خارطة طريق باريس في مواجهة عقوبات واشنطن

خارطة طريق باريس في مواجهة عقوبات واشنطن

* يفضل حزب الله وحلفاؤه المساعي الفرنسية، ولكن لا يزال من غير الممكن أن يسمحوا لماكرون بتجريدهم من كل شيء
* انهيار مؤسسات الدولة اللبنانية واستيلاء حزب الله وإيران عليها يتزامن مع بدء عدد من الدول العربية في تطبيع العلاقات مع إسرائيل

بحسب ما ذكرته تقارير إعلامية لبنانية، اجتمع مسؤولون فرنسيون مع مسؤولي حزب الله، يوم الأربعاء، قبل الموعد النهائي المحدد لتشكيل حكومة في لبنان بيوم واحد. انتهت المهلة الفرنسية يوم الثلاثاء 15 سبتمبر (أيلول)، ولكن عندما ذهب رئيس الوزراء المُكلف مصطفى أديب إلى القصر الرئاسي يوم الثلاثاء لتقديم تشكيل حكومته إلى الرئيس ميشال عون، لم يكن الرد مُطَمئِنًا. وطلب عون مزيدًا من الوقت لإجراء مشاورات سياسية.
لا يُعد هذا تطورًا مفاجئًا، ومد الفرنسيون المهلة يومين آخرين لإعطاء أديب وقتًا إضافيًا، وأيضًا لإعطاء ماكرون مزيدًا من الوقت لممارسة الضغط على الأطراف السياسية. بيد أنه من المفاجئ أن يناقش الفرنسيون تشكيل الحكومة مع مسؤولي حزب الله مباشرة. حتى وإن لم يكن الفرنسيون في وضع إعطاء ضمانات، تحمل هذه المقابلة قيمة رمزية عالية لحزب الله وحلفائه.
ووفقًا لتقارير، يتولى مدير الأمن العام اللبناني، عباس إبراهيم، دور الوساطة في هذه المباحثات، بناء على طلب عون، حيث يركز على القضية الأساسية قيد البحث، وهي: إصرار حزب الله وحركة أمل على الاحتفاظ بوزارة المالية وحصولهما على الضوء الأخضر لتسمية وزير من اختيارهما. وبالطبع هذا يتناقض مع كل من الدستور وخارطة الطريق التي وضعها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان.
 
الأزمة الراهنة
على الرغم من أن القضية تتعلق بهذه الوزارة على وجه التحديد، فإن الأزمة أعمق من ذلك بكثير، وتتعلق بتهديد فرض العقوبات الأميركية على حلفاء حزب الله، وتحديدًا بعد صدور أول حزمة من العقوبات في الأسبوع الماضي ضد اثنين منهما. وبالتالي يحاول حزب الله اللعب على الخلافات بين باريس وواشنطن، أملًا في أن يتمكن من الوصول إلى تسوية ترضي الفرنسيين دون أن تثير غضب الأميركيين.
قد يعني ذلك أن تنسق كل من باريس وواشنطن فيما بينهما، وأن تصلا إلى ما يشبه غرفة عمليات مشتركة لمناقشة الصفقات ووضع الخطط. ولكن في الحقيقة، لا يوجد تنسيق بين العاصمتين. بل إن واشنطن ليست راضية عن المبادرة الفرنسية للبنان، وتعتقد أنها تعرقل المساعي الأميركية وحملة إدارة ترامب بممارسة أقصى الضغوط ضد إيران وحزب الله. وبناء عليه، لم تُفرض عقوبات الخزانة الأميركية بعد التنسيق مع الفرنسيين. بل على العكس، كانت ردًا على مساعي باريس في لبنان.
ويُفضل حزب الله وحلفاؤه المساعي الفرنسية، ولكن لا يزال من غير الممكن أن يسمحوا لماكرون بتجريدهم من كل شيء. فهم يشعرون بأن المثالية الفرنسية وخارطة الطريق ليست مهلة حقيقية. ويعتقدون أن ماكرون لن يفرض عقوبات على حزب الله أو حلفائه، حتى وإن رفضوا مبادرته بأكملها. وبالتالي، أدركوا أن أفضل وسيلة هي التلاعب بطموحات ماكرون وبذل الجهود لكسب وقت.
حتى وإن كان ماكرون ينوي المشاركة في هذه اللعبة، فقد أصبح ذلك مستحيل التنفيذ بعد تصريحات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في وقت سابق من الأسبوع نفسه. ففي يوم الثلاثاء، حذر بومبيو فرنسا من أن مساعيها لحل الأزمة في لبنان سوف تذهب سدى إذا لم تتناول على الفور مسألة تسلح حزب الله الذي تدعمه إيران. وصرح بومبيو لإذاعة «فرانس إنتر»،قائلًا: «تتولى الولايات المتحدة مسؤوليتها، وسوف نمنع إيران من شراء الدبابات الصينية ونظم الدفاع الجوي الروسية، ثم بيع الأسلحة إلى حزب الله، وهدم مساعي الرئيس ماكرون في لبنان». وأضاف: «لا يمكنك أن تسمح لإيران بالحصول على مزيد من المال والقوة والأسلحة وفي الوقت ذاته تحاول فصل حزب الله عن الكوارث التي تسبب بها في لبنان».
بقدر ما بدت التصريحات رسالة موجهة إلى فرنسا، كان من الواضح كذلك أنها رسالة إلى النخبة السياسية في لبنان، وعلى وجه التحديد حلفاء حزب الله.
 
لعبة طويلة في إطار إقليمي
من المحتمل أن تتبدد الآمال في تشكيل الحكومة وإتمام عملية سياسية سليمة قريبًا، وربما تقدم مبادرة أخرى من جهة أطراف معنية أخرى، غربية أو إقليمية. ولكن بات واضحًا أن المشكلة الحقيقية ليست وزارة المالية أو قدرة رئيس البرلمان نبيه بري، على تقديم حل. المشكلة أعمق من ذلك، وهي متأصلة في كل من النظام العميق في لبنان وفي الإطار الإقليمي.
وحتى إن وافق حزب الله على تشكيل الحكومة، تبدأ العملية الحقيقية عندما تشرع هذه الحكومة في تنفيذ عملية إصلاحات طويلة ومعقدة. وإذا نجحت تلك العملية، وهذا سيكون مفاجأة حقيقية، فستُطرح مشكلة كبيرة للمفاوضات في النهاية، وهي أسلحة حزب الله. يعلم الجميع أن هذا بالفعل ما يطلق عليه مجازًا «الفيل في الغرفة»، وأنه لذلك السبب تحديدًا يقاوم حزب الله الإصلاحات ويسعى إلى حماية حلفائه السياسيين الفاسدين.
على أي حال، يبدو أن إدارة ترمب عازمة على كبح حزب الله في لبنان والمنطقة، سواء تشكلت حكومة هذا الأسبوع أم لا. ولن ينتظر المسؤولون الأميركيون حتى تُنفَذ خارطة الطريق التي قدمها ماكرون، والتي على الأقل ستمتد حتى ديسمبر (كانون الأول) 2020؛ أي بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية ببضعة أشهر. وإذا كانت هناك احتمالية لتولي إدارة جديدة برئاسة بايدن في 2021، فسوف تحرص الإدارة الحالية على تكثيف جهودها ببذل أقصى الضغوط قبل أن تغادر. يعني ذلك أيضًا فرض مزيد من العقوبات على النخبة السياسية اللبنانية، وتحديدًا حلفاء حزب الله.
إذا ما نظرنا إلى كل ذلك في إطار إقليمي، تجدر الإشارة إلى أن انهيار مؤسسات الدولة اللبنانية واستيلاء حزب الله وإيران عليها يتزامن مع بدء عدد من الدول العربية في تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وسيكون الثمن أفدح على لبنان إذا عزز حزب الله قبضته على الدولة ومؤسساتها. من جهة أخرى، يدرك حزب الله هذا الأمر ويعلم أنه في حالة عدم تقديم تنازلات من جانبه فسوف يتعرض الحزب وحلفاؤه لمزيد من العزلة والظروف الاقتصادية السيئة، وخسارة أكبر للتأييد الشعبي، مما سيظهر تأثيره في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
على أي حال، حزب الله – وأسلحته- في وضع صعب للغاية. إذا قبلوا المبادرة الفرنسية، سوف يتم احتواؤهم في النهاية وسوف تكون ترسانتهم العسكرية البند التالي المطروح على طاولة التفاوض. وإذا لم يقبلوا، سوف تحرص واشنطن على أن تكون التبعات قاسية وسوف تصيب العقوبات كل من تورط في الفساد ومساعدة حزب الله.
وفي غضون ذلك، سوف يزداد انزلاق الدولة إلى الهاوية، وستكون نهاية لبنان الذي نعرفه. قد تعني هذه النهاية نهاية النظام والنخبة السياسية وحزب الله.
* حنين غدار: باحثة في زمالة فريدمان ببرنامج غيدولد للسياسة العربية بمعهد واشنطن، حيث تركز على دراسة سياسة الشيعة في الشرق الأوسط.

font change