غسان تويني لـ«المجلة»: لو كشفت كل الأسرار لأسأت إلى الكثيرين

في حوار حول كتاب «سر المهنة وأسرار أخرى»

غسان تويني لـ«المجلة»: لو كشفت كل الأسرار لأسأت إلى الكثيرين

 
* الهراوي أذكى من شمعون في سياسة الحرتقة، وأنا نادم على موقفي من رياض الصلح 
* أردت من هذا الكتاب أن يكون وصية وكتاب تعليم... وأنا أهديه لابنة ابني التي أطمح في أن تكون الجيل الرابع من الصحافيين اللبنانيين
 

بيروت: يقول غسان تويني عن كتابه «سر المهنة وأسرار أخرى» بأنه لم يقرأه، ولو فعل لأضاف إليه الكثير. عن هذا «الكثير» حاولنا البحث من خلال حوارنا مع صاحب الكتاب الصحافي الأبرز في لبنان عميد دار النهار الوزير والنائب والسفير السابق والمستشار الدائم للرؤساء، سواء بالتعيين الرسمي أو بواسطة القلم والديك الذي يصيح كلما طلع النهار، وفيما يلي تفاصيل الحوار
 
* ماذا يعني إصرارك على عدم وصف كتابك بالمذكرات والتأكيد على أنه ذكريات؟
- لأن المذكرات تفترض أن يكتبها شخص مهم، كان هو محركا للأحداث ونحن الصحافيين شهود وشهداء أحيانا كما أنه كلما كتب شخص مذكراته نجد لديه النزعة لتصوير العالم وكأنه يدور حول هذا الشخص بالإضافة إلى أنه في المذكرات يجب على المرء إيجاد نوع من التسلسل الزمني ويحاول أن يأتي بشيء من الشمولية، وهذا كله يتطلب انصرافا كاملا وأنا من الأساس لا أؤمن بالمذكرات، لكني قد أكتب يوماً ما مذكرات تأملية حول نظرتي للحياه.
 
«سر المهنة وأسرار أخرى»عنوان كتابك... هل اكتشفت السر؟
- «سر المهنة»، هو كيف تخاطب قارئا لا تعرفه، وكلما كبر قلت معرفتك به، عندما كان لدينا مائة قارئ كان بالإمكان معرفتهم لكن آلافا من القراء لا يمكن معرفتهم، ولا تستطيع إجبارهم على قراءة صحيفتك، فهم يدفعون مالا ليقرأوا الصحيفة، وهو ما يوجد تواطؤا بين الصحيفة وقرائها وميثاق شرف، ولدى الصحافي حاسة سادسة تمكنه من معرفة ما يريد القارئ، وما يمكن قوله لهذا القارئ. 
التوازن بين وحي الضمير واستيحاء إرادة القراء وتكوين توافق معهم مبني على الثقة هو سر المهنة، وعلى الصحافي أن لا يخون قراءه أو يكذب عليهم أو يغشهم فالمصداقية هي الأساس، ومهما كان رجل الدولة صديقا للصحافي، ومهما كان قريبا من حزب سياسي أو جهة، فهو مضطر في نهاية الأمر للقول إن هذا صحيح وهذا غير صحيح. ولقد اصطدمنا في «النهار» خلال الانتخابات النيابية مع أشخاص وقعنا معهم في أزمة ضمير فهم أصدقاؤنا ونحب مساعدتهم، لكن واقع إمكانية نجاحهم كان غير ما يقولون، فكنا نقول ليلة الانتخابات إنهم لا يتمتعون بحظوظ النجاح التي يعتقدونها.

 

غسان تويني ينحدث إلى الزميل إبراهيم عوض (تصوير: جوزيف أبي رعد)


 
* بعد أن عرفت السر، هل تعمل على هديه؟
- سر المهنة لا أحد يستطيع أن «يختمه»، ففي كل يوم يخرج من المهنة المزيد من التطور، وفي كل يوم يخترع من أسرارها أسرارا، منها أسرار تكنولوجية، أو تغير قواعد التعامل مع الناس، ومنها تطور التكوين الاجتماعي والذوق العام، فسر المهنة بالنتيجة هو الموقف السياسي ففي كل يوم، نحن في عملية اكتشاف أسرار جديدة وتعلم أسرار مهنة جديدة وممارستها. ونحن لا نخفي أسرارنا، بل إن طموحنا هو تعليمها، أنا أفكر جديا بعدما بات عمري أكثر من 70 سنة، ودخلت مرحلة التقاعد شيئا فشيئا أن أفعل كما كان يفعل مصطفى وعلى أمين اللذان  كانا يعتبران أن أهم شيء لديهما هو ترؤس الاجتماع اليومي أو الأسبوعي للمحررين في صحيفه «أخبار اليوم»، وإعطاء دروس في كليه الإعلام للصحافيين الجدد، وبقدر ما إن يئسا من الفوج الطالع من الصحافيين الذي لم يحظ بتربية طبيعية صحافيا، تراني أفكر جديا في قضاء ساعة أو ساعتين أسبوعيا أو شهريا مع المتدربين في «النهار» لإطلاعهم على تجاربي وأخذ كتاب «سر المهنة» أساساً لمناقشاتي معهم؛ فكثيرون اكتشفوا عندما صدر كتابي أني كنت مسجونا في العام 1948، وكثيرون لم يعرفوا الأسباب، وهذه الفئة من الصحافيين تعلم أصحابها نظريا وذوقهم الصحافي متأثر للأسف بالذوق التلفزيوني والإذاعي. 
يستطيع أي كان أن يستمع إلى كل نشرات الأخبار، لكنه يدفع ثمن الصحيفة ليقرأها، فهناك رغبة لديه بأن يتثقف بأكثر من برامج الأخبار المهرجانية أو الممسرحة الموجودة على الشاشة، وهنا تبرز أبدية الصحافة.
 
* تقول إن الأسرار هي ملك القارئ، فهل قدمت كل أسرارك في هذا الكتاب؟
- لقد قدمت أسراري المهنية، لكن هناك أسرارا سياسية لم أقلها، لأنها قد تسيء ولا تخدم، وبسبب مناصبي  السياسية عرفت الكثير من الأسرار، ووقعت في أزمة نفسية حول نشر هذه الأسرار، وهناك أشياء لم أنشرها وأخرى منعت نشرها، حتى عندما عرفتها «النهار» من غيري، كمحضر جلسة سرية لمجلس النواب الذي كنت نائبا لرئيسه في الخمسينات، وقد حولت المحضر إلى رئيس المجلس، وطلبت فتح تحقيق لمعرفة النائب الذي سرب المحضر، أنا سأنشر البرقيات التي تبادلتها مع وزارة الخارجية وقت صدور القرار الدولي رقم 425 أثناءالاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان، وفي إحدى البرقيات التي كانت سرية وأرسلتها قسمين حتى لا يعرفها أحد علمت من وزارة الخارجية الأميركية بما يشبه الصدفة موعد الاجتياح الإسرائيلي فأرسلتها إلى رئيس الجمهورية ووزير الدفاع ولم أخبر جماعتي في «النهار» بأي شيء حولها.
 
* هل أردت من هذا الكتاب أن يكون كتابا تعليميا؟
- أنا أردت من هذا الكتاب أن يكون وصية، وكتاب تعليم وأنا أهديه لابنة ابني التي أطمح في أن تكون الجيل الرابع من الصحافيين اللبنانيين بعد 50 سنة من الصحافة صدر الكتاب فالمرء يحب أن يترك خلفه شيئا يتذكره الناس، ففي هذه المسألة جانب أناني وجانب آخر عطائي.
 
* هل ندمت على شيء كتبته في كتابك؟
- أنا لم أقرأ كتابي بعد، خوفا من ذلك، لقد صححت كل البروفات، ومع هذا فهناك أشياء تمنيت لو أني كتبتها، فهذا الكتاب جعلني أندم على بعض مواقفي السياسية، لاسيما موقفي من «رئيس الحكومة» السابق رياض الصلح، الذي قد أكون ظلمته في أول عملي الصحافي.

 

في مكتبه في جريدة «النهار»


 
* هل تندم على أمر آخر؟
- أنا نادم، لأن الصحافة لم تدعني أفعل أشياء أخرى أحببتها، فأنا مثلا أريد أن أضع كتابا خالصاً ليس مجموعة مقالات أو وثائق أو رسائلـ فأنا أعتبر أن الصحافي يظلم نفسه كل يوم. إن الظلم للصحافي هو أنه يكتب يوما بيوم، ولا يكتب للتاريخ، نحن نتعامل بمادة زائلة يوميا، بينما الكتاب يبقى.
 
* لم تتناول في كتابك «سر المهنة»الوضع الحالي للبلاد..
- إن رأيي فيما يحدث اليوم أقوله في الصحيفة.
 
* لماذا هذا الحجم الكبير للكتاب؟ 
- إنه كتاب مرجع، أنا أقول لكل من يسألني كيفية القراءة فيه، أن يضعه على الطاولة، ويفتحه، ويقرأه، فإذا أعجبه أكمل، وفي هذا الكتاب وثائق ومقالات لم تعد موجودة، كمقالاتي عن رؤساء الجمهورية، فأنا الوحيد الذي عاصر كل رؤساء الجمهورية في لبنان، أنا أعطي مادة خام للتاريخ، وهناك محاضرات وتحقيقات أجنبية، فأنا بدأت كمندوب للبنان في الأمم المتحدة وفي الكتاب مقالات حللت فيها خطط الكبار ومواقف الأمم المتحدة. إن هذا الكتاب مرجع تاريخي ومرجع عن السياسة الخارجية والسياسة الداخلية، طبعا صعب جدا أن يطالعه المرء وهو نائم، لأنه قد يسقط على وجهه، فهذا الحجم اختير عمدا ليكون كتاب مكتب لا كتاب استرخاء، وأنا أتمنى أن يقرأ الكتاب بينما يحمل القارئ قلما يكتب فيه ملاحظات أو يضع خطوطا تحت سطوره وإذا خشي أن يتلف الكتاب فأنا أعلن لـ«المجلة» استعدادي لاإهدائه نسخة أخرى.
 
* لو أصدرت طبعة ثانية عن كتابك، ماذا تضيف لما قلته عن الرئيس الهراوي؟
- أقول إنه في السياسة العملية سياسة «الحرتقة» و«القطبة المخفية» أذكى وأقدر من كميل شمعون الذي يقول إنه تلميذه، وهذا لا يعني أني أؤيد سياسته إنما هو يخلص ما يستطيع تخليصه. 
 
* من أكثر من يستوقفك من الرؤساء؟
- من الصعب القول، لكن أريد أن أقول كم على الصحافي أن يكون مستعدا لتغيير رأيه، فليس صحيحا أن يبقى الإنسان 50 سنة دون تغيير، فالغبي وحده لا يتغير، إذ يجب أن يتطور مع الأحداث إن ما أقول إن أطول مدة انسجام مع رئيس، كانت مع الرئيس إلياس سركيس، الذي كان أشد خصم لي وأنا أشد خصم له، فأنا ذات مرة منعته من أن يصبح رئيس جمهورية، ولو تسنى لي ذلك مرة ثانية لفعلت.
 
* خصصت حيزا واسعا في نهاية الكتاب للحديث عن صداقاتك مع عدد من الرؤساء وكبار المسؤولين العرب، فهل حافظتم على هذه الصداقات؟
- يبقى من علاقاتي هذه أمران، الأول ذكريات من الذين بادرونا إلى الآخرة، وهذه الذكريات تظل مخفية في ذهن الصحافي، يتعامل معها وكأنها تعاصره، كلما جاء نبأ يعني بلد هؤلاء، أو توقعا قالوه في حديث أو محاولة حل أزمة دامت في الحياة أطول منهم. أما الثاني فهو الصداقات، والصداقات تكون عادة غير مرئية في الصحافة، وأنا أخاطر بهذه العلاقات، وأحبها، لأنها تنمو معي، حتى في علاقاتي مع الذين لا أراهم كما أرى بعض أصدقائي اللبنانيين يوميا. إما لأني لا أسافر كثيرا إلى هذه البلاد مع تقدم السن وتبدل الظروف العربية، لكن مثلا لا يمكنني أن أفكر بزيارة إلى مصر من غير أن أزور مصطفى أمين ودكتور أسامة الباز ولطفي الخولي والدكتورة منى مكرم عبيد، كما لا يمكنني أن أفكر بشهر يمر من دون أن أتصل بالأمير طلال بن عبد العزيز، أو يتصل بي، ونلتقي، كما تقاطعت زياراتنا فى أوروبا لكن الأهم هو أن يبقى الصحافي على صلة شخصية مع كل دولة من الدول العربية، يتمكن ولو بمناجاتها أن يقيس ظروف تطور البلد ويقيس ما يكتب عن البلد بما توحي له هذه العلاقة، ومع ذلك فإن أيام الصداقات الودودة والاتصالات المكثفة بين الصحافة اللبنانية والعالم العربي تقلصت بفعل الحرب اللبنانية قاتل الله شياطينها الذين أوجدوا مجالات تباعد بين الدول العربية ولبنان وجعلوا كل علاقة عربية مع صحافيين لبنانيين إما مشبوهة أو مخيفة أو خطرة فضلا عما تحمله من أوزار بسبب الحرب، وتغير نفسية اللبنانيين بفعل هذه الحرب.
 
* ألا تزور سورية؟
- أزورها قليلا جدا، مع الأسف، لانحسار صداقاتي السياسية فيها، إلى ما يقارب الصفر، فأصدقائي السابقون في سورية لهم صداقات جديدة لا أريد أن أنافسها ولا طاقة لي على مجاراتها، إنما أزور أحيانا البطريرك أغناطيوس هزيم، (بطريرك الروم الأرثوذكس) وبعض الرسميين غير المنظورين من دون أن نتكلم سياسة.



 
لم يكشف غسان تويني كل أسراره بعد... 
 
«هذا الكتاب ليس كتابا»..
بهذه العبارة تستهل توطئة كتاب «سر المهنة وأسرار أخرى»، وإذا لم يكن كتابا فماذا يمكن أن يكون؟ 
إنه «جنس جديد حائر بين السرد التاريخي والموسوعة الثقافية». يقول غسان تويني في التوطئة التي شاء أن يذيلها باسم مستعار. أما لماذا لم يعتبر المؤلف كتابه كتابا، فلأن «سر المهنة وأسرار أخرى» قد تكشفت عبر حوار طويل اشترك فيه ميشال أبو جودة، وأنسي الحاج، وإدمون صعب، ولويس الحاج، ورندا تقي الدين، وعبد الوهاب بدرخان، وخير الله خير الله، ومالك مروة، وغيرهم.. وقد أسندت بملفات «تبدأ بمجموعة رسائل وتنتهي بمجموعة مقالات ومحاضرات مرورا بوقائع المحاكمات مثلا والمرافعات والبيانات والإحصاءات». 
ماذا في الأحاديث- الذكريات، والملفات- والمستندات؟
في الحديث الأول «القارئ والصحافي وباعة الصحف»، الذي يمتد من الصفحه 18 إلى الصفحة 35 من غير أن يقرن بملف، كما هو حال سائر الأحاديث التسعة، يطرح الصحافي السؤال التالي: «ما هي أقدم ذكريات أو أطرفها مع باعة الصحف ما دام حديثهم والحديث عنهم يطيب لك»؟ أجاب المؤلف أنه عندما كان وزيرا خلال «حرب السنتين» - 1975و1976 - جاء من ينقر على زجاج سيارته المتوقفة عند خطوط التماس قرب المحكمة العسكرية طالبا منه فتح الباب وقائلا له: «ما عرفتني يا أستاذ أنا أحمد شنكر». ولما كان صاحبنا فاتحا ميليشيا على حسابه ويقتل الأبرياء على الهوية ويرميهم تحت جسر البربير، فقد خاف غسان، خصوصا أن ثلاثة شبان من «الشرقية» كانوا داخل السيارة بفعل قيامهم بحراسته، ولكن خوفه تبدد عندما مضي شنكر بالتعريف عن نفسه: «أنا أقدم بياع جرائد وكنت آخذك ولدا صغيرا إلى المدرسة على البسكلات أيام المرحوم جبران بك- والد غسان- وكان يتكلم في شارع عبد الوهاب الإنكليزي». أضاف المؤلف: «وعاد شنكر صديقا لي، ينتظرني كلما مررت أمام المحكمة العسكرية ليرافقني ويحرسني غصبا عني أنا الوزير في تجولي في بيروت الغربية وطموحه أن يرافقني ولو مرة إلى الحي أي الشرقية ليستعيد ذكرياته ويطل على الزبونات القدامى». 
وفي ختام هذا الحديث يقول غسان ردا على سؤال يتمحور حول «مأساة النهار» خلال الحرب الأهلية إن أبرز مصورين في جريدته، وربما في لبنان وقتذاك، هما سام مزمنيان وجورج سمرجيان. كان ألبوم سام حافلا بالصور- اللوحات، ولكن الأشهر والأعظم هي التي أخذها سام لحظة انفجار الطائرات الخمس التي خطفتها الجبهة الشعبية في مطار صحراوي على ضفاف الأردن «ونال عليها جائزة عالمية». أما جورج فقد امتاز بالقراءة واقتحام أخطر المواقع لتصويرها، ولكن أهم صورة في ألبوم جورج هي «صورته الأخيرة التقطها منه وله زميل جاء بها ورماها على طاولة الاستوديو، وهرب باكيا». والصورة تلك يرى فيها المصور مقتولا بقذيفة دبابة. 
«الدبلوماسية في رسالة الصحافة» هو عنوان الحديث الثاني الذي تناول الدور الذي لعبه المؤلف في الأمم المتحدة ومجلس الأمن يوم كان سفيرا للبنان منذ العام 1977 حتى 1982. 
كشف المؤلف في هذا الحدث معلومة قيامه بمراسلة «النهار» في أروقة الأمم المتحدة يوم كان طالبا في هارفارد في النصف الثاني من الأربعينات وقد احتضن ملف هذا الحديث نماذج من مراسلاته التي غطى فيها مناقشات الجمعية العمومية. أما المرحلة الثانية التي انتقل فيها من موقع الصحافي إلى موقع السياسي والدبلوماسي فلعل أطرف ما جاء في حديثه عنها النص التالي الذي رد فيه على سؤال يتعلق بالمساعدات الإنسانية التي كان للأمم المتحدة ومندوب لبنان دور فيها. 
«بعد احتلال صيدا بيومين أو ثلاثة، رن جرس الهاتف السري في غرفة نومي في السفارة وكانت الساعة الرابعة صباحا. استعوذت من الأمر وسألت وأنا نصف نائم عن المتكلم صاحب الصوت الغريب، ودار بيننا الحوار التالي: 

  • أنا رفيق الحريري- لم يكن رئيسا للحكومة بل رجل أعمال- أكلمك من باريس. 
  • خير إن شاء الله قبل الضوء، بدي أبعث أكل وحرامات إلى صيدة.. 
  • إي شو دخلني بها الليل؟ ابعث ما تريد. 
  • أوكي.. بس إسرائيل مانعه البواخر من دخول مرفأ صيدة وتريد تسلم البضاعة في مرفق حيفا حتى توزعها هي. والناس في صيدا ما بدها مساعدات عن طريق إسرائيل، ولا أنا وأهلي بنبعث مساعدات يتسلبط عليها اليهود. 
  • برافو عليك، بس شو في أنا أعمل بنص الليل؟ 
  • بدك تدبرني مع الأمم المتحدة.
أضاف «ومع طلائع الفجر، باشرت الاتصالات لرفع الحصار البحري، فلم نوفق. وأخيرا لما اتصل بي الحريري ثانية سألته أين بواخره؟ فقال: في قبرص جاهزه للإقلاع. فأخبرته أني تقدمت، بناء على اقتراح صديق مسؤول، بطلب رسمي لرفع علم الأمم المتحدة على بواخر المساعدات، ووافقت السلطات المختصة في نيويورك ولكن لا وسيلة لديها لإيصال الأعلام الزرقاء، ولا طريقة لدي لإبلاغ الحكومة اللبنانية بالأمر. وتفتقت حيلته بكثير من الجرأة عن الجواب الآتي أوكي، ما عليك أنت.. أنا سأرسل قبطان إحدى البواخر إلى قاعدة القوات الدولية في قبرص ليستحصل على الأعلام، فنرفعها، ونعلم مرفأ صيدا بأنها بواخر تؤدي مهمة دولية. وهكذا كان». 
الحديث الثالث المعنون: الصحافة تلمذة وتدرجا وأبوة، يلقي فيه غسان الضوء على تأثره بوالده جبران مؤسس «النهار» ومن قبلها «الأحرار». إلا أن التأثر بقي في الجانب الإنساني الاجتماعي ولم يشمل الحيز الصحافي: «أما من أبي فتعلمت التعامل مع الناس إلى معاملة القلم إلى معاشرة القارئ إلى إرث الصداقات ولو جاحدا. حزني الكبير أني لم أتتلمذ على يده عمليا، وبشيء من الاستمرارية. مع يقيني بأن الابن ليس سر أبيه، بقدر ما هو الابن أن يثور على صورة الأب وما يمثل حتى عندما يتشبه به لو تسنى لي أن أعمل محررا في ظل رئاسته للتحرير لربما اكتسبت أسلوبه السهل الممتنع وهذه البساطة في قول أخطر الأمور وأعقدها، بينما لا يزال يتهمني القراء، وأتهم نفسي أحيانا بتعقيد الأمور البسيطة، عندما أحاول لها التفسير الفلسفي».
«إمبراطورية أحلام أم سياسة»، هو عنوان الحديث الخامس الذي تناول فيه ورشة تطوير «النهار» التي قادها منذ أن كانت مؤسسة متواضعة في سوق الطويلة إلى أن أصبحت «إمبراطورية» في أول شارع الحمراء. وكشف في هذا الحديث عن دور زوجته الراحلة الشاعرة ناديا حمادة، حيث قال: «لما تزوجت ناديا، وكانت «النهار» في مطلع انطلاقتها موسم 1954-1955 كنت أعرف أن نوعين من الصحافيين: الذين شاركتهم زوجاتهم في العمل إلى حد احتلالهن مرتبة تساوي مرتبتهم مثل بيار لازاريف مدير «فرنس سوار» وزوجته التي أصبحت ناشره مجلة «أيل»، والذين- ولن أذكر أسماء- كانوا يسعدون بانصراف زوجاتهم عنهم حتى يستمروا في الانصراف إلى مهنة تستعبد الرجل ليلا نهارا، وهي كالمرأة التي لا تحتمل منك أن تنظر إلى سواها من غير أن تفترسه هي حسدا وغيرة»! إلا أن ناديا «بعد زواجنا بدأت تظهر اهتماما بل شغفا كبيرا بكل شيء يتعلق بـ«النهار» فضلا عن عنايتها بكل ما أكتب وحرصها على المناقشة في المواقف التي كنت أتخذها أو تتخذها النهار». 
وروى غسان كيف صارت ناديا تداوم في الجريدة وقد «انسجمت مع الصحافة والصحافيين منذ اللحظه الأولى لدرجة أنها تسهر في المكتب والمطبعة حتى يصدر العدد». إلا أن صدور أحد الأعداد قد تأخر كثيرا.. «ولما أعياها التعب- و لم تبح لي  بالسبب- قالت إنها ستسبقني لتتركني أنهي العمل من دون استعجال. وتطوع عبد الرحمن الصلح- نجل الرئيس سامي الصلح- لمرافقتها حتى المنزل ولما عدت أنا مع الصباح- وفي يدي أول عدد من «النهار» أخرجته المطبعة- لم أجد ناديا في البيت، بل في المستشفى تستعد للولادة». 
ولنقلب الصفحة على الحديث السادس: «لمن تدق أجراس الحرية»، الذي تناول المؤلف فيه علاقته وعلاقة جريدته بأهل الحكم في لبنان إضافة إلى غضب بعضهم من الجريدة ورئيس تحريرها، والتعبير عن ذلك بالاعتقال والمحاكمة أو الملاحقة على الأقل، كانت أولى معارك الحريات يوم أعاد تويني نشر صورة ضباط لبنانيين وضباط إسرائيليين كانت نشرتها مطبوعة تصدرها الأمم المتحدة فوق خبر يتعلق بالهدنة بين لبنان وإسرائيل إثر حرب 1948، «وكانت الملاحقة». ذلك أن «رياض الصلح- رئيس الحكومة آنذاك- كان ينفي وجود هدنة ومن يتهادنون». لجأ تويني إلى المطرانية الأرثوذكسية في الأشرفية- بيروت. وهناك، استقبل العديد من السياسيين وغير السياسيين، باستثناء رجال الأمن الذين كانوا يدهمون منزله لإزعاج والدته وإخوته، وبقى الحال على ذات المنوال «إلى أن صدر بلاغ رسمي يعلن توقيع اتفاق الهدنة فاعتبرت أن الدعوى سقطت حكما، وأطلقت سراحي بنفسي، وعدت إلى مكتبي، ولم ألاحق وطوي الأمر».
«الرفقة الصعبة مع الرؤساء» هو عنوان المقال السابع، ويفهم من الحوار والملف أن الرئيس فؤاد شهاب كان الأصعب.. «ومع ذلك كان يمنينا باستمرار بأنه لم يسجن أحد منا ولا عطل «النهار» إلا أنه فعل أو «هم» فعلوا باسمه أو بوحيه ما هو أكثر عنفا وأشد إيلاما وإيذاء يوم كتب ميشال أبو جودة في مطلع العهد مقاليه الشهيرين: «وداعا أيها اللواء»، و«في حمى الأمير»، والمقالان يرمزان إلى خيبتنا بالجنرال وبالشهابية». والمعلوم أن كاتب المقالين قد تعرض لضربة موسي حلاقة وهو في طريقه إلى مكاتب الجريدة مما سبب له جرحا بليغا في وجهه بقيت آثاره واضحة حتى لحظة رحيله. 
«ماذا عن العرب وحكامهم» السؤال- العنوان الذي تفرعت منه أسئلة الحديث الثامن. أحد الأسئلة تمحور حول عبد الناصر ومعرفة المؤلف به. ومما ورد في الجواب أن تويني  التقى بالرئيس المصري الراحل لأول مرة عام 1955، برفقة عدد كبير من الصحافيين اللبنانيين «كنا وقتذاك نؤيد الثورة بدون تحفظ وكنت لا أزال نائبا في المجلس. نقيب الصحافة روبير أبيلا كان معنا. حضرنا مؤتمرا صحافيا لعبد الناصر. ذهبنا معه إلى حفلة لأم كلثوم. وجلس بعضنا معه في بينوار واحد في السينما، وكانت الأفلام الأميركية هوايته الكبيرة، وكنت أستغرب ردود فعله العفوية، بل البريئة على مشاهد من الفيلم». والتقى المؤلف بعبد الناصر في مؤتمر باندونغ لعدم الانحياز. وهناك اجتمع  بالصحافيين المصريين مصطفى وعلي أمين ومحمد حسنين هيكل الذين رافقوا الرئيس المصري الذي بدا «الأكثر حضورا» من سائر الرؤساء بمن فيهم تيتو، ونهرو. سأل تويني زملاءه المصريين عن كيفية تغطيتهم للحدث فأجابه أحدهم: «احنا يا أخي جابنا معاه كده للزينة كاللعبة. التغطية؟ أهي ماشيه وحدها»! 
الحديث التاسع المعنون «صحافة للمستقبل.. أين فضاؤها» انتقد فيه تويني واقع الصحافة اللبنانية، وأبدى عدة أفكار من أجل أن لا تبقى «صحافة ريفية» بالمقياس العالمي. فهو ناشد زملاءه عدم التشبه بالنيويورك تايمز أو لوموند، وحثهم على صنع «صحافة بلدية تلتصق بالناس وبقضاياهم»، إذا كانوا يرغبون في توسيع رقعة انتشار صحفهم. 
بعد هذا العرض الشامل والسريع والمختصر بكتاب العام (1996) في بيروت، يمكن تسجيل الملاحظات التالية: 
  • أعود إلى مقدمة الكتاب لأخالف رأي «دار النهار» أو عميدها المؤلف بأن «سر المهنة وأسرار أخرى» ليس كتابا، أو هو نمط جديد من الكتب الحائرة بين الذكريات والمراجع. إن الملفات تدعم وتكمل الذكريات. والأخيرة تبقى ذكريات ولو صيغت بقالب حواري. صحيح أن هذا «الجنس من الكتب نادر في لبنان والعالم العربي. ولكن، من يدري؟ فقد يكون هذا الكتاب فاتحة لكتب مماثلة، خصوصا إذا كانت متمحورة حول هذا اللون الجذاب من الأدب: الذكريات. 
  • إن بيضة قبان الكتاب تكمن في الحوار لا الملفات. هنا، يتميز «سر المهنة» بل ويمتاز، بسرد آسر سواء بالشكل أم بالمضمون. لغة الكتاب متينة وبسيطة في آن، والمضمون يلخص تجربة غنية في حقلي الصحافة والدبلوماسية، استمرت نصف قرن. حسنا فعل المؤلف حين اعتمد الحوار أو «الكتابة الشفهية»، إذا صح التعبير، في سرد ذكرياته، ذلك أن غسان تويني يكون أكثر تألقا عندما يجيب على أسئلة الصحافيين أو التلفزيونيين، يصير أكثر سخرية ووضوحا وإقناعا وينتفي الفارق الأسلوبي بينه وبين والده جبران فيغدو أسلوبه أيضا سهلا ممتنعا إنه بالشفهي أنجح مما هو عليه بالكتابي.
  • ليست ذكريات الكتاب كل ذكريات الكاتب، رغم أن «سر المهنة» يتألف من 586 صفحة من الحجم ما فوق الكبير. ثمة أسرار أخرى قد أجل الكاتب نشرها تماما كما تفعل وزارة الخارجية البريطانية عند كشفها للوثائق الدبلوماسية وللأسباب نفسها بمعنى أن النشر ربما يؤذي أشخاصا معينين أو حتى المجتمع برمته وعلى ذكر الوثائق الدبلوماسية، فالمؤلف اتبع قوانين كشف الأسرار المتبعة في ألمانيا وفرنسا أي بعد مرور 50 سنة على ولادتها وليس ثلاثين سنة كما هو الحال في لندن وواشنطن.
  • من إيجابيات الكتاب أن الكاتب تجنب النهج الذي يتبعه معظم كتبة الذكريات في العالم العربي لجهة اقتصارها على المآثر والانتصارات والبطولات فقط. لا شك أن «سر المهنة» يقدم للقراء سيرة رجل ناجح ومتفوق وموهوب ولكن السيرة تنطوي على بعض أخطاء صاحبها ونقاط ضعفه وبعض أعماله أو كتاباته العادية التي توهم لحظة إنجازها بأنها تتميز بالإبداع وباعتبار أن نسبة هذه إلى تلك التي تسجل الكتابات المبدعة والمواقف المصيبة لا تتعدى الخمسة بالمائة فقد سارع تويني إلى دعمها بالوثائق أو الملفات حرصا على مصداقيته. 
  • كان جبران تويني ساخرا أصيلا، والواضح من الكتاب أن ابنه البكر غسان قد «ورث عنه السخرية ولكنها في الذكريات أكثر أصاله وعفوية وإضحاكا أيضا مما هي عليه في المقالات التي تحتضنها الملفات وعندما تستمتع بالسرد الساخر في «سر المهنة» تحسب نفسك قارئا لأحد الصحافيين والكتاب الساخرين الراحلين أمثال سعيد فريحة أو إسكندر الرياشي أو سعيد تقي الدين أو مارون عبود أو جبران تويني. 
  • عندما بلغ الأديب الراحل ميخائيل نعيمة السبعين من عمره، نشر مذكراته تحت عنوان «سبعون». ولكنه عاش حتى المائة عام، ونشر خلال الثلاثين سنة الأخيرة عدة مؤلفات. إن خلفية تويني في نشر ذكرياته تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن خلفية نعيمة والآخرين. فهو الآن في السبعين. ولقد أشار في مقدمة الكتاب إلى أن تقدمه في السن هو الذي دفعه ليس فقط إلى إصدار ذكرياته، بل وإلى جمعها في كتاب واحد، بعد أن كان أعلن عن إمكانية صدورها في العام 1990 عبر عدة كتب، وإذا كانت الأعمار بيد الله فإن نشر الذكريات بيد صاحبها، صحيح أن الكاتب قد «كفى ووفى» بالنسبة على صعيد «سر المهنة» أي الصحافة.

ولكنه قصر أو بالأحرى اقتصر على نشر ما له علاقة بالصحافة بالنسبة للأسرار الأخرى، فهل يصدر تويني ما تبقى من ذكرياته الخاصة بتجاربه الغنية والمثيرة في الحقول الأخرى وبخاصة تجربته الحزبية؟

font change