المعركة الانتخابية الحقيقية في إسطنبول والتي يكتسي الفوز برئاستها أهمية خاصة بحسبانها كبرى مدن تركيا. وقد وقف وراء اكتساح إمام أوغلو الانتخابات فيها الكثير من المحركات، وفي مقدمتها ارتدادات استغلال حزب العدالة والتنمية للجنة العليا للانتخابات وتوجيهها لإعادتها، رغم فرز صناديق الاقتراع مرتين، بما خلق مناخا انتخابيا يسوده التعاطف مع مرشح «تحالف الأمة» أكرم إمام أوغلو، الذي بدا رجلا لا يواجه منافس، وإنما يجابه نظاما سياسيا يحشد كل طاقته ومصادر قوته لهزيمته في معركة لم يعتد الحزب الحاكم شدَّتها، ولم تشفع له فيها خبراته الانتخابية، التي راكمها على مدى يتجاوز عقد ونصف.

ارتبط تنامي التعاطف مع إمام أوغلو بكونه بدا شخصا وسطيا من حيث التفكير السياسي معتدلا من حيث التوجه الآيديولوجي. هذا إضافة إلى أنه أثبت قدرة على مخاطبة واستقطاب أصوات المحافظين وتأييد المواطنين المتدينين، وكسب الدعم العابر للمدن لما يتمتع به من كاريزما وقدرة على مواجهة خصومه بطريقة غير مباشرة، فخلال أقل من ثلاثة أسابيع على تنصيبه لرئاسة بلدية إسطنبول وقبل صدور قرار إعادة الانتخابات، كان قد قرر تخفيض تعريفة بطاقة المواصلات الشهرية للطالب التي كانت تصرف بـ85 ليرة تركية إلى 50 ليرة. كما اتخذ قرارا بإعفاء الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم الـ12 عاما والأمهات اللاتي لديهن أطفالا لم يتجاوزوا الرابعة من العمر من أجور المواصلات العامة. وأعلن فتح المواصلات العامة مجانا لكافة أهالي إسطنبول في أيام الأعياد الدينية والقومية. وفي خطوة بدت سريعة ومفاجئة أعلن رئيس البلدية أنه سيخفض أجور استهلاك الماء بنسبة تصل إلى 40 في المائة.

 

ضعف جبهة «العدالة» الداخلية

قبيل إجراء الانتخابات تزايدت الدعوات وتعالت الأًصوات لتلقين الحزب الحاكم درسا انتخابيا قاسيا، عبر حشد كامل طاقة الأحزاب والمواطنين المستفزين من الممارسات غير الديمقراطية للحزب الحاكم، وذلك في محاولة لإنقاذ سجل تركيا مع الديمقراطية، بما أفضى إلى فشل حزب العدالة في استقطاب المزيد من الأصوات، بل والفشل كذلك في تعظيم مشاركة قاعدته الشعبية، فقد شارك نحو 60 ألف شخص في التصويت بالجولة الثانية لم يسبق لهم المشاركة في انتخابات مارس، ويعتقد أن أغلبهم لم يصوت ليلدريم، وإنما لأكرم إمام أوغلو الذي استطاع جذب غير المهتمين بالذهاب إلى صناديق الاقتراع بعد تعزيز إدراكهم بأن التغيير وهزيمة الحزب الحاكم أمر ممكن.

وحسب الكثير من التقارير والتعليقات الدولية، فقد أوضح اتساع الفارق بين علي يلدريم وإمام أوغلو يقارب العشر نقاط في الإعادة، أن إردوغان وحزبه باتوا في موقع الهزيمة المُضاعفة. وقد عبر عن ذلك سونر تشابتاي، الباحث في «معهد واشنطن»، بقوله: إن انتصار إمام أوغلو جعل إردوغان في موقف دفاعي للمرة الأولى. وقال: «إمام أوغلو يولّد الأنباء والخطابات، وإردوغان يردّ عليها». ترتب على ذلك أن تصاعد حدة التوترات داخل الحزب الحاكم، والتي كان قد جسدها الانتقادات التي وجهها الرئيس التركي السابق، عبد الله غول، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، لقرار إعادة الانتخابات، وبدا أن ذلك يؤشر إلى حالة من الانقسام غدت تخترق الحواجز الحزبية لتصب لصالح أكرم إمام، الذي نجح في تشجيع «المعارضين الصامتين» في داخل «العدالة» على رفع الأصوات والتعبير عن خياراتهم وتوجهاتهم «فوق الحزبية».

من جانبه، وخشية من تفاقم أوضاع الحزب الداخلية، حاول الرئيس التركي تبرير مواقفه بالإعلان أن حزبه لم يخسر إسطنبول التي فاز فيها بـ24 بلدية فرعية، في حين فاز حليفه حزب الحركة القومية ببلدية واحدة من عدد بلديات الولاية البالغ 39 بلدية. وقدم إردوغان المزيد من العتاد لمنافسيه القدامى ومعارضيه الجدد داخل حزبه. فحين نشر رئيس الوزراء السابق المنتمي لحزب العدالة والتنمية أحمد داود أوغلو انتقادات حادة للحزب الحاكم، كان الجزء الأكثر لفتا للنظر هو تأكيده على أن هناك تنظيما موازيا داخل صفوفه يُعلي مصالحه فوق مصالح الحزب والبلاد. تلك المجموعة – المعروفة عند الكثيرين باسم «مجموعة البجع» – يقول عنها الكثير من الأتراك بمن فيهم أنصار حزب العدالة والتنمية إنها تقف وراء إلغاء نتائج الانتخابات الشرعية في إسطنبول.

وقال داود أوغلو إن قرار إبطال نتائج 31 مارس «أساء إلى إحدى قيمنا الجوهرية». وكتب على «تويتر» أن «الخسارة الكبرى للحركات السياسية ليست خسارة انتخابات فحسب بل خسارة تفوَق الأخلاق وضمير المجتمع». هذا فيما قال الرئيس التركي السابق عبد الله غول إن قرار إعادة الانتخابات يظهر أن الحزب الحاكم لم «يحقق أي تقدم» منذ الخلافات الدستورية السابقة. وكان كل من داود أوغلو وغول قد اختلفا مع إردوغان خلال وجودهما في منصبيهما، وتشير الكثير من المؤشرات والمعطيات أنهما قد يتخذان مبادرة بتأسيس حزب جديد.


 

تماسك المعارضة الحزبية

بحسب بيانات اللجنة العليا للانتخابات بلغ عدد الناخبين في إسطنبول نحو 10 ملايين و560 ألفًا و963 ناخبا. وشهدت مطارات إسطنبول ومحطات الحافلات ازدحاما شديدا من جانب مئات الآلاف من المواطنين الذين قطعوا إجازاتهم الصيفية في مدنهم وقراهم في ولايات أخرى، للعودة إلى إسطنبول للتصويت في الانتخابات. وقد أثبتت المعارضة السياسية خلال جولة الإعادة قدرتها على إظهار التماسك والاستفادة من الهزائم الانتخابية السابقة التي غلبَّت فيها التوجهات الآيديولوجية على المصالح السياسية. وبدا ذلك جليا على نحو أكبر في حالة حزب الشعوب الديمقراطية الذي لم تستجب قواعده لدعوة زعيمه الروحي عبد الله أوجلان بالتزام الحياد، وإنما انحازت إلى صوت زعيمه المسجون صلاح الدين ديمرتاش، والذي أشار لقواعد حزبه أن المصلحة السياسية تقتضي التزام صفوف المعارضة، وتجاوز الانقسامات الحزبية، والانحيازات القومية، والخلفيات التاريخية للعلاقات بين الأحزاب التركية.

تأسس التوجه الكردي لدعم أكرم إمام أوغلو أيضا على حالة خلقتها أجواء الانتخابات التي بدت وكأنها معركة سياسية مصيرية تستدعي حشد جميع المواطنين للمشاركة في إعادة صوغ مستقبل مدينة يبلغ مجموع قاطنيها نحو 16 مليون مواطن، وتنتج بمفردها قرابة ثلث الناتج المحلي الإجمالي لتركيا، بما يعني أنها ليست محض مركز صنع القرار وحسب، وإنما تُعد عاصمة المال والأعمال ومركز اللوبيات وجمعيات رجال الأعمال القادرة على المشاركة في صناعة مشهد سياسي مغاير إذا ما تضررت مصالحها الاقتصادية.

وخاض تحالف المعارضة الانتخابات تحت شعار «العمل معًا لفتح طريق جديد للأمل والتخلص من هيمنة حزب العدالة والتنمية»، الذي بدا وضحا أنه بينما تمثل انقساماته الداخلية أحد أبرز نتائج هذه الانتخابات، غير أنها هي ذاتها تمثل أحد أسباب فوز أكرم إمام أوغلو، وذلك بسبب تزايد حدة السخط حيال إجراءات حزب العدالة الاقتصادية ومعارضة سياساته المالية التي أفضت إلى تدهور مالي متصاعد وتراجع اقتصادي متزايد، لم يعد من اليسير التعايش معه لفترة طويلة، ليس وحسب بالنسبة إلى مواطني تركيا، وإنما إلى رجال الأعمال الذين تزايدت بين صفوفهم عمليات الإعلان عن الإفلاس، وذلك في ظل تصاعد مؤشرات عدم القدرة على سداد الديون لأسباب كثيرة البعض منها يتعلق بتراجع قيمة العملة التركية (الليرة) بنحو 35 في المائة من قيمتها في أقل من عام.

وقد مثلت الانتخابات ما يشبه الاستفتاء على رئاسة إردوغان، الذي انخرط في الحملات الانتخابية والعمليات الدعائية لمرشح حزبه، على نحو دفعه إلى اتهام أكرم إمام أوغلو بأنه مرتبط بجماعات شاركت في الانقلاب على حكمه، وأنه سيتخذ التدابير اللازمة حيال ذلك، بعد أن اتهمه بأنه من أنصار فتح الله غولن. ثم خاطب الجماهير بأن التصويت لأوغلو يعني التصويت للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وذلك في سقطة كبيرة، تعني أنه لم يعد يتصرف كرئيس لبلد مثل تركيا، بل يتحدث كعضو في جماعة الإخوان.

أظهر ذلك فشل تكتيكات الرئيس التركي الذي استنفر كل إمكانيات الدولة دون أن يستطيع التأثير على مزاج المواطن وقراره الانتخابي في إسطنبول التي يوليهما أهمية خاصة بسبب سابق رئاسته للمدينة، وإداركه لأهميتها ورمزيتها، فضلا عن عقيدته القومية العثمانية التي يتغنّى بأمجادها. لذلك، ففيما نجحت الحملة الانتخابية لإمام أوغلو، والتي أطلق عليها شعار «كل شيء سيغدو جميلا جدا»، في بعث الشعور لدى الأتراك على أنه بات يمثل الأمل في التغيير، فإن قيادة إردوغان للحملات الانتخابية لحزبه في الانتخابات البلدية أكدت إشكالية سلطة حكم الحزب الواحد.

 

تجاوزات حزب العدالة في إسطنبول

شكل التخوف على مسار الديمقراطية في تركيا محركا أساسيا لدى قطاع واسع من مواطنين اعتبر البعض منهم أن العدالة والتنمية بات يفتقد البوصلة التي حددت اتجاهات الحركة السياسية خلال السنوات الأولى من حكمه، بما بات يفضي إلى توترات سياسية لا تنتهي وتدهور اقتصادي تتصاعد مظاهره، سيما مع تزايد مؤشرات افتقاد السياسات المالية للحزب الحاكم للنزاهة والشفافية. ولاحقت حكومة إردوغان قضية فساد تتعلق بإيران. هذا إضافة إلى قلق البعض مما أُطلق عليه «فساد وبذخ» بإدارة بلدية إسطنبول، الأمر الذي سهل على منظمات أهلية، مقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، ويقودها إسلاميون، الحصول على تمويل من بلدية إسطنبول» بالمخالفة للقانون.

وخلال سيطرة حزب العدالة على المدينة تم منح عقود مشاريع كبرى لشركات ورجال أعمال مقربين من الحكومة وبالتالي جرى تشغيل عشرات الآلاف من أنصار الحزب في هذه الشركات، بينما اتهمت صحف المعارضة الحزب بتلقي رشى لقاء منح هذه العقود. وتبرعت البلدية بنحو 150 مليون دولار لجمعيات ومؤسسات مقربة من حزب العدالة والتنمية ومن أسرة إردوغان حتى عام 2018 حسب قوائمها المالية. وتم منح المشاريع العملاقة في إسطنبول والتي بلغت قيمتها مليارات الدولارات مثل مطار إسطنبول الجديد والجسر الثالث الذي يربط شطري المدينة لشركات مقربة من إردوغان مثل كاليون وكولين وليماك حسبما قالت صحيفة «واشنطن بوست». وتقول أوساط المعارضة إن المدينة كانت دائمًا تمثل مصدر كسب ودخل لحزب إردوغان منذ سيطرته عليها ويذهب جزء من موازنتها لشركات يملكها موالون لإردوغان بينما تذهب المشاريع العملاقة والكبيرة فيها للمقربين منه.


 

تداعيات انتخابات إسطنبول ومسارات ارتداداتها

بحسب الهيئة العليا للانتخابات، فقد أدلى المواطنون بأصواتهم في 31 ألف مركز انتخابي، ضمن 39 قضاء في ولاية إسطنبول، والتي تمثل من الناحية الديموغرافية: «تركيا مصغرة» تضم «جاليات» من كل أنحاء البلاد، لذلك قال عنها الرئيس التركي «من يحكم إسطنبول يحكم تركيا»، غير أن فوز مرشح المعارضة في انتخابات إسطنبول في 31 مارس الماضي، لم يدفع إردوغان بعد ذلك بالدعوة إلى إعادة الانتخابات وحسب، وإنما أيضا إلى إعادة صوغ مقولته حول أهمية انتخابات المدينة، ليقول: إنها انتخابات تبقى محصورة بـ«رئيس بلدية».

ويبدو أن تصريحات الرئيس التركي اللاحقة بشأن الترحيب بالتعاون مع أكرم إمام أوغلو بعد فوزه في الانتخابات تعكس قلقا بشأن أوضاع البلاد السياسية، ذلك أن خسارة إسطنبول للمرة الثانية رغم إصرار حزب العدالة والتنمية على إعادة الانتخابات، يعمق من جروح الحزب ويُظهر المزيد من الانقسامات بين صفوفه، سيما في ظل ارتفاع أصوات كوادر حزب العدالة والتنمية من أمثال رئيس الوزراء الأسبق، أحمد داود أوغلو والرئيس السابق عبد الله غول، وانتقادهما المستمر لإردوغان، وذلك على نحو قد يؤدي تزايده إلى تصدعات كبيرة في الحزب وحكمه، بما من شأنه أن يفضي، ليس وحسب، إلى بزوغ حزب سياسي جديد من رحم حزب العدالة، وإنما أيضا إلى انشقاق كتلة ليست هينة من نوابه في البرلمان التركي، بما قد يفقده الأغلبية البرلمانية لصالح المعارضة.

في هذا السياق، تصاعدت المطالب داخل العدالة بإحداث إصلاحات جذرية لمسار حزب العدالة، وإجراء تعديل حكومي يستجيب لتطلعات المواطنين، واستبعاد وزير الداخلية، سليمان صويلو، كونه كان أحد أبرز وجوه الحملة الانتخابية للحزب الحاكم، ولم ينجح في إدارة هذه الحملة عبر الخطاب الذي حمل رسائل تهديد وتخويف. وتتركز المطالبات حول إجراء تعديل وزاري وإصلاح في السياسات العامة، وبينما تؤكد الحكومة أن الاقتصاد التركي مستقر وأن بعض التراجعات ناجمة «عن مؤامرات خارجية وتلاعبات معادية لتركيا»، تطالب شريحة متزايدة من المجتمع التركي بالاعتراف بوجود «أزمة اقتصادية» معتبرين أن الوزير براءت البيرق فشل في إدارة اقتصاد البلاد ويجب تغييره من أجل البدء بعملية إصلاح تمنع تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد إلى أصعب من ذلك.

وقالت صحيفة «فايننشيال تايمز» في افتتاحيتها إن على الرئيس التركي أن يعيد التفكير في سياسته بعد الهزيمة الكبيرة له. ويجب عليه أن يفكر بهدوء في الكيفية التي سيرد بها على الهزيمة. فـ«النكسة الانتخابية» في العاصمة التجارية لتركيا تأتي في نفس المدينة التي منحت إردوغان الانطلاقة السياسية كعمدة لها قبل 25 عاما، بما يمثل خسارة قوية بالنسبة لمخططات العدالة والتنمية، بعد أن فقد السيطرة على ميزانية تقدر بنحو 4 مليارات دولار للمدينة التي سمحت له بالحفاظ على شبكات تعتبر مهمة له وتدعمه، وكانت قدرته على تقديم عقود الشراء وتقديم الخدمات مهمة لنجاحه في الانتخابات وبالضرورة البقاء في السلطة.

وأمام نكسة الخسارة الأولى والإعادة يواجه إردوغان نكسة ثالثة تتمثل في عودة المعارضة التي انتعشت من فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري إمام أوغلو وشركائه السياسيين. وقد يعجل ذلك بإنهاء مخططات إردوغان الخاصة بدخول تركيا مرحلة «السكون الانتخابي» حتى عام 2023. حيث قد يدفع الانقسام السياسي بتصاعد الدعوات لتبكير موعد الانتخابات الرئاسية، سيما إذا ما تزامن ذلك مع تفاقم مشكلات تركيا الاقتصادية وتردي علاقاتها الخارجية، خصوصا مع الولايات المتحدة الأميركية وشركائها في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

وقد يحمل ذلك تداعيات دراماتيكية على علاقات تركيا مع الجماعات الراديكالية التي سخر حزب تركيا الحاكم في خدمتها كافة مؤسسات الدولة الاقتصادية والإعلامية والسياسية، وذلك على نحو قد يدفع بالتبعية إلى إعادة تشكيل سياسات تركيا الخارجية في محيطها الإقليمي، هذا ويبقى خيار التهدئة ثم التصعيد السياسي أو القضائي حيال أكرم إمام أوغلو أحد السيناريوهات المرجحة. فالعدالة والتنمية يعي أنه ليس محض مرشح فاز في معركة سياسية هُزم فيها الحزب الحاكم، وإنما يدرك أنه يتمتع بشخصية كاريزمية، ويمتلك مهارات خطابية، ولديه طموح سياسي جارف قد يحفزه لأن يضطلع بـ«أدوار البطولة» في مشاهد أكثر سخونة قد يتحدد بناء عليها مستقبل تركيا، خصوصا بعدما أثبت أنه ليس بمقدوره هزيمة ثاني أهم شخصية في النظام التركي، وهو بن علي يلدريم، وحسب، وإنما أيضا «رجل تركيا الأول» إذا ما سنحت له الفرصة، سيما بعدما غدا في أنظار مناصريه «أيقونتهم الجديدة» التي ستقف أمام إردوغان في انتخابات الرئاسة المقبلة.

 

font change