إعصار أوروبي على الساحل الليبي

أغرق قادة طرابلس في خلافات جديدة... وأثار موجة من الاستقطاب الدولي

إعصار أوروبي على الساحل الليبي

[caption id="attachment_55260883" align="aligncenter" width="2148"]المشير خليفة حفتر في ضيافة الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون في باريس (غيتي) المشير خليفة حفتر في ضيافة الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون في باريس (غيتي)
[/caption]


* الإيطاليون على شواطئ طرابلس والخُمس... والفرنسيون في بحر صبراتة وجنزور... والإنجليز قرب ميناء زوارة.
* اتهامات بين رجال محسوبين على اتفاق الصخيرات بالمجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي بشأن معاهدات مع أطراف أوروبية.
* حفتر يهدد... وترقُّب في مصر والجزائر وتونس... والروس يدخلون على الخط... وألمانيا تراهن على فرص في إعادة الإعمار.





طرابلس: عبد الستار حتيتة

أدى وصول زوارق وقطع بحرية حربية من دول أوروبية، خصوصاً إيطاليا، إلى الساحل الليبي، لخلافات جديدة بين قادة في العاصمة طرابلس، وأثار أيضاً موجة من الاستقطاب الدولي.
بدأت هذه التطورات منذ أواخر الشهر الماضي، وذلك بالتزامن مع الزيارة التي قام بها رئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج، إلى باريس، حينذاك، حيث التقى هناك بقائد الجيش الوطني، المشير خليفة حفتر، في ضيافة الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون.
وبعد زيارة الخصمين الليبيين، السراج وحفتر، إلى باريس، بوقت قليل، طلب الإيطاليون اللقاء برئيس المجلس الرئاسي، في روما. وعقب ذلك بساعات، التقطت المخابرات العسكرية على الساحل الليبي وصول قطع بحرية إيطالية إلى الشواطئ الغنية بالغاز الطبيعي والنفط، أمام مدن طرابلس ومصراتة والزاوية والخُمس.
ولم يمض يوم إلا وظهرت زوارق فرنسية في بحر بلدتي صبراتة وجنزور، القريبتين من طرابلس أيضا، وفقا لشهود عيان من خفر السواحل الليبي. ثم رصدت نقاط مراقبة على الشواطئ مرور زوارق إنجليزية قرب ميناء زوارة في غرب العاصمة. وشعر المصريون والروس وأطراف أخرى بالقلق. ووجهت كل من القاهرة وموسكو دعوات لحفتر لزيارتهما لبحث التطورات الجديدة، وهو ما حدث خلال الأسبوعين الأخيرين.
وأشعل التدفق العسكري الأوروبي عل الساحل الغربي في ليبيا، نار الاتهامات بين رجال محسوبين على اتفاق الصخيرات، خصوصا في المجلس الأعلى للدولة، الذي يرأسه الدكتور عبد الرحمن السويحلي، والمجلس الرئاسي، برئاسة السراج، بشأن طبيعة المعاهدات التي جرى إبرامها في الشهور الأخيرة مع أطراف أوروبية.


العلاقة بين روما وطرابلس




وتقدم محامون في طرابلس للنيابة مطالبين بالتحقيق في الأمر. وعلى الجانب الآخر من البحر المتوسط خصصت وسائل إعلام أوروبية، معظمها إيطالية، مساحات واسعة للموضوع، نظرا للحساسية التاريخية بين روما وطرابلس، حيث كان الإيطاليون يمثلون سلطة احتلال في ليبيا، في النصف الأول من القرن الماضي.

[caption id="attachment_55260887" align="alignleft" width="594"]ماكرون يتوسط حفتر والسراج ماكرون يتوسط حفتر والسراج[/caption]

وفي خطوة تؤشر إلى أن وصول الأوروبيين السريع والمفاجئ إلى الساحل الليبي، لم يكن موجودا على طاولة ماكرون، أثناء حديثه مع حفتر والسراج في أواخر يوليو (تموز)، هدد قائد الجيش بالتصدي لأية سفن إيطالية تقترب من المياه الإقليمية الليبية دون تصريح، بينما ظل تحرك الزوارق الفرنسية والإنجليزية بعيداً عن الأضواء، فيما تقول مصادر غربية إن هذه التحركات تأتي ضمن عملية «صوفيا» الأوروبية للمراقبة في البحر المتوسط.
وتوجه حفتر عقب ذلك إلى مصر التي تترقب التداعيات الجديدة هي ودول الجوار الأخرى، خصوصا الجزائر وتونس، فيما دخل الروس على الخط، في محاولة على ما يبدو إلى عدم ترك الساحة للأوروبيين. وظهر قائد الجيش الليبي في موسكو، وهو يتحدث بثقة، وسط كبار المسؤولين الروس. ومع مرور الوقت ارتفعت وتيرة الانتقادات الليبية لما بدأ يظهر على السطح من اتفاقيات بين السراج وأطراف أوروبية، خصوصا مع الإيطاليين الذين تسببوا في إثارة الصخب، مقارنة بالفرنسيين والإنجليز والأميركيين، الذين يبدو أنهم يفضلون العمل بعيدا عن الأضواء في هذه المسألة.
وأدى التحرك العسكري الإيطالي في اتجاه السواحل الليبية للغط كبير داخل إيطاليا نفسها، ويقول أحمد قذاف الدم، المسؤول السياسي لجبهة النضال الوطني الليبية، والذي اهتمت الصحافة الإيطالية بالاستماع إلى وجهة نظره في هذا الموضوع، إن ليبيا ليس فيها حكومة شرعية حتى تتعامل معها إيطاليا وتوقع معها الاتفاقيات. كما تحدث قذاف الدم لوسائل إعلام إيطالية من بينها محطة «راي نيوز 24» التلفزيونية.
ودفعت الضغوط التي قامت بها شخصيات سياسية إيطالية ودولية وكذلك وسائل إعلام مختلفة، بنائب وزير الخارجية الإيطالي، ماريو جيرو، إلى اعتبار التدخل الإيطالي في ليبيا خطأً. وهاجم جيرو، الذي يمثل ائتلافا رئيسيا في حكومة رئيس الوزراء الإيطالي، في حوار أجرته معه صحيفة «لاستامبا» تلك الخطوة بقوة، واصفا إياها بغير الناضجة.

المشهد السياسي والعسكري الليبي




وأشار في هذا السياق إلى المحاولة التي قامت بها فرنسا، ونجاحها في جمع الشخصين المؤثرين في المشهد السياسي والعسكري الليبي، السراج، وحفتر. وأكد جيرو، الذي يتبنى خطا أوروبيا توافقيا، على أن فرنسا هي من كانت المسبب الرئيسي في حالة الفوضى في ليبيا، قائلا إنها تحاول الآن معالجة الموقف. كما حث رئيس الحكومة الإيطالية بعدم المراهنة على الميليشيات التي تسيطر على طرابلس. وقال إن الميليشيات هي من يقف وراء الانفلات الأمني والهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر.
ويقول قذاف الدم عن حكومة السراج التي تتعاون معها حكومات عدة بلدان أوروبية، إنها لن تصبح حكومة شرعية قبل أن تمر على البرلمان الليبي، وهو أمر لم يحدث حتى الآن. ووصف الوجود العسكري الإيطالي في مصراتة وطرابلس ومحاولة الإيطاليين الحصول على قاعدة في مطار طرابلس، وشراء الأراضي من المواطنين، لتوسيعها، بالسلوك الذي لا ينم عن صداقة، ويمثل إهانة للشعب الليبي.
وبينما يركز الإيطاليون على الوجود العسكري الظاهر للعيان، تبدو تحركات باقي الأطراف الأوروبية مختلفة. فألمانيا على سبيل المثال لديها اهتمام كبير ببناء مطارات مدنية منها اقتراح بمطار في بلدة ترهونة، وبتوريد محطات كهرباء، وضمان حصة في إعادة الإعمار مستقبلا. بينما تريد بريطانيا الحفاظ على مصالح شركاتها النفطية التي سبق ووقعت عقودا للتنقيب في عهد معمر القذافي. وتسعى فرنسا لعلاقات قوية مع الأقليات غير العربية في ليبيا، سواء في غرب طرابلس أو في جنوب ليبيا لأهداف تتعلق بروابطها وبمصالحها التاريخية في وسط القارة الأفريقية.
ويوجد تنافس تاريخي، يعود لأيام الحربين العالميتين الأولى والثانية، حول ليبيا، بين كل من إيطاليا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا. لكن دخان هذه المنافسة لم يظهر على السطح إلا يوم 25 الشهر الماضي، حين عقد السراج وحفتر اجتماعا في إحدى ضواحي باريس بمبادرة من الرئيس ماكرون. وكان الهدف المعلن هو السعي للتوصل إلى تفاهم سياسي بين أبرز طرفين في النزاع الليبي.
ويبدو أن ترتيب زيارة السراج وحفتر إلى باريس كانت تقف وراءه أطراف إقليمية تريد قطع الطريق أمام الجهود المصرية والإماراتية للتوفيق بين الرجلين. فقد سبق لمصر أن أعدت ورقة بمثابة خارطة طريق للحل في ليبيا. كما استضافت السراج وحفتر دون أن يكون هناك لقاء مباشر بينهما، فيما تمكنت أبوظبي من جمعهما معا. كما أن استقبال ماكرون لكل منهما لم يكن قد جرى الإعداد له بشكل جيد على ما يبدو. ويقول مصدر دبلوماسي إن وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، بدا أن لديه تحفظات بهذا الشأن.


اتفاق الصخيرات



ومن المعروف أن أبرز داعمي حفتر هم مصر والإمارات وروسيا، حيث يسيطر القائد العسكري على مناطق واسعة من شرق البلاد وجنوبها، بينما تهيمن ميليشيات تتبع السراج على العاصمة طرابلس ومناطق من شمال غربي البلاد. وحاولت البعثة الأممية في ليبيا التوفيق بين الرجلين عقب تولي السراج مقاليد السلطة وفقا لاتفاق الصخيرات الذي تم توقيعه أواخر عام 2015، في المغرب، بين عدد من الخصوم الليبيين، لم يكن حفتر من بينهم.
وفي لقاء باريس وقَّع الخصمان الليبيان على إعلان مشترك يحدد مبادئ الخروج من الأزمة، إلا أن هذه الخطوة سبقتها انتقادات أطراف إيطالية عن طبيعة الدور الفرنسي وعن عدم وجود علم مسبق لروما بالزيارة التي تهم جميع الأوروبيين نظرا لما أصبحت تمثله ليبيا من خطر على القارة العجوز سواء في ما يتعلق بالهجرة غير الشرعية انطلاقا من الساحل الليبي، أو خطر وجود تنظيمات متطرفة في ليبيا قريبة من شواطئ أوروبا، ومنها تنظيم داعش الذي لوحظ أنه ينفذ خطة للهجرة من المناطق التي هزم فيها في العراق وسوريا والانتقال إلى شمال أفريقيا.
ويقول أحد المقربين من المجلس الرئاسي الذي يرأسه السراج، إن اللقاء مع ماكرون لم يتضمن أي إشارات لاتفاقات عسكرية جديدة بين الطرفين الفرنسي والليبي، وإنما تركز على بحث الحل السياسي من خلال وقف إطلاق النار عامة في ليبيا بحلول ربيع العام المقبل. وهذا أمر وجد ترحيبا من الجهات المعنية بليبيا، وعلى رأسها البعثة الأممية ورئيسها الجديد، غسان سلامة.

وفي إشارة منه لاحتواء أي غضب من إيطاليا أو منافسيه الأوروبيين، صرح ماكرون بأن ما قام به من إجراءات بشأن ليبيا، هو مسار أساسي لأوروبا كلها. لكن يبدو أن روما لديها مخاوفها الخاصة، ولديها طموحها، ولديها أيضاً خلفيات قديمة ترى أن الساحل الليبي هو الشاطئ الرابع لإيطاليا.
وبعد عودة السراج من باريس، بدأت برقيات عسكرية ترد من على ساحل طرابلس ومصراتة وغيرهما، تتحدث عن وصول قطع بحرية عسكرية إيطالية. وتزامن مع هذا التحرك أنباء عن موافقة البرلمان الإيطالي على خطة لإرسال قطع بحرية إلى ليبيا، في إطار المحاولات للحد من عبور المهاجرين للبحر المتوسط باتجاه أوروبا، حيث وصل عدد هؤلاء المهاجرين، انطلاقا من ليبيا، إلى نحو 100 ألف مهاجر خلال هذا العام، وفقا للأمم المتحدة.
وقابل حفتر إجراءات روما بالغضب، ولوح بالتصدي لأية سفن إيطالية تقترب من المياة الإقليمية الليبية دون تصريح. لكن المناطق التي وصل إليها العسكريون الإيطاليون لا توجد فيها قوات تذكر موالية للجنرال الليبي. بل تخضع معظم هذه المناطق لنفوذ قوات تابعة للسراج، حيث تقول إيطاليا إن الترتيبات العسكرية مع الجانب الليبي تجري مع السراج بصفته ممثل الحكومة المعترف بها دوليا.
وأقلق الوجود الأجنبي على شواطئ غرب ليبيا، البرلمان الليبي الذي يعقد جلساته في مدينة طبرق، في شرق البلاد. وقال إن الاتفاقيات التي يبرمها السراج مع أطراف دولية، لا يعتد بها، لأن حكومة السراج لم تحظ بعد بمصادقة البرلمان. واعتبر نواب في البرلمان أن ما يحدث من وجود إيطالي، وغير إيطالي، على سواحل غرب ليبيا انتهاك لسيادة الدولة العضو في الأمم المتحدة.
ومن جانبه واصل قائد الجيش الوطني تهديداته لإيطاليا، قائلا إنه سوف يقوم بطرد أي سفن تدخل المياه الإقليمية لبلاده، بينما أعلنت أطراف في المجلس الرئاسي أن مهمة الإيطاليين هي فقط لتقديم تدريبات للجانب الليبي. وتأكيدا لذلك قالت روبرتا بينوتي، وزيرة الدفاع الإيطالية، إن تحرك بعض السفن في اتجاه الساحل الليبي لن يلحق أي ضرر ولو طفيف بالسيادة الليبية.

[caption id="attachment_55260888" align="alignright" width="300"]أحمد قذاف الدم أحمد قذاف الدم[/caption]

لكن، على الجانب الآخر، لم يمر الأمر مرور الكرام في المنطقة الغربية التي يسيطر عليها السراج، خصوصا في مدينة مصراتة ذات التسليح القوي، والتي تتشكل من معظم أبنائها وقادتها العسكريين ما يعرف باسم «قوات البنيان المرصوص».
كما أن رئيس المجلس الأعلى للدولة، الدكتور عبد الرحمن السويحلي، من قادة مصراتة أيضا، ويفخر دائما بأن عائلته كانت من محاربي الوجود الإيطالي في ليبيا قبل سبعين سنة، ومنها جده رمضان. وهو يرأس هذا المجلس الذي يعد أحد أجنحة السلطة التي أقرها اتفاق الصخيرات، مع مجلس السراج. وبدأ الجدل بين الرجلين، السويحلي ابن مصراتة، والسراج ابن طرابلس.

زيارة السراج للجزائر



ووصلت أول إشارة عسكرية من خفر السواحل الليبية عن وصول زوارق حربية إيطالية لشواطئ طرابلس والخُمس، يوم 29 الشهر الماضي. وفي هذا التوقيت كان السراج في زيارة للجزائر. وفي اليوم التالي تلقى مسؤولون في مصراتة وطرابلس إشارة أخرى عن وصول زوارق فرنسية إلى شواطئ بلدتي صبراتة وجنزور. واحتدم الجدل بين كبار القادة في طرابلس حول قضية الظهور العسكري الأوروبي على ساحل ليبيا.
وفي مكتب تابع للمخابرات العسكرية الليبية يقع في غرب طرابلس، بدأ فتح ملفات الوجود الإيطالي ودول أوروبية أخرى في ليبيا، خلال الشهور القليلة الماضية. واتضح أن الإيطاليين حصلوا أيضاً على حق بالوجود العسكري في مطار طرابلس. وأن الإنجليز يشعرون بالغضب لأسباب قديمة. ويقول مسؤول في استخبارات العاصمة: «مطار طرابلس العسكري يمثل حساسية كبيرة بين روما ولندن. هذا موضوع قديم. فبعد أن طرد معمر القذافي الإيطاليين عام 1969 من المطار، استعان بالإنجليز لبناء مطار جديد. لهذا يشعر الإيطاليون بالمرارة طوال عقود. واليوم يريدون القول ها نحن قد عدنا».
الاهتمام الإيطالي بليبيا قديم... وقديم جدا. لكنه في التاريخ الحديث يعود إلى أكثر من مائة عام، حين بدأ تقاسم النفوذ بين الأوروبيين - إيطاليا، وفرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، والنمسا - على شمال أفريقيا وفي البحر المتوسط، للتغلب على نفوذ الإمبراطورية العثمانية التي كانت في أيامها الأخيرة. لكن الإمبراطورية الروسية وقتذاك - ومثلما يحدث هذه الأيام - لم تكتف بالمشاهدة. بل مدت يدها للحصول على بعض المكاسب. وفي الوقت الحالي يمثل أي تطور في إمدادات الغاز من ليبيا لأوروبا، هاجسا كبيرا لروسيا، لأنها المصدر الرئيسي للغاز الذي يعتمد عليه الأوروبيون.
وحين قررت إيطاليا غزو ليبيا في مطلع القرن الماضي، كانت تتحجج بأن ولاة الدولة العثمانية يفضلون بلدانا أوروبية أخرى عليها، مثل فرنسا التي كانت تحتل تونس، وإنجلترا التي كانت تهيمن على مصر.
ويقول أحد العسكريين من قيادات مصراتة الرافضين للوجود الإيطالي على سواحل ليبيا: «روما تتبع نفس الطريقة القديمة. هي تتحجج اليوم بأنها جاءت لوقف الهجرة غير الشرعية من الشواطئ الليبية».

لكن، وفي المقابل، أعلن أيوب قاسم، المتحدث باسم القوات البحرية الليبية، أن الغرض من وصول السفينة التابعة للقوات البحرية الإيطالية، والمعروفة باسم «كوماندانتي بروزيني»، إلى قاعدة طرابلس البحرية، هو تعزيز التعاون الفني والقتالي والتدريبي بين الجانبين الإيطالي والليبي.
وفي مساء اليوم التالي وصلت برقية عسكرية من مركز ليبي في بلدة زوارة، غرب طرابلس، يقول مضمونها إن زوارق بريطانية حطت قرب ميناء البلدة، وإن أحد هذه الزوارق دخل إلى رصيف الميناء، ونزل منه عدد من العسكريين الإنجليز وإن من استقبلهم قياديان محليان من زوارة.
وبالنظر إلى البرقيات التي تتحدث عن ظهور زوارق فرنسية على الساحل الليبي، بدأت الأطراف الأوروبية تخشى من خطر المنافسة بين القطع العسكرية التابعة لها، وفقا لخبير أمني أميركي يعمل في مركز الفرسان في طرابلس.
وعقب هذه التحركات المفاجئة، وصل وفد من الاتحاد الأوروبي، إلى قاعدة طرابلس البحرية. كان وفدا ذا طابع أمني وعسكري، وكان من بين أعضاء الوفد الملحق العسكري في سفارة الاتحاد الأوروبي في ليبيا، وآمر عملية صوفيا، وهي عملية مراقبة أوروبية في البحر المتوسط، ورئيس بعثة الدعم الأوروبية في ليبيا المعروفة باسم «أوبام». وعقد الوفد الأوروبي اجتماعا في القاعدة الليبية، وتناول مسألة التنسيق في العمل على الشواطئ الليبية.

وسبق هذا اللقاء رسائل بين الإيطاليين والفرنسيين بشأن ليبيا، ومناقشات بين وزير الخارجية الإيطالي، أنجيلينو ألفانو، ونظيره الفرنسي، لودريان. وبدا أن هناك مخاوف من جانب الإيطاليين من مغبة انفراد الفرنسيين بالملف الليبي. ووفقا لمصدر دبلوماسي، فقد كان الإيطاليون، وهم يتحركون في اتجاه الشواطئ الليبية، يطالبون بأن تكون الكلمة العليا في ليبيا للبعثة الأممية المعنية بهذا البلد.
ويضيف المصدر نفسه أن الفرنسيين سألوا الإيطاليين عن سبب الدفع بتلك القطع البحرية إلى سواحل ليبيا. وأن رئيس الوزراء الإيطالي، باولو جينتيلوني، بعث برسالة لباريس مفادها أن تحريك القطع البحرية إلى الشاطئ الليبي، جاء استجابة لطلب المجلس الرئاسي في ليبيا للحصول على دعم إيطالي للبحرية الليبية التي تعمل في مجال مكافحة الهجرة غير الشرعية.


مطار طرابلس القديم



وبينما كانت المداولات بين روما وباريس تسير في طريقها، كان عسكريون إيطاليون آخرون يتجولون في مطار طرابلس القديم، وهو أمر أثار حنق البريطانيين، كما يقول أحد العسكريين في العاصمة الليبية.
ومن المعروف تاريخيا أن الإيطاليين هم من وضعوا اللبنات الأولى لمطار طرابلس كمطار عسكري في مطلع ثلاثينات القرن الماضي، حين كانت إيطاليا تحتل ليبيا. وبعد أن اكتمل بناؤه، أنشأت فيه مدرسة لسلاح المظلات والصاعقة، وأسست فيه أول كيان للقوات الخاصة التابعة لها، أطلقت عليه اسم «مطار ريجيا إيروناتيكا»، أو «مطار سلاح الجو الملكي الإيطالي». وبعد ذلك بنحو ثلاثة أعوام، وبينما كان الليبيون يخوضون حربا من أجل طرد الإيطاليين من بلادهم، انطلاقا من شرق ليبيا، قام الحاكم العسكري الإيطالي بتوسيع «مطار ريجيا إيروناتيكا»، حيث ألحق به قسما للطيران المدني، وغير اسمه إلى «مطار كاستيلو بينيتو».

وتبدل كل شيء بعد اعتراف الأمم المتحدة باستقلال ليبيا في بداية خمسينات القرن الماضي. وأصبح اسم المطار على اسم الملك الليبي إدريس السنوسي. وبعد تولي القذافي الحكم في عام 1969 أخذ هو أيضاً في تغيير الكثير من الأشياء، ومنها المطار الذي بناه الإيطاليون. فبعد طرده لمن تبقى من الإيطاليين في بلاده، استقدم القذافي شركة إنجليزية قامت ببناء مطار جديد مجاور للمقر القديم، نكاية في روما، حيث تم افتتاح المطار المعروف اليوم باسم «مطار طرابلس الدولي»، في أواخر السبعينات من القرن الماضي.
ويشعر الإيطاليون أنهم هم الأحق بالعودة إلى المطار، وليس الإنجليز. وفي الوقت الراهن يسعى الإيطاليون لإحياء المطار القديم ضمن خطة تطوير لمطار طرابلس. وفي مطلع الشهر الحالي، زار منطقة المطار عدد من الضباط الإيطاليين. وجرى بحث توسيع المطار القديم من خلال شراء الأراضي المجاورة له من السكان المحليين.
ويقول مسؤول عسكري: «مهبط المطار القديم لم يعد يصلح للطائرات العسكرية الكبيرة والحديثة، ولهذا يريد الإيطاليون توسيع الممرات ومدها لأطوال ضعف ما كانت عليه في الماضي». وكان في صحبة الوفد العسكري الإيطالي، رئيس الحرس الرئاسي التابع للسراج، وهو العميد نجمي الناكوع.

أما في قاعدة طرابلس العسكرية المعروفة باسم «بو ستة»، فقد لوحظ تزايد الوجود العسكري الإيطالي فيها، وفقا لمصادر تعمل في القاعدة نفسها. ومع ذلك اشتكى الجانب الإيطالي من ضيق رصيف الميناء الذي كان يوجد فيه ثلاثة زوارق تابعة للبحرية الليبية. وعلى هذا الأساس، وبحسب إفادات من مصادر داخل القاعدة، جرى التوافق بين السراج، والعميد أيوب قاسم، رئيس اللجنة العسكرية التنسيقية الليبية الإيطالية، على نقل الزوارق الليبية إلى ميناء الخُمس المجاور لطرابلس.
ويضيف المصدر: «كان الاتفاق مع العسكريين الإيطاليين على جزء من رصيف قاعدة بو ستة، لا تزيد مساحته على عشرين مترا. وأضاف أن الإيطاليين بعد أن قاموا بتخطيط الرصيف وتأسيس قاعدة للربط عليه، تقدموا بطلب إضافة عشره أمتار من رصيف القاعدة. ثم طلبوا خمسة وعشرين مترا جديدا... وبالتالي أصبح رصيف القاعدة البحري كله في حوزة الإيطاليين دون أي وجود ليبي يذكر. هذا أمر يحدث للمرة الأولى منذ 48 عاما».
وفوجئ العميد عبد الحكيم أبو حوية، آمر القاعدة البحرية في طرابلس، بأنه لم يعد له مكان في القاعدة بعد أن امتلأت عن آخرها بالضباط والجنود الإيطاليين. وطلب أحد قادة المجلس الرئاسي من أبو حوية البحث عن مقر آخر يباشر منه عمله، و«ليكن في بلدة الخُمس أو من مقر رئيس الأركان، اللواء محمد الأجطل».
لكن العميد المخضرم، بدا أنه غير راض عما يجري في القاعدة، مثل اللواء الأجطل. وحاول أبو حوية أن يؤخر خروجه منها، وذلك حين رد قائلا إن لديه هنا مكاتب وأوراقا ومسؤوليات. وأوضح مصدر مقرب من العميد أبو حوية: «قيل له احمل أوراقك واذهب. انتهى الأمر».

ويبدو أن الإيطاليين لن ينفقوا من مالهم الخاص على وجودهم في قاعدة بو ستة، إذ قال مصدر في مصرف ليبيا المركزي إن هناك محاولات لصرف مخصصات من الموازنة الليبية للعسكريين الإيطاليين في القاعدة، وأضاف: «الاقتراح مقدم من أحد قيادات المجلس الرئاسي، بصرف مليون دينار ليبي ومليون دولار أميركي، للضباط والجنود الإيطاليين. هذا الأمر أثار قلق رئيس المصرف، لأنه لا يوجد بند أمامه للصرف منه بهذه الطريقة». وأضاف المصدر نفسه أن المليون دينار عبارة عن مصروفات للعسكريين الإيطاليين للإنفاق منها في السوق المحلية في ليبيا، والمليون دولار مكافآت.
وتعد المنطقة التي ظهر فيها التنافس الأوروبي أخيرا، منطقة هشة أمنيا. وهي تقع في المساحة الممتدة من مصراتة التي تبعد نحو 200 كيلومتر شرق طرابلس، إلى الحدود الليبية التونسية غرب العاصمة. وتتقاسم السلطة عبر هذه المنطقة ميليشيات جهوية ومذهبية، وفيها مجاميع تابعة لتنظيم القاعدة وأخرى موالية لتنظيم داعش، بالإضافة إلى أنها منطقة رئيسية لتسيير مراكب الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. كما تنتشر في المنطقة نفسها العصابات المسلحة وتجار المخدرات وتهريب الوقود، وغيرها. وتعبُر من المنطقة خطوط غاز ونفط مهمة، حيث تقطع تلك الخطوط بلدات الزنتان والزاوية وصولا إلى موانئ التصدير إلى أوروبا.

ويعتقد مسؤولون أمنيون في العاصمة الليبية أن الأوروبيين، خصوصا الطليان، لا يخشون تهديدات حفتر بشأن الوجود في المياه الإقليمية الليبية دون إذنه، وإنما يخشون جماعات الرفض الشعبي في طرابلس وفي الزنتان وبعض البلدات الأخرى الواقعة حول العاصمة بما فيها مصراتة. وسبق للأوروبيين التعرض لتهديدات من جماعات محلية باستهداف خطوط الغاز والنفط المارة من غرب ليبيا إلى ساحل المتوسط، ومنها خط الريايينة المهم.
وبعد وصول البوارج الحربية الإيطالية، ورصد زوارق فرنسية وإنجليزية، لم يكتف النشطاء الليبيون بتقديم بلاغات للنيابة تتهم بعض المسؤولين بالتورط في اتفاقيات لا تخدم المصالح الليبية العليا، بل تم توجيه تهديدات بقفل خط الغاز المار من مدينة الزنتان، وتفجيره. وهو خط رئيسي يصل إلى مجمع مليتة على الشاطئ الليبي والذي تعتمد عليه إيطاليا وبعض جيرانها الأوروبيين في إمدادات الطاقة.
ويقول مصدر في المجلس الرئاسي الليبي، إن رئيس المجلس توجه إلى الزنتان لتهدئة الغاضبين، ووعد بضخ أموال واستثمارات في المدينة، إلا أن مسلحين اعترضوا موكبه، قبل أن يتدخل بعض العقلاء للحيلولة دون تفاقم الموقف.


وصول السفينة «تريميتي» إلى قاعدة طرابلس




ومع هذا عززت إيطاليا من وجودها على الساحل الليبي مرة أخرى بداية من الأسبوع الماضي، حين وصلت إلى قاعدة طرابلس السفينة «تريميتي». وفي نفس هذا اليوم، وهو يوم التاسع من الشهر الحالي، تعرضت طائرة حربية إيطالية لإطلاق النار قبل هبوطها في مطار مدينة مصراتة، ولم تتمكن من النزول في مهبط القاعدة الملحقة بمطار المدينة. ويعتقد أن مجموعة مناهضة للوجود الأوروبي على الساحل الليبي هي من كان وراء العملية. وتقول التحقيقات إنه لم يتم القبض على أي مشتبه به، لكنها أشارت إلى أن إطلاق النار كان من خلف القاعدة، وأن الطائرة الإيطالية لم ترد على مصدر النيران لأنها كانت في وضع استعداد الهبوط على الأرض.
font change