الأبعاد الجيو- اقتصادية لملف غاز شرق البحر المتوسط

اختبار حقيقي لقياس قدرة تل أبيب وبيروت في تخطّي الخلافات بينهما

الأبعاد الجيو- اقتصادية لملف غاز شرق البحر المتوسط

* المفاوضات اللبنانية- الإسرائيلية لترسيم الحدود برعاية أميركية.. والدول المشاركة تسعى للنجاح بتحقيق أهدافها المختلفة
* بارودي لـ«المجلة»:اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار بقواعدها ومعاييرها ستكون الأساس لكل المفاوضات

بيروت: لم تكن منطقة الشرق الأوسط، وخصوصًا الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، محط اهتمام القوى العالمية كما هي عليه اليوم، والسبب يعود إلى الاكتشافات الحديثة للموارد الهيدروكربونية التي تمّ اكتشافها في العقد الماضي.
وقد توزّعت هذه الثروات في عمق البحر مقابل شواطئ دول المنطقة. وبما أن الطبقات الجيولوجية لا تعرف الحدود، يظهر تشابك كبير للثروات بين الدول وبالتالي بدأت النزاعات على المناطق الاقتصادية الخالصة والتي يُعرفها القانون على أنها مناطق تمتد على بعد 200 كم من الشاطئ وتُعطي البلد المعني حق الاستفادة من الثروات دون أن تكون هذه المنطقة من المياه الإقليمية التابعة لها.
الصراع بين تركيا من جهة وقبرص واليونان هو أحد الصراعات التي تُمثّل الأهمية الاستراتيجية للدول التي تُسيطر على هذه الثروات خصوصًا أن السوق الأوروبية الهاربة من السيطرة الروسية، يتطلّع قدمًا لاستيراد هذه الموارد. أيضًا يأتي الصراع بين لبنان وإسرائيل على حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان، ليُشكّل المثال الثاني على احتدام هذه الصراعات. وبحسب المعطيات التقنية، تحوي المنطقة المتنازع عليها في جنوب المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان على كميات كبيرة من الغاز تفوق مداخيلها مئات مليارات الدولارات التي قد تُغيّر تموضع لبنان على الساحة الجيوستراتيجية ولكن أيضًا على الصعيد الاقتصادي.
حكاية النزاع هذه بدأت عام 2007 مع تفاوض لبنان مع قبرص على ترسيم حدوده البحرية. الفريق اللبناني التابع لوزارة الطاقة والمياه، ارتكب خطًا تاريخيًا بعدم تثبيته للنقطة الثلاثية الأبعاد المشتركة بين لبنان، وقبرص، وإسرائيل، مما دفع الأخيرة إلى وضع اليدّ على أكثر من 860 كيلومترا مربعا في المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان.
اليوم ومع انطلاقة المفاوضات بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البحرية برعاية الأمم المتحدة ووساطة أميركية، يُطرح السؤال عن مدى قدرة نجاح البلدين في تخطّي الخلافات بينهما خصوصًا أن البعد الاقتصادي للثروة النفطية يُسيل لُعاب إسرائيل المدعومة أميركيًا وأوروبيًا.
الانخراط الدولي في هذا الملف أصبح مباشرًا، سواء من خلال المشاركة في المفاوضات المباشرة بين لبنان وإسرائيل أو من خلال شركات التنقيب، حيث إن المعلومات تُفيد عن اهتمام أميركي- أوروبي في المنطقة الجنوبية في حين أن روسيا مُهتمة بالحدود الشمالية التي تشهد بدورها وضع يد من قبل سوريا على قسم من المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان تفوق مساحته المنطقة التي وضعت إسرائيل يدها عليها.من هذا المنطلق، يُتوقّع أن تشهد الأشهر القادمة تطورات كبيرة على صعيد هذا الملف الذي أعطت الولايات المُتحدة الأميركية مهلة 100 يوم للوصول إلى حلّ. وفي حال تمّ ترسيم الحدود مع إسرائيل، فإن لبنان سيكون على موعد آخر مع ترسيم حدوده البحرية ولكن هذه المرّة مع سوريا.
 
الجولة الأولى
مع صدور هذا العدد تكون الجولة الأولى من المفاوضات، غير المباشرة قد انعقدت بين الطرفين في مركز الأمم المتحدة في رأس الناقورة جنوب لبنان، وفق الآلية نفسها التي تجري فيها اجتماعات اللجنة الثلاثية المؤلفة من الجيشين اللبناني والإسرائيلي وقوات الأمم المتحدة العاملة في الجنوب (اليونيفيل)، تحت «علم الأمم المتحدة وبرعايتها»، وبحضور مندوب أميركي هو «وسيط ومسهل»في تلك المفاوضات.
إن ترسيم الحدود يحدّد إذا ما كانت هناك مكامن مشتركة بين الجانبين وهي خطوة ضروريّة للأطراف الثلاثة المشاركين في هذا التفاوض غير المباشر وهم لبنان، والولايات المتحدة، وإسرائيل:
-إسرائيل تحتاج إلى التفاوض بغرض ترسيم الحدود البحرية، لأنه أصبح لديها أنشطة نفطية تقريباً على الحدود.
- الولايات المتحدة تنشد نجاحاً «دبلوماسياً»لتلك الورقة، لاستثمارها في الانتخابات الرئاسية الأميركية القريبة.
- لبنان بحاجة إلى تحديد حدوده البحرية بشكل نهائي بحسب معطيات القانون الدولي، كي يُطلق بأمان عملية الاستكشاف في البلوك-9 ويمارس كل النشاطات النفطية من دون شدّ حبال مع إسرائيل، فتمارس بالتالي الشركات المولجة تلك الأنشطة عملها من دون أي ضغوطات من الجانب الإسرائيلي.
 
القانون الدولي
كيف تجري مسألة التنقيب عن الغاز وما هي القواعد المنظمة لمسألة استخراج الغاز من مياه المتوسط بالنسبة للدول المتشاطئة؟
يقسم قانون البحار مناطق الملاحة البحرية إلى مياه داخلية وإقليمية ومنطقة المرور البري، هذا إلى جانب المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري، ووفقا لاتفاقيات جامايكا التي أبرمت عام 1982، ودخلت حيز التنفيذ عام 1994 فبإمكان الدول الساحلية استغلال تلك المناطق وفقا لقواعد الاتفاقية.
فعلى سبيل المثال المياه الداخلية هي تلك الأجزاء من البحر التي تنتمي إلى إقليم الدولة، أما المياه الإقليمية فبحسب بنود الاتفاقية يمكن لكل دولة أن تحدد عرض بحرها الإقليمي بمسافة لا تتجاوز 12 ميلا بحريا، وبالنسبة إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة فتمتد إلى مسافة 200 ميل بحري، وبإمكان الدول المتشاطئة الاستفادة من خيرات تلك المياه، هذا بالإضافة إلى إقامة جزر صناعية ومنشآت ولكن بشرط أن تعلن عن مشاريعها للدول الأخرى، وتسمح لها بممارسة حق البحث العلمي والصيد وحفظ الموارد الحية.
أما الجرف القاري لأي دولة ساحلية فهو قاع وباطن جميع أراضي المساحات المغمورة التي تمتد إلى ما وراء بحرها الإقليمي في جميع أرجاء الامتداد الطبيعي لإقليم الدولة البري، وذلك حتى الطرف الخارجي للحافة القارية، وفي حال كانت الحافة القارية للدولة الساحلية تمتد لأبعد من 200 ميل بحري فبنود الاتفاقية تنص على تحديد تلك المسافة إلى 350 ميل بحري. ولعل السؤال هنا: لماذا الحديث عن هذا الوضع القانوني الدولي؟
 
الاتفاق النهائي
الخبيرالدولي في شؤون الطاقة رودي بارودي قال في هذا السياق لـ«المجلة»: المباحثات التي بدأت في 14 أكتوبر الجاري في الناقورة ستكون برعاية الأمم المتحدة، في حضور الوسيط الأميركي الذي يسعى إلى تقريب وجهات النظر.
ولفت إلى أن «الخطوة الأولى المطلوبة هي ترسيم الحدود البحرية، وعند التوصّل إلى حَل لمشكلة المنطقة المتنازع عليها سيَسهَل على لبنان عندئذٍ إبرام الاتفاق النهائي مع قبرص، عندها تتحدّد المنطقة موضع التفاوض، ما يمهّد الطريق للبنان لتحديد المسافة البحرية بينه وبين قبرص من الجنوب إلى الشمال».
وتابع: إذا حصل اتفاق بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي في هذا الموضوع، عندها يبدأ كونسورتيوم الشركات «توتال»و«إيني»و«نوفاتيك»، بعمليات الكشف والتنقيب الكشف في البلوكات 8 و9 و10 والتي تستغرق ما بين سنتين و4 سنوات للبدء باستخراج النفط.
واعتبر بارودي أنه «مجرّد تأكيد الشركات وجود نفط وغاز في تلك البلوكات، يرتفع رصيد لبنان تلقائياً»، لافتاً إلى أن «الأهم في الموضوع هو الصندوق الذي ستوضع فيه واردات النفط أو الغاز، حيث يجب أن يكون محصّناً جيداً، لا مثل صندوق «كهرباء لبنان»الذي تُهدر منه الأموال والواردات».

 

رودي بارودي


 
منتدى غاز المتوسط
وتطرق خبير الطاقة الدولي إلى «منتدى غاز شرق المتوسط»وعما إذا كانت هناك مصلحة للبنان بالانضمام إليه، فسأل بارودي: «كيف سينضمّ لبنان إلى هذا المنتدى من دون وجود حكومة؟! كما أنه لا يملك معطيات ملموسة مؤكدة تمكّنه من ولوج المنتدى»، مشيراً إلى أن «كل الدول المنضوية إلى المنتدى تملك نفطاً أو غازاً... حتى فلسطين. أما لبنان لسوء الحظ، فليس لديه أي شيء يستند إليه للانضمام إلى المنتدى. لا يملك شيئاً يقدّمه له... لا شيء على الإطلاق. وإذا نجح في النهوض مجدداً وتشكّلت حكومة وبدأ بالتنقيب عن النفط والغاز، عندها يسعى المنتدى في اتجاه لبنان لمطالبته بالانضمام إليه».
وأكد في هذا السياق، أن «المنتدى لن يؤثّر إطلاقاً على كل من روسيا والمملكة العربية السعودية وقطر، إذ إن مجموع ما يقدّمه المنتدى لا يلبّي سوى 20 في المائة من تصميم أوروبا وتصوّرها في حقل النفط والغاز. لذلك، فإن المنتدى هو تكملة لتلك الدول وليس منافساً لها على الإطلاق».
 
النزاع اليوناني- التركي
وفي ما يتعلق بالنزاع القائم بين اليونان وتركيا في مياه شرق المتوسط، فاعتبر بارودي، أن «هذا النزاع لن يجد حلاً إلا على طاولة المفاوضات، إذ إن البلدين عضوان في الأمم المتحدة وعضوان فاعلان في حلف الناتو،وفي عدد من المنتديات الأورو- متوسطية. وإن لم يتم التوصّل إلى حل سلمي، فهناك تحكيم دولي قادرٌ على حلّ أي نزاع وهو سبق أن حلّ مشكلات مماثلة عديدة في الماضي بين اليونان وتركيا من دون نشوب حرب».
وخلُص بارودي إلى القول: إن أهمية «اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار»وتأثيرها المتزايد، جعل من كل قواعدها ومعاييرها أساساً لكل المفاوضات والاتفاقات البحرية تقريباً في العالم. كما أن التقدّم الحاصل في مجال العلوم والتكنولوجيا والأقمار الصناعية... إلخ، لا سيما رسم الخرائط الدقيقة بين بلدين أو شطّين... قد وسّع نطاق المبادئ التوجيهيّة لاتفاقات الأمم المتحدة لقانون البحار من أجل إيجاد تسوية للنزاعات في أي بلد. ولبنان هو أقوى اليوم مما كان عليه منذ ثلاث وأربع سنوات، لأن الأقمار الاصطناعية أفسحت المجال أمامه واسعاً في هذا المجال.

font change