الحَرَاك الشعبي الجزائري... عامٌ من السلمية والتمسك بالتغيير

الرئيس تبون يُعلنه يومًا وطنيا للتلاحم بين الشعب والجيش

الحَرَاك الشعبي الجزائري... عامٌ من السلمية والتمسك بالتغيير

* حالة الاستقطاب والانقسام والأنانية أثرت سلبًا، ودفعت نحو انفجار الهويات الفردية والجماعية، وانبعاث الخصوصيات الثقافية والعرقية والآيديولوجية والحزبية والفئوية
* الاستحقاق الأول لمرحلة ما بعد أي ثورة شعبية لملء الفراغ المؤسّساتي هو مجرد الاحتكام إلى أي مسار انتخابي
* حمدادوش: الحَرَاك أثبت بالدليل الملموس إمكانية التغيير السّلمي، وكسر رموز الفساد مهما بلغوا من النفوذ والقوة
* عمار جيدل: الحراك المبارك يبقى وفيا لمبادئه المنشئة ثابتا غير مبدّل، متشبّثًا بسلميته، هذه السلمية التي أبهرت العالم وبيّنت بوضوح أنّ العنف دخيل على الجزائري
* اتفقت كلمة الحراكيين جميعاً على حقّ الجميع - دون استثناء - في التعبير عن آرائهم السيّدة من دون وسيط مؤدلج أو وسيط سمسار

الجزائر: يحيي الجزائريون اليوم الجمعة الذكرى السنوية الأولى لانطلاق الحَرَاك الشعبي الذي انطلق بقوة في الثاني والعشرين من فبراير (شباط) 2019. ليطيح بعد أسابيع قليلة من المسيرات المليونية الغاضبة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة (82 عامًا) الذي قرر الترشح لولاية رئاسية خامسة رغم عجزه ومرضه، وعدم ظهوره أمام الجزائريين منذ عام 2012 في آخر خطاب له بولاية سطيف حينما أعلنها صراحة «طاب جناني» أي انتهى وقتي.
الاحتفالات بهذه الذكرى انطلقت باكرًا، حيث شهدت مدينة خراطة التابعة لمحافظة بجاية، وهي مدينة ساحلية تقع شرق العاصمة الجزائرية بنحو 220 كيلومترًا، حين شارك الآلاف في مسيرة حاشدة جابت شوارع المدينة، وشهدت حضور لخضر بورقعة أحد أبرز مجاهدي ثورة التحرير، ورفع المتظاهرون شعارات متمسكة بضرورة التغيير الشامل، وتمدين نظام الحكم، ونصبوا في ساحة المدينة نصبًا تذكاريًا مخلدًا للمسيرة التي شهدتها المدينة في 16 فبراير، أي أقل من أسبوع على انطلاق الحَرَاك الشعبي حيث رفع المتظاهرون حينها بشكل صريح شعار رفض العهدة الخامسة.

 

الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة يعقد اجتماعا انتخابيا في 4 أبريل 2004 في أورنت، شرقي الجزائر (غيتي)


وبمحافظة خنشلة أحيا الأربعاء عشرات المتظاهرين بوسط المدينة الذكرى الأولى لمظاهرة 19 فبراير التي تم خلالها إسقاط صورة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وحضر المظاهرة المجاهد لخضر بورقعة، وعدد من النشطاء السياسيين منهم سمير بلعربي، وسط هتافات مساندة للحراك الشعبي. وفي يوم 19 فبراير 2019. تجمع عشرات المناصرين للسياسي المثير للجدل رشيد نكاز، وردا على استفزازات مسؤول محلي آنذاك، قام المتظاهرون بإسقاط صورة عملاقة للرئيس المستقيل وسط هتافات: «نحي التصويرة وخلي لعلام» في إشارة إلى نزع الصورة وترك العلم الجزائري الذي كان معلقا بجانبها.
وبعد مرور نحو عام يستعد الجزائريون للمشاركة بقوة في مسيرات الجمعة القادم، للتأكيد على تمسكهم بضرورة التغيير الشامل، والذهاب نحو جزائر جديدة، وبعد مرور عام على الحَرَاك الشعبي غير المسبوق في تاريخ البلاد، ثمة تساؤلات كبيرة في الشارع الجزائري عن حصيلة منجزاتهم خلال عام، هل مطالب الحَرَاك تحققت كاملة؟ وإذا كان الأمر كذلك فما مستقبل الحَرَاك الذي يدخل عامه الثاني بزخم قوي، يؤشر على أن مسيرة التغيير لم تنته بعدُ، وأن هناك مطالب لم تتحقق بعدُ، وإذا كان الأمر كذلك فما هي المطالب المرفوعة؟ وكيف يتعامل النظام الجديد معها وهو الذي تعهد بالتأسيس لجزائر جديدة يحدث فيها القطيعة مع ممارسات النظام البائد.

 

جزائريون في مظاهرة للمطالبة برحيل جميع المسؤولين الحكوميين المرتبطين بالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في الجزائر العاصمة (غيتي)


في الواقع إن ما يقلق الجزائريين اليوم هو استمرار التضييق على الحريات، واعتقال النشطاء، ففي الوقت الذي يعلن النظام عن تمسكه بالحوار كخيار استراتيجي لإدارة المرحلة المقبلة، فإن استمرار اعتقال النشطاء السياسيين، وأبرزهم كريم طابو، وفوضيل بومالة، وعشرات النشطاء الشباب، مسألة تزعزع الثقة بين السلطة والحراكيين. ففي الأربعاء أعلنت فعاليات ونشطاء من الحراك الشعبي تأجيل ندوة جامعة كان من المقرر تنظيمها بقاعة حرشة حسان بوسط العاصمة احتفالا بالذكرى الأولى للثورة الشعبية بعد رفض السلطات منح الترخيص لعقدها، وجاء في بيان لمنظمي الندوة: «نحن فعاليات ونشطاء من الحراك الشعبي، احتفالا بالذكرى الأولى للثورة الشعبية دعونا لتنظيم ندوة وطنية جامعة يوم 20 فبراير 2020 في قاعة حرشة حسان بالجزائر العاصمة». وأضاف البيان: «بعد موافقة مسؤولي هذا المركب الرياضي، فوجئنا بغياب أي رد من طرف مديرية التنظيم والشؤون العامة لولاية الجزائر. مما اضطرنا إلى تأجيل هذه الندوة التي كان من المنتظر أن يحضرها مئات من نشطاء وفعاليات من الحراك الشعبي السلمي من كل ربوع الوطن».
وتابع البيان: «غياب الرد يأتي بعد منعنا من عقد ندوة صحافية يوم 16 فبراير داخل قاعة في فندق الأبيار، وعليه فإننا نندد بشدة ونستنكر بقوة هذه التصرفات التعسفية التي تعتبر تناقضا صريحا مع الخطاب الرسمي الذي يشيد بالحراك المبارك ويزعم رفع القيود وتسهيل النشاط الجمعوي والسياسي! وبهذا يثبت النظام أنه يبقى وفيا لممارساته الشمولية والسلطوية مستغلا بذلك القوانين الجائرة من أجل منع الجزائريين من ممارسة حقهم في التجمع واستغلال القاعات العمومية».
وختم البيان: «إننا نؤكد إصرارنا على مواصلة هذه المبادرة التي نأمل من خلالها المساهمة في النضال السلمي حتى تتحقق مطالب الحراك المشروعة ونجدد التزامنا بدعم هذه الثورة الشعبية حتى تحقق أهدافها كاملة وتفرض السيادة الشعبية وتجسد انتقالا ديمقراطيا حقيقيا وسليما».
وبينما يمنع النشطاء من عقد ندوتهم، قرر الرئيس عبد المجيد تبون، الأربعاء، إعلان يوم 22 فبراير من كل سنة «يوما وطنيا للإخوة والتلاحم بين الشعب وجيشه من أجل الديمقراطية»، حسبما أورده بيان لرئاسة الجمهورية. وأوضح المصدر ذاته أنه «جاء في المرسوم الذي وقعه السيد الرئيس وأعلنه أثناء لقائه الدوري مع وسائل الإعلام المحلية بأن يوم 22 فبراير يخلد الهبة التاريخية للشعب في الثاني والعشرين من فبراير 2019. ويحتفل به عبر جميع التراب الوطني من خلال مظاهرات وأنشطة تعزز أواصر الأخوة واللحمة الوطنية، وترسخ روح التضامن بين الشعب وجيشه من أجل الديمقراطية».
اعتبار 22 فبراير يومًا وطنيًا للتلاحم بين الشعب والجيش أثار نقاشًا واسعًا، حيث اعتبر البعض أن العلاقة التي تربط الجزائريين بجيشهم لا تحتاج إلى يوم وطني لاستحضاره، ويرى هؤلاء أنه كان الأحرى جعل هذا اليوم يومًا شعبيًا للانتفاضة ضد الفساد، لكن بالنسبة للقيادي في حركة البناء الوطني أحمد الدان فإن اعتبار 22 فبراير يوما وطنيا هو «وفاء للحظة التاريخية التي ثار فيها الشعب ضد الفساد السياسي والاقتصادي. واعتباره يوما وطنيا للتلاحم ببن الشعب والجيش هو تخليد لشعار الحراك خاوة خاوة، وتخندق الجيش مع الشعب ضد العصابة وضد الأجندات المشبوهة».
وبرأيه فقد «فشل الذين يحبون ركوب الدبابة وهي تقتل الشعب الذي اشتراها للدفاع عنه وفشل الرهان ضد الوحدة الوطنية والثوابت». ويتابع: «وبقي استكمال مطالب الحراك في الديمقراطية والتنمية في ظل احترام التعددية واسترجاع الدور الضائع للجزائر في محيطها الإقليمي وإنهاء الوصاية على جزائر الشهداء».

 

الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون يشير إلى الحاضرين خلال مراسم أداء اليمين الدستورية في العاصمة الجزائر (غيتي)



وفي حوار خصّ به جريدة «لوفيغارو الفرنسية» أكد الرئيس عبد المجيد تبون ردًا على سؤال بخصوص موقفه من استمرار مسيرات الحَرَاك الشعبي قائلا إنه «رغم الوجود الجماهيري كل جمعة فإن الأمور تسير نحو التهدئة، وإن كثيرًا من الجزائريين فهموا بأنه لا يمكن إصلاح ما تم تدميره خلال العقد الماضي خلال شهرين»، أي منذ أدائه القسم كرئيس للجزائريين، لكنه رغم ذلك يؤكد أنه «يتقبل مطالب الجزائريين له بالتحرك السريع بما أن ذلك يثبت رغبتهم في التغيير».
وفي حواره يقول تبون أيضا إن «الحراك حقق كافة مطالبه فعليًا بما أنه منع الخامسة وأوقف تمديد الرابعة، وفرض الاستقالة على الرئيس، وحصل على ذهاب رموز النظام السابق»، كما أن الحرب قد انطلقت ضد أولئك الذين دمروا الاقتصاد. يضيف تبون أن «الباقي هو الإصلاحات السياسية وأنه قد أخذ على عاتقه الذهاب بعيدا في التغيير الجذري من أجل القطيعة مع الممارسات السابقة، وأخلقة الحياة السياسية وتغيير نموذج الحكم».
يقول تبون إن «تغيير الدستور أولوية قصوى وإنه قد أعطى توجيهاته للجنة مختصين بغرض إعداد مقترحات تغييره بما لا يمس الهوية والوحدة الوطنيتين. وأن الحصيلة ستعرض على 600 من الأحزاب والجمعيات والمختصين لمناقشتها خلال شهر قبل عودتها للجنة الصياغة النهائية وبعدها سيكون العرض على غرفتي البرلمان ثم الاستفتاء الشعبي الذي سيحسم الموضوع».
وردًا على رفع شعار (مدنية لا عسكرية) يقول تبون إن أصل الشعار كان 19 يونيو 1965، ويضيف أن «الجيش أكمل مهمته الدستورية، وأنه لا يتدخل في السياسة ولا الاستثمار ولا الاقتصاد، وأنه موجود من أجل صون وحدة الوطن، وحماية الدستور والجزائريين من كل الاختراقات الإرهابية ومحاولات ضرب الاستقرار، كما أنه لا يمكنكم إيجاد أي تداخل له مع حياة المواطنين سوى ما تعلق بالخدمة الوطنية». 
يتحدث تبون عن أنه «ليس مدينا سوى للمواطنين الذين انتخبوه بكل حرية وشفافية، وأن الجيش رافق الانتخابات لكنه لم يحدد الفائز بها». كما يقول إنه «لم يدخل الانتخابات إلا بسبب شعوره بأن هناك عملا لم يكتمل إنجازه بالنظر للظروف التي غادر فيها موقع الوزارة الأولى في عهد بوتفليقة. وأنه قد توجه للانتخابات لأنه يعتقد أن لديه إضافة يقدمها رغم أن ما قام به كان تضحية شخصية وعائلية».
وعن سؤال حول تحييد «المافيا السياسية والاقتصادية»، حيث يقبع كثير من وجوهها الآن في السجن، رد تبون بأن «الفساد وتكديس المال الفاسد لا يزول بمجرد جرة قلم». مضيفا أن «رأس المافيا قد قطعت لكن الجسد ما زال موجودا، وأن المال الفاسد ما زال متداولا، حيث يمثل كل يوم مسؤولون جدد ورجال أعمال مزيفون أمام العدالة». كما أشار إلى أن أسس الدولة الجزائرية «يجب أن تكون سليمة»، معتبرا في هذا الصدد أن «ما ينتظرنا أكبر من أعمال سيزيف». وتابع يقول: «نحن بصدد إعادة البناء، لكن ذلك سيأخذ بعض الوقت، حيث لا توجد دولة حديثة بنيت خلال جيل واحد، فالجمهورية الخامسة في فرنسا بدأت في سنة 1958 من القرن الماضي، فلنبدأ بتسطير معالم دولتنا الجديدة على المستوى الدستوري ثم المؤسساتي ليعقبها الاقتصادي».
وبالنسبة لوزير الصناعة الأسبق عبد المجيد مناصرة فإن «الحراك في عامه الأول أجهض مشروع العهدة الخامسة لبوتفليقة، لكنه لم يدفع نحو تغيير عميق للنظام»، ويوضح ذلك بالقول لـ«المجلة» أن «الطبقة السياسية تتحمل مسؤولية عدم تحقيق الحراك لكامل أهدافه»، ويتابع: «ما حدث من تعاطٍ للطبقة السياسية مع تطورات الحَرَاك، وعدم تفاعلهم إيجابًا مع تطلعات الجزائريين نحو التغيير الجذري للنظام، واختلاف وجهات نظرهم تجاه المسألة، أمر استغله النظام الذي استمر بشعارات جديدة، وبنفس جديد».
وعن إمكانية استمرار الحَرَاك في عامه الثاني بنفس الزخم والتأثير الذي انطلق به قبل عام، يعتقد مناصرة أن ذلك صعب فــ«الحَرَاك لم يعد بالقوة وذلك التأثير، حينما انطلق جمع حوله الجزائريين الذين نزلوا بمئات الآلاف في الشارع بمطالب واضحة ومحددة ومتفق عليها، بينما الآن الأمر ليس كذلك، فقد تراجع عدد الحراكيين واختلفت مطالبهم، ومن الصعب أن يعود الحَرَاك كما كان»، لكن رغم ذلك يتوقع استمرار المسيرات في الشوارع للمطالبة بمزيد من الحريات والإصلاحات السياسية»، لكنه يقلل من قدرة هؤلاء على التأثير الفعلي على النظام دون الاستفادة من الأخطاء التي ارتكبت وبالنهاية يرى أن «النظام لا يمكن أن يصلح نفسه بنفسه، لأن التغيير العميق يأتي من الشعب وحده».
من جانبه سجل القيادي في «حركة مجتمع السلم» ناصر حمدادوش في حديثه لـ«المجلة» أهم الملامح الإيجابية والسلبية للحراك خلال عامه الأول، وبالنسبة للملامح السلبية فقد لخصها في «غياب القيادة الموحّدة والمشروع الجامع والمطالب المتفق عليها»، ويشرح ذلك بالقول: «مهما رُوّج لأفضلية عدم تمثيل الحراك الشعبي والقيادة له والنطق باسمه، للتباينات الكبيرة بين مكوّناته وانعدام الآلية الديمقراطية في تمثيله ولأزمة الزّعامة المستحكمة عند بعضه والخشية من الاستفراد والتدجين لقيادته فإنّ أي مشروع وأي ثورة وأي فعل تغييري يفتقد لذلك لا يُكتب له النجاح، وسيبقى مفتقِدًا للآليات والإجراءات والأدوات التنفيذية للمشروع وللمطالب الشعبية، وهو ما جعل الحراك ضعيفًا أمام السلطة التي أخذت زمام المبادرة وفرضت خارطتها وأجنداتها».  
واعتبر حمدادوش أن حالة الاستقطاب والانقسام والأنانية أثرت سلبًا، ودفعت نحو «انفجار الهويات الفردية والجماعية، وانبعاث الخصوصيات الثقافية والعرقية والآيديولوجية والحزبية والفئوية، والتي تلوّح في بعض الثورات بمشروع دويلات داخل الدولة الواحدة، لها نفوذها الجغرافي وحدودها الفاصلة، ولها رعاتهاوأتباعها وأدواتها، وهي من الأوتار التي تعزف عليها قوى الثورة المضادّة لتفجير الحَراك الشعبي، وهو ما يتطلب الارتقاء إلى البُعد الوطني، والاصطباغ بالمشترك من القيم السّياسية والإنسانية، والجُنوح إلى التوافق الوطني، وليس إلى المزايدات الشّعبوية أو التنافس السّياسي قبل أوانه».


حمداودش انتقد أيضا «حالة الاحتقان والتيه التي سممت الأجواء بين الجماهير بخطابات ووعود شعبوية، واستمرار الوجوه القديمة في قيادة مرحلة الانتقال الديمقراطي، وتصدّرها لتأثيث المشهد العام بشكلٍ أو بآخر»، وكأنه مقدرٌ... يتابع: «على الشعب أن يتعايش دائما مع نفس الرموز التي كانت طرفًا في الأزمة وسببا في مصيره البائس، وهو بذلك تخلّص من بعض رموز النظام لا كلّها، ناهيك عن القطيعة الكلية مع النظام في حدّ ذاته وفي منظومته القانونية والإدارية والمؤسساتية الفاسدة والمفلسة أفقيًّا وعموديًّا، مركزيًّا ومحليًّا، وهو ما أوحى بحقيقة مرّة وهي إعادة استنساخ النظام لذاته».
ومن الملاحظات السلبية التي سجلها «الالتفاف على بعض المطالب السياسية والأساسية، وتفويت فرصة التغيير الحقيقي والشامل، باختزال الديمقراطية في بُعدها الإجرائي وهي الانتخابات مهما كانت، وأنّ الاستحقاق الأول لمرحلة ما بعد أي ثورة شعبية لملء الفراغ المؤسّساتي هو مجرد الاحتكام إلى أي مسار انتخابي ولو كان أعرج، تحت ذريعة الاستعجال بالاحتكام إلى الإرادة الشعبية وطي المراحل الانتقالية، دون إدراك الأبعاد الحقيقية والأركان المتعدّدة للديمقراطية، واحتواء المطالب السياسية بإصلاحات شكلية لا تحقّق الحد الأدنى من مطالب الحَراك، كما حدث مع إصلاحات 2011م والتعديل الدستوري 2016م».
وبالنسبة للملامح الإيجابية للحراك لخصّها في «كسب معركة الهويّة والقيم وذلك بالصبغة الحضارية لهذا الحَراك الشعبي رغم زخمه المليوني، إذ حافظ على السّلمية ولم ينزلق إلى أي شكلٍ من أشكال العنف المادي، مقارنة مع بلدان الربيع العربي التي غرقت في حمامات الدّم، وهو إنجازٌ يُحسب لجميع أطراف المعادلة، رغم حالات الاحتقان ومحاولات الاستفزاز واستهدافات الاختراق الآثم». إلى جانب «تنامي الوعي السياسي وانخراط كلّ مكونات الشعب الجزائري في العمل السياسي والاهتمام بالشأن العام والرّغبة الجامحة في التغيير، والتجريم الجماعي للفساد والتزوير والإدانة العامة للمرحلة السابقة».
برأي حمدادوش فإن «الحَرَاك أثبت بالدليل الملموس إمكانية التغيير السّلمي، وكسر رموز الفساد مهما بلغوا من النفوذ والقوة، وتحطيم تلك الأصنام السياسية والعسكرية والأمنية والمالية والإعلامية وإسقاط الوسائط الوهمية للنظام حتى يكونوا عبرة لغيرهم».
وفي مساهمة له نشرها عبر صفحته الرسمية في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، يعتقد الكاتب والباحث في علم الاجتماع السياسي عمار جيدل أن ما وصفه بـ«الحراك المبارك» يبقى «وفيا لمبادئه المنشئة ثابتا غير مبدّل، متشبّثًا بسلميته، هذه السلمية التي أبهرت العالم وبيّنت بوضوح أنّ العنف دخيل على الجزائري، فليس في الجزائريين ولا منهم من يدعو إلى استعمال العنف لأجل الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، ومن مال إلى هذه الأساليب في الغالب لا يكون إلا راغبا في المحافظة على مكاسب غير شرعية أو غير مشروعة».
وبمناسبة مرور عامه الأول توقف جيدل عند مكامن القوة في الحراك الجزائري غير المسبوق بهدف «التفكير الجدي في نشرها وتنميتها لأجل صناعة وعي بها، وتحويله إلى حراك مجتمعي يحقق الأهداف الكبرى للحراك المبارك».
جيدل يجزم أن «الحراك حراك شعبي يعبّر عن الجزائر العميقة بمختلف ألوانها وطيب خلالها، فلا اصطفاف فيه غير التعبير عن نزوع نحو الحرية والعدالة ودولة القانون القائمة على الشرعية الشعبية السيّدة، فلا سيّد ولا مسود، شعب يريد أن ينفع لكي ينتفع بخدمة وطنه، حارسا على مكاسبها». ويتابع: «اتفقت كلمة الحراكيين جميعا على حقّ الجميع - دون استثناء - في التعبير عن آرائهم السيّدة من دون وسيط مؤدلج أو وسيط سمسار، فالدافع الجميع عن الجميع بلا أوامر فوقية أو توجيهات آيديلوجية»، والعاقل حسب حديثه «عندما يرى هذا التصرّف أغلبيا، يبني عليه النظر إلى المستقبل، لا أن يعمد إلى اصطياد مظاهر سلبية ظهرت هنا وهناك، فيضخّمها لأجل تسويد صحائف الحراك، والنفث في روع عموم الناس أنّه لا أمل ينتظر منه، والعقلاء مجمعون على أنّ التحليل المتعلّق بالتصرفات الإنسانية والاجتماعية مبناه القاعدة الأغلبية لا الاستثناء، فإذا وجدت من يركّز على الاستثناء لأجل نسف قاعدة أغلبية، ففتّش عن السبب في العوامل النفسية، والانتفاعية، والارتباطات الشللية... لأنّه لا تفسير لها في غير العوامل المشار إليها أو ما شابهها».
اجتماع الحراك على مطلبي الحرية والسيادة الشعبية، برأي جيدل «صهرهم في بوتقة الوحدة الوطنية السيّدة التي تروم الثبات على مبادئ الحراك في مدافعة الاستبداد، وتفكيك مؤسسات إنتاج الفساد واستنساخه، فلم تثنهم التشويهات والتهويلات عن مقاصده العظمى، رغم صدورها عن سماسرة السياسة، الذين صرفوا هِمم بعض الطيّبين إلى معارك مصطنعة هامشية تراهن على توظيفهم المرحلي في غير معركة دفع الاستبداد وتفكيك مؤسسات الفساد، وقد كان لهم ما أرادوا، ولكن ما لبث أن رجع عدد غير قليل منهم إلى الطريق العام الذي سلكه الحراك الشعبي المبارك».


كرونولوجيا عام من الحَرَاك الشعبي الجزائري
9 فبراير: معاذ بوشارب أمين عام حزب جبهة التحرير الوطني (حزب الأغلبية) يعلن رسميًا ترشح الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة في تجمع شعبي بالقاعة البيضاوية وسط العاصمة الجزائر.
10 فبراير: اعتقال الناشط إبراهيم لعلامي في مدينة برج بوعريريج شرقي العاصمة الجزائر بعد قيادته لمسيرة رافضة لترشح بوتفليقة لولاية خامسة.
16 فبراير: مسيرة حاشدة في مدينة خراطة بولاية بجاية ترفع شعار لا للعهدة الخامسة.
17 فبراير: نحو ألف شخص يشاركون في العاصمة الفرنسية باريس، في وقفة احتجاجية ضد العهدة الخامسة تلبية لنداء تم تداوله عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
19 فبراير: تجمع مئات المتظاهرين بوسط مدينة خنشلة لاستقبال الناشط السياسي رشيد نكاز، وردًا على استفزاز مسؤول محلي قام المتظاهرون بإسقاط صورة عملاقة للرئيس المستقيل وسط هتافات: «نحي التصويرة وخلي لعلام» في إشارة إلى نزع الصورة وترك العلم الوطني الذي كان معلقا بجانبها.
20 فبراير: أحزاب سياسية وشخصيات معارضة تعلن عن دعمها لما وصفته بـ«الحراك الشعبي» المناهض للعهدة الخامسة.
22 فبراير: يوم غير عادي تشهده الجزائر بعد خروج مئات الآلاف في مدن جزائرية كثيرة رفضا للعهدة الخامسة رافعين شعار «لا بوتفليقة لا السعيد» في إشارة إلى شقيق بوتفليقة.
23 فبراير: أمين عام جبهة التحرير الوطني معاذ بوشارب يستفز الجزائريين ويعلن «بوتفليقة مرسول من الله» ويتمسك بترشحه.
11 مارس (آذار): بوتفليقة يوجه رسالة إلى الأمة يٌعلن فيها عن تأجيل تنظيم الانتخابات الرئاسية المقررة ليوم 18 أبريل 2019 وعدم ترشحه لعهدة رئاسية خامسة. كما أعلن عن إجراء «تعديلات جمة» على تشكيلة الحكومة وتنظيم الاستحقاق الرئاسي عقب الندوة الوطنية المستقلة تحت إشراف حصري للجنة انتخابية وطنية مستقلة.
11 مارس: الوزير الأول أحمد أويحيى يقدم استقالته لبوتفليقة، واستخلافه بالوزير الأول نور الدين بدوي، والحراك يصف قرار تأجيل الانتخابات بتمديد غير مباشر للعهدة الرابعة، والملايين في الشارع ترفع شعار ارحل فورا يا بوتفليقة.
26 مارس: أحمد قايد صالح، نائب وير الدفاع وقائد أركان الجيش الوطني الشعبي يفجر قنبلة من العيار الثقيل حين تحدث في كلمة ألقاها بورقلة عن ضرورة إيجاد مخرج من الأزمة التي تعيشها البلاد، وحسب ما قال فإن المخرج يجب أن يكون عبر بوابة الدستور بتطبيق المادة 102 منه التي تنص على شغور منصب رئيس الجمهورية.
28 مارس: جمعة الإصرار ورفع شعار «يتنحاو قاع» أي يرحلوا جميعا.
30 مارس: بيان جديد لقيادة الأركان عاد من خلاله رئيس أركان الجيش الوطني الفريق أحمد قايد صالح للحديث عن اقتراحه للخروج من الأزمة التي تعرفها البلاد، حيث كان الجديد فيها هو تطرقه إلى المادتين 7 و8 من الدستور إلى جانب المادة 102 التي كان قد طالب بتفعيلها في 26 مارس الماضي.
2 أبريل (نيسان): رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة يخطر رسميا رئيس المجلس الدستوري بقراره إنهاء عهدته بصفته رئيسا للجمهورية.
3 أبريل: توقيف علي حداد المقرب من بوتفليقة متنكرا في الحدود التونسية وإيداعه السجن بتهم فساد.
5 أبريل: إنهاء مهام الجنرال طرطاق بوصفه مديرًا للمخابرات.
9 أبريل: تعيين رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح رئيسًا مؤقتا للجزائر. والحراك يتواصل، ويرفع شعارات رحيل الباءات الأربع وهم: رئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز، ورئيس الحكومة نور الدين بدوي، ورئيس البرلمان معاذ بوشارب، ورئيس الدولة المؤقت عبد القادر بن صالح.
16 أبريل: رئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز يقدم استقالته وقائد الأركان يوجه إنذاره الأخير لقائد جهاز المخابرات الأسبق الفريق محمد مدين المعروف بالتوفيق.
23 أبريل: إيداع رجل الأعمال المعروف ربراب سجن الحراش.
5 مايو (أيار): التلفزيون العمومي يبث صورا لتوقيف سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس بوتفليقة، وقائدي جهاز المخابرات سابقا الفريق توفيق مدين، واللواء بشير طرطاق. وإيداعهم الحبس المؤقت بتهم «المساس بسلطة الجيش» و«المؤامرة ضد سلطة الدولة». والرئيس المؤقت يعلن تمسكه برئاسيات 4 يوليو (تموز).
2 يونيو (حزيران): المجلس الدستوري يعلن للمرة الثانية تأجيل الانتخابات الرئاسية، وبقاء بن صالح رئيسا إلى حين انتخاب رئيس جديد للبلاد.
12 يونيو: إيداع الوزير الأول السابق أحمد أويحي سجن الحراش بتهم فساد، وبعد ذلك بيوم يلتحق به الوزير الأول السابق ومدير حملة بوتفليقة عبد المالك سلال بتهم فساد.
29 يونيو: اعتقال المجاهد لخضر بورقعة أحد أبرز مجاهدي ثورة التحرير والمساندين للحراك.
2 يوليو (تموز): معاذ بوشارب رئيس البرلمان يقدم استقالته.
8 سبتمبر (أيلول): عبد القادر بن صالح، رئيس الدولة، يستقبل أعضاء لجنة الحوار والوساطة بقيادة كريم يونس، التي سلمت له تقريرها النهائي عقب انتهاء عملها وتصب الوثيقة في اتجاه تنظيم الرئاسيات في أقرب وقت مع تعديل قانون الانتخابات.
12 سبتمبر: قاضي التحقيق لدى محكمة القليعة، يأمر بإيداع الناشط السياسي كريم طابو، رهن الحبس المؤقت بتهمة إضعاف معنويات الجيش.
15 سبتمبر تحديد 12 ديسمبر (كانون الأول) كموعد للرئاسيات وتعيين وزير العدل الأسبق محمد شرفي رئيسا للهيئة المستقلة لتنظيمها.
25 سبتمبر: محكمة عسكرية تقضي بالسجن 15 عاما على سعيد بوتفليقة وطرطاق والتوفيق إلى جانب رئيسة حزب العمال لويزة حنون بتهمة «التآمر ضد سلطة الدولة».
مطلع ديسمبر (كانون الأول) بداية أول محاكمة بتهم الفساد ضد رئيسي وزراء سابقين، ومسؤولين سياسيين آخرين، وآخرين في قطاع تصنيع السيارات، وقضت المحكمة في العاشر من ديسمبر بالسجن 15 سنة ضد رئيس الوزراء السابق أحمد أويحيى و12 سنة لسلفه عبد المالك سلال بعد إدانتهما بالفساد.
12 ديسمبر: عبد المجيد تبون، الذي سبق أن تولى مناصب رسمية في عهد بوتفليقة، يفوز بالانتخابات الرئاسية التي قاطعتها المعارضة واتصفت بنسبة امتناع مرتفعة (أكثر من 60 في المائة).
23 ديسمبر: وفاة الفريق أحمد قايد صالح إثر تعرضه لأزمة قلبية عن 79 عامًا.
ومنذ بداية 2020. أفرج عن عشرات الموقوفين الملاحقين في إطار الحراك بعدما قضوا مدد عقوباتهم أو نتيجة استفادتهم من عفو.

font change