عراق صدام حسين: مطاردة الشيوعيين.. وتعقيدات العلاقة مع واشنطن

عراق صدام حسين: مطاردة الشيوعيين.. وتعقيدات العلاقة مع واشنطن

[caption id="attachment_55247605" align="aligncenter" width="620"]في ابريل (نيسان)2003 دخلت قوات التحالف بقيادة امريكية إلى بغداد وأسقطت ما بات يعرف في العراق بـ(أصنام) صدام . في ابريل (نيسان)2003 دخلت قوات التحالف بقيادة امريكية إلى بغداد وأسقطت ما بات يعرف في العراق بـ(أصنام) صدام . [/caption]

من المهم تقدير شفافية الصحافي عندما يروي سيرته الذاتية، فيضع قراءه في أجواء تفاصيل تخص علاقات صداقة مع مسؤولين تولوا مواقع بالغة الحساسية. ذلك وضوح مهم لمصداقية الراوي، وللمعني بفهم مرحلة ما. فمن يمر على صورة لعدد من الأشخاص في طرفة عين، غير الذي يمعن النظر، فيتأمل كل شخص، الجالس والواقف، ترتيب الصفوف، نظرات الأعين، قسمات الوجوه، حركات الأيدي، ذلك أن دارس المشهد يراه من جوانبه كافة، فيلتفت لما قد لا يستوقف انتباه الآخرين.

ضمن هذا الفهم، يمكن إدراج كتاب الصحافي اللبناني المخضرم سليمان الفرزلي «علامات الدرب – سيرة ذاتية – الطبعة الأولى: يناير (كانون الثاني) 2013» إذ يعرض من التفاصيل ما أرجح أن يحجم عن مجرد التلميح إليها أغلب المثقفين العرب، لاعتقادهم أنها قد تضر بما تكون عنهم من صور لأشخاصهم في أذهان معظم قرائهم. وفي هذا السياق، يتضمن كتاب الفرزلي تفاصيل تهم كل دارس لأوضاع عراق صدام حسين، من البدايات الواعدة إلى انتكاسات منتصف الطريق، حتى هاوية النهاية المهينة في أبريل (نيسان) 2003، التي عجل بها، في رأيي، فشل صدام حسين في تحمل أن يكون رئيس عراق يتسع لأحد غيره كزعيم، حتى داخل حزبه. هذا جانب يتضح من خلال حوارات صريحة جرت بين سليمان الفرزلي وبين الدكتور فاضل البراك، أحد أهم مسؤولي أمن عراق صدام حسين، إلى أن واجه هو أيضا لحظة الشك بولائه المطلق، ومنها فورا إلى حتفه المحتوم.

خلال زيارة لموسكو ربيع 1971، تعرف الفرزلي على البراك وهو يومئذ معاون الملحق العسكري العراقي، فنشأت بينهما (صداقة دائمة استمرت سنوات طويلة، وكانت الأحاديث والمناقشات والمراسلات بينه وبيني صريحة تكاد تكون بغير تحفظ حتى في بعض الأمور الحساسة، فكنا نسمي الأشياء بأسمائها، ونتناول المواضيع بأسلوب من الظرف والفكاهة والنكات أحيانا، فكان معشره لطيفا مرحا ودودا وخالصا من الغايات. أقول ذلك وأنا أعرف أن كثيرين فيما بعد، خصوصا في فترات ترؤسه أجهزة أمنية غليظة السمعة، كانت لهم فيه آراء مختلفة، لأنه من الطبيعي أن تلحقه السمعة السائدة لنظام صدام حسين، الذي كان البراك في النتيجة من أبرز وجوهه ومن أبرز ضحاياه أيضا. ولعل فاضل البراك كان أحد القلائل من أركان عهد صدام حسين الذين كانوا ينتقدون بعض شواذات وشوائب النظام علنا، وقد قرأت مرة حديثا صحافيا لرئيس الأركان الأسبق للجيش العراقي، الفريق الركن نزار الخزرجي، اللاجئ آنذاك إلى الدنمارك، قال فيه إنه «نصح فاضل البراك بأن يضبط لسانه، وأن يلزم الحذر في كلامه عن سياسات النظام».

[caption id="attachment_55247601" align="alignleft" width="150"]الغلاف الخارجي لكتاب علامات الدرب الغلاف الخارجي لكتاب علامات الدرب[/caption]
ثم يروي الفرزلي جزئية ربما لا تبدو ذات أهمية، يقول: «وعندما غادرت موسكو بعد أيام رافقني البراك إلى المطار، ودفع عني بالروبلات الروسية المترتبات على زيادة الوزن في حقائبي المليئة بعلب السيجار الكوبي وبما اشتريته من هدايا». ما الأهمية هنا؟ بتقديري، هي قرار البراك مرافقة الفرزلي للمطار، ولم يمض على المعرفة بينهما سوى تسعة أيام، كما حددها الكاتب بنفسه، وهو – تكرار - المقدرة صراحته في الكتابة، فلا عجب بعد ذلك إن (كانت الأحاديث والمناقشات والمراسلات بينه وبيني صريحة تكاد تكون بغير تحفظ حتى في بعض الأمور الحساسة)، وعبر ما يتضمن الكتاب عن تلك المناقشات يطل القراء على مشاهد سياسية وصحافية ذات قيمة مرجعية.

من ذلك، كمثال أيضا، نقاش يقول الفرزلي إنه فتحه (في السهرة الطويلة التي قضيتها مع البراك في حديقة مقر الأمن العام خلال زيارتي الأولى إلى العراق في عهد صدام حسين) بشأن (المبعدين العراقيين المتحدرين من أصول إيرانية إبعادا جماعيا وتعسفيا، فقلت له، هل تعتقد بأن جميع هؤلاء يشكلون طابورا خامسا؟ قال: لا، لكن هناك "فد" احتمال، فلا تنس أننا في حرب ضروس مع إيران، ومن المستبعد أن يكون هؤلاء في الصف العراقي، وبالتالي فهم موضع شبهة وإبعادهم هو من قبيل الاحتياط). ساد صمت، ثم لاحظ الفرزلي أن البراك يريد استكمال الحديث، فينقل عنه قوله إن «الأميركيين فعلوها برعاياهم من اليابانيين في الحرب العالمية الثانية»، لكن الفرزلي يجيبه: «تتشبهون بالأميركيين، لا شك في أنك تعرف أن الأميركيين لا يؤتمن لهم، لا تدرون متى ينقلبون عليكم، لهم سوابق كثيرة».

بعد إصغاء وإشعال سيجار يرد البراك بما ليس سرا على أي ملم بأبجديات السياسة، إنما مهم أن نقرأه منقولا عن فاضل البراك: «لكل دولة سياسة معلنة وسياسة غير معلنة، سياسة سرية تحت الطاولة، وقد تكون الواحدة مناقضة للأخرى وغير متطابقة معها تماما. لكن السياسة غير المعلنة أصعب وأكثر دقة، لأنه يتوجب صياغتها بشكل يمكن معه تبريرها لاحقا، أو إذا انكشف أمرها، فالسياسات المعلنة هي الشعارات والدعايات والدعاوى الحماسية. لذلك فإن سياستنا مع أميركا معقدة وليس لها هيكلية ثابتة».

في شأن مهم هو الآخر، يأخذ صاحب «علامات الدرب» قراءه إلى مشهد يتعلق بالحزب الشيوعي العراقي. يقول الفرزلي: «تناولنا بالبحث والنقاش موضوع الشيوعية والنظام الاشتراكي، فكانت له تحفظات واضحة على الشيوعيين العراقيين تصل أحيانا إلى درجة العداء السافر»، وتلفت النظر هنا مقارنة الكاتب لدور البراك بفكر حنا بطاطو في أطروحته للدكتوراه في هارفارد بعنوان: «الشيخ والفلاح في العراق 1917 - 1958». فكتاب البراك «السري» الصادر بالاسم المستعار، «سمير عبد الكريم»، بعنوان: «أضواء على الحركة الشيوعية العراقية»، يرى الفرزلي أنه (هو المرجع الأهم الصادر حتى الآن حول الموضوع لأنه تضمن معلومات لا يعرفها حتى الشيوعيون أنفسهم)، ثم يذهب لمقارنة لافتة: «فإذا كانت دراسة بطاطو غايتها تسليط الأضواء على الحركة الشيوعية من خلال النسيج الاجتماعي العراقي، فإن غاية كتاب (الأضواء) هي تفكيك الحركة الشيوعية بحيث لا تقوم لها قائمة».

بين صفحات «علامات الدرب» يعرض سليمان الفرزلي أعراض سياسات انفصام مارستها أنظمة عربية فأوصلت شعوبها، والمنطقة كافة، إلى نتائج كارثية، وما جرى في عراق صدام حسين وله، ثم ليبيا معمر القذافي، وصولا لما يجري في سوريا ولها، هو قليل من كثير شواهد دامغة على عواقب تلك السياسات.


* سبق أن كتبت مقالة تضمنت عرضا لجوانب إضافية في الكتاب ذاته، نشرتها صحيفة «إيلاف» الإلكترونية تحت عنوان (صدمات المشهد السياسي والصحافي في "علامات درب" سليمان الفرزلي) بتاريخ الاثنين 13 مايو (أيار) 2013

font change