إثيوبيا وسعير الحرب الأهلية

أزمة دولة أم دولة أزمة؟

سهلورق زودي رئيسة إثيوبيا بجانب آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا، خلال تكريم قوات الدفاع الوطني في أديس آبابا (غيتي)

إثيوبيا وسعير الحرب الأهلية

* لم تكن الأزمة الراهنة هي الأولى من نوعها وإنما هي أزمة متجددة، تتركز دوافعها وأسبابها حول فشل الدولة في إدارة التنوع الإثني والعرقي الواسع
* آبي أحمد: إقليم تيغراي تجاوز كل الخطوط الحمراء
* رغم أن الدستور الإثيوبي يمنح الحق للأقاليم المكونة للدولة الفيدرالية لتقرير المصير بمجرد إخطار الحكومة المركزية، إلا أن آبي أحمد أراد أن ينهي وضع الدولة الفيدرالية وجعلها دولة مركزية
* لم يكن رهان آبي أحمد في محله، إذ لم يمكّنه اتفاق السلام الموقع مع إريتريا من ضمان الاستقرار الداخلي، كما لم يكن مشروع السد وتعنته الفادح في المفاوضات ضمانة للتماسك الداخلي
* من غير المنتظر أن تشهد الأزمة الإثيوبية حلا عاجلا خلال الأجل القريب
 

باكو: ليست مبالغةً تكرار قول المؤرخ الإيطالي كونتي روسي الذي أطلق على إثيوبيا أنها «متحف الشعوب»تعبيرا عن كثرة الإثنيات والعرقيات الموجودة بها، إذ تشبه فسيفساء متنوعة موزعة على أراضيها المقسمة إلى تسعة أقاليم تضم أكثر من 80 مجموعة عرقية، وهو ما يجعل من السهولة بمكان اشتعال أوضاعها الداخلية بسرعة غير مقدرة إذا ما أُلقي عود ثقاب على أي جزء من أراضيها الممتدة مساحتها التي تشغل المرتبة العاشرة أفريقياً، والثانية من حيث عدد السكان بعد نيجيريا بعدد سكان يبلغ 108 ملايين نسمة. 
ومن ثم، تواجه مختلف الحكومات الإثيوبية تهديدا مستمرا لأوضاعها إذا لم تحسن إدارة ملف التباينات العرقية بصورة تحقق التناغم المجتمعي والعدالة الاجتماعية والسياسية، ولعل القراءة المتأنية لتطورات الأحداث الداخلية منذ استقلال دولة إثيوبيا في ديسمبر (كانون الأول) 1944 تؤكد على صحة هذا الاستنتاج، فقد نجح الإمبراطور هايلي سيلاسي (المنتمى إلى العرقية الأمهرية) في البقاء في السلطة حتى سبتمبر (أيلول) 1974، إذ ترك السلطة إثر تمرد مجموعة من الضباط اليساريين بقيادة الرئيس منغيستو هايلي مريام، ذي التوجهات الشيوعية، الذي لم يتمكن هو الآخر من الاستمرار في السلطة على غرار سابقه، بل أدى فشله في إدارة البلاد بشكل توافقي إلى إسقاطه عام 1991 بحرب داخلية قادتها الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية بقيادة رئيس الوزراء الأسبق مِلِس زيناوي (التيغري) والتي كانت تضم أربع قوى أساسية، هي: المنظمة الديمقراطية لشعوب أورومو، وحركة أمهرة الوطنية الديمقراطية، وحركة شعب جنوب إثيوبيا الديمقراطية، وجبهة تحرير شعب تيغراي. ورغم وصول زيناوي إلى السلطة إلا أن غيابه المفاجئ عن السلطة بسبب الوفاة عام 2012، ترك تأثيره على أركان الدولة الإثيوبية التي كانت قد بدأت تشهد اضطرابات داخلية منذ عام 2001، وقد حاول زيناوي خلال هذه الفترة احتواءها إلا أن الأمور انفجرت أمام خليفته رئيس الوزراء هايلي مريام ديسالين الذي لم يستطع الصمود طويلا تحت ضغط الاحتجاجات القومية التي تصاعدت بزخم شعب الأورومو في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، وكانت قد بدأت بطلاب المدارس والجامعات، والتحق بهم بقية سكان إقليم أوروميا، وبعدها التحق الأمهرة الذين كانوا يسيطرون على الحكم في زمن الإمبراطور الراحل هايلي سيلاسي، ليستقيل في أواخر 2017 لتظل إثيوبيا من دون رئيس وزراء حتى اختيار آبي أحمد من الأورومو فاتحا صفحة جديدة من السلام الداخلي الذي لم يستطع أن يحافظ عليه طويلا بسبب سياساته الداخلية القمعية من ناحية وتوجهاته الخارجية، وخاصة دفء علاقاته مع إريتريا العدو الرئيسي لجماعة التيغراي من ناحية أخرى.
هكذا تكشف أحداث التاريخ عن واقع تعاني منه «جمهورية إثيوبيا الفيدرالية الديمقراطية»، ذلك الواقع الذي يتكرر بين الحين والآخر مهددا وحدة الدولة الإثيوبية بل قد يقودها إلى التفكك أو الدخول في مرحلة ما يطلق عليه البلقنة على غرار ما حدث في دول البلقان التي تفككت إلى عدة دول بسبب صراع القوميات. 
ويستعرض هذا التقرير الأزمة الإثيوبية الراهنة والتي تشهد تطورا مختلفا عما شهدته فيما سبق من أزمات واضطرابات لم تصل إلى المستوى الذي تشهده في الصراع الداخلي الراهن والذى ينذر بحرب أهلية تمتد لهيبها إلى الجوار الإقليمي المباشر وغير المباشر، حيث يتناول التقرير عددا من المحاور للكشف عن طبيعة الأزمة وأبعادها وتداعياتها وسيناريوهاتها المستقبلية، وذلك على النحو الآتي: 


 

الإمبراطور هايلي سيلاسي
 


 
أولا: إثيوبيا... فسيفساء إثنية ولغوية ودينية
تنقسم إثيوبيا إلى 9 أقاليم رئيسية هي: تيغراي، عفر، أمهرة، أروميا، أوجادين، بني شنقول أو قماز، بالإضافة إلى قوميات الأمم الجنوبية وهي جامبيلا، وهراري، فضلا عن منطقتين حضريتين هما: أديس آبابا التي يسكنها مجموعة من العرقيات المختلفة، ديرة داوا. ويسكن هذه الأقاليم التسعة والمناطق الحضرية عدد من المجموعات العرقية، أبرزها ما يأتي: 

  • الأورومو، وهي تمثل بين 34 في المائة إلى 40 في المائة من السكان، ويعتنق ما يزيد على 70 في المائة منهم الإسلام، بينما يعتنق حوالي 20 في المائة منهم المسيحية، ويتشعب الأورومو إلى أكثر من 200 قبيلة، تمتد إلى أجزاء من كينيـا.
  • الأمهرة، يمثلون 27 في المائة من السكان، وهم السكان الأصليون وخضعوا للثقافة السامية وحكموا البلاد لقرون طويلة وعاصمة الإقليم هي بحر الدار، ويتكون الإقليم من 10 مناطق إدارية ومنطقة خاصة واحدة، وتعتبر الأمهرية هي اللغة الرسمية للدولة، وللجيش الإثيوبي.
  • مجموعات عرقية رئيسية أخرى، منها: الصومالية بنسبة 6.2 في المائة، والتيغراي بنسبة 6.1 في المائة، والشنكيلا بنسبة 6 في المائة من السكان ويتواجدون بمحاذاة الحدود الجنوبية، وسيداما بنسبة 4 في المائة ويقطنون التلال الجنوبية ومنطقة السافانا، وجوراج بنسبة 2.5 في المائة ويسكنون جنوب الهضبة الإثيوبية، ويلاتيا بنسبة 2.3 في المائة، وعفار بنسبة 1.7 في المائة شمال البلاد، وهادية 1.7 في المائة، وجامو 1.5 في المائة. 

ويتحدث الشعب الإثيوبي أكثر من 80 لغة مختلفة و22 لهجة محلية أشهرها السامية، والكوشية، والأموتية، ولغات النيل والصحراء الكبرى. كما تتوزع الديانات بواقع: 43.5 في المائة مسيحيون أرثوذكس. و18 في المائة مسيحيون بروتستانت. و33.9 في المائة مسلمون، و2.6 في المائة مسيحيون كاثوليك، إضافة إلى أقليات تمثل ديانات مختلفة. 


 

بدأ الجيش الإثيوبي في قصف العديد من مواقع إقليم تيغراي بتهمة أن الحزب الحاكم بالإقليم شن هجوما على أحد مواقع الدفاع التابع للحكومة الإثيوبية
 


 
ثانياً: أزمة التيغراي... أزمة متجددة بعناوين متباينة
لم تكن الأزمة الراهنة التي تواجهها الدولة الإثيوبية هي الأولى من نوعها، كما سبقت الإشارة، وإنما هي أزمة متجددة بين الحين والآخر، تتركز دوافعها وأسبابها في كل مرة حول فشل الدولة في إدارة التنوع الإثني والعرقي الواسع، إذ يؤكد الواقع على أن ثمة إشكالية في رؤية الدولة للتعامل مع قضايا التعدد والتنوع العرقي والثقافي والديني الموجود، حيث يغلب على الحكومات التي توالت على السلطة النظر إلى هذه القضية من منظور قناعاتها السياسية والآيديولوجية من ناحية، ومنظور خلفياتها الإثنية والعرقية من ناحية أخرى. وهو ما أدى إلى غياب أية خارطة طريق أمام الدولة للتعامل مع هذا التنوع، فقد فشلت النخب الحاكمة بل والمثقفة في إيجاد حلول لعديد من القضايا الرئيسية التي تعاني منها الدولة الإثيوبية ومن بينها قضية العلم الوطني واللغة وسيادة القانون الاتحادي، بما أدى إلى ضعف النظام المركزي الحاكم، ليؤدي بدوره إلى نشوء العديد من الحركات والتنظيمات المطالبة بالانفصال والمهددة لوحدة الدولة، منها على سبيل المثال: أحزاب أورومو الفيدرالية، والحركة الوطنية لأمهرة، والجبهة الوطنية لتحرير أوجادين، وجبهة تحرير شعب التيغراي وغيرهم. 
ومن نافل القول إن ما يجري الآن فيما يتعلق بأزمة التيغراي يمثل امتدادا للأزمات والصراعات التي عاشتها الدولة الإثيوبية مع كل حكومة إثنية تسيطر على مقاليد السلطة وتفشل في إدارة ملف التباين العرقي والإثني، إذ نظر التيغراي إلى سياسة رئيس الوزراء آبي أحمد على أنها سياسة قائمة على تهميشهم وإضعاف مكانتهم، حينما قرر أن يشكل حزبا قوميا سماه «الازدهار»في محاولة لصهر كل العرقيات، وهو ما اعتبرته التيغراي موجها ضد سيطرتها واحتكارها للمناصب العليا. ولذا، فعندما بدأ آبي أحمد في تأسيس هذا الحزب الذي حظي بتأييد غالبية القوميات المشكلة لإثيوبيا، برزت المعارضة الواسعة من جانب التيغراي، حيث رفضوا الانضمام للحزب، لتبدأ الملاسنات والحروب الكلامية بينهما، والتي وصلت إلى حد الخلاف السياسي حينما حل وقت إجراء الانتخابات النيابية في يونيو (حزيران) 2020، إذ قرر آبي أحمد تأجيلها بحجة انتشار فيروس كورونا المستجد، وأصدر قرارا باستمرار المجالس النيابية كما هي. وهو القرار الذي رفضه التيغراي وأقدموا على إجراء الانتخابات في الإقليم في سبتمبر (أيلول) 2020، من دون موافقة الحكومة المركزية في أديس آبابا، وهو ما دفع آبي أحمد حتى ما قبل الانتخابات إلى خفض الموارد المالية المخصصة للإقليم، كأداة للضغط عليه لكي لا يتمكنوا من إجراء الانتخابات، لكن كل ذلك لم يفلح في منعهم من إجراء انتخاباتهم التي تعني عمليا أن التيغراي يسحبون اعترافهم بسلطة الحكومة في العاصمة، لتتسع دائرة المشاحنات والتهديدات بين الطرفين لتتحول إلى حرب فعلية في أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الجارى (2020)، حينما صرح آبي أحمد بأن «إقليم تيغراي تجاوز كل الخطوط الحمراء»، ليبدأ الجيش الإثيوبي في قصف العديد من مواقع إقليم التيغراي بتهمة أن الحزب الحاكم بالإقليم شن هجوما على أحد مواقع الدفاع التابع للحكومة الإثيوبية ومحاولة سرقة أسلحة مدفعية ومعدات عسكرية، وهو الهجوم الذي شهد ردا هجوميا من جانب قادة الإقليم لتشتعل سعير الحرب الأهلية التي لا تزال في بدايتها، رغم كل ما أفرزته من ضحايا وخسائر وفرار ما يزيد على 25 ألف لاجئ إلى السودان، بما يزيد من تعقيد الأزمة بصورة متفاقمة مع دخول إريتريا على خط الحرب إلى جانب آبي أحمد ضد إقليم التيغراي الذي خاض حربا ممتدة ضد إريتريا والتي جاء آبي أحمد لإنهائها بالاعتراف بأحقية إريتريا في الأراضى المتنازع عليها بين البلدين منذ تسعينات القرن المنصرم، وهو ما زاد من غضب إقليم التيغراي الذي رأى فيما أقدم عليه آبي أحمد أنه تقديم تنازلات لإريتريا مقابل حصوله على جائزة نوبل. 


 

رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لدى تسلمه جائزة نوبل للسلام 10 ديسمبر 2019 في أوسلو، النرويج (غيتي)
 


 
ثالثا: أزمة التيغراي ومستقبل آبي أحمد في السلطة
كشفت الأزمة الراهنة عن رؤية لم تختلف كثيرا لدى آبي أحمد في نظرته إلى إدارة ملف التباين العرقي والإثني للدولة الإثيوبية، إذ إنه رغم أن الدستور الإثيوبي يمنح الحق للأقاليم المكونة للدولة الفيدرالية لتقرير المصير بمجرد إخطار الحكومة المركزية، إلا أن آبي أحمد أراد أن ينهي وفقا لرؤيته وضع الدولة الفيدرالية وجعلها دولة مركزيةبإقدامه على تأسيس حزب الازدهار- كما سبقت الإشارة- مستمدا هذه الرؤية من خلال سياسته التي انطلقت في تصفية واحد من الصراعات التي هددت الأمن في القرن الأفريقي (الحرب الإثيوبية الإريترية) والتي كوفئ عليها بمنحه جائزة نوبل للسلام، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى جاء تصعيده في ملف أزمة سد النهضة اعتقادا منه أنها قضية دولة ونقطة الإجماع الوحيدة بين المكونات السياسية والعرقية وسند الشرعية الأساسي له. غير أن الواقع أثبت عكس هذه الرؤية بل وفشلها أيضا، بمعنى أكثر تحديدا لم يكن رهان آبي أحمد في محله، إذ لم يمكنه اتفاق السلام الموقع مع إريتريا من ضمان الاستقرار الداخلي، كما لم يكن مشروع السد وتعنته الفادح في المفاوضات ضمانة للتماسك الداخلي، أو مانعا لاندلاع الحرب الأهلية. بل يمكن القول إن مشروع آبي أحمد الذي حمله حينما أتى إلى السلطة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، لم يكن ملائما للواقع الإثيوبي وإنما يعطي تشكيكا في جدواه لصالح الدولة الإثيوبية، بما يجعل الرهان على استمراره في السلطة أمرا مشكوكا في جديته، ويرجع ذلك إلى عاملين أساسيين، هما: 
أولا:التقدير الخاطئ من جانب آبي أحمد لرد فعل إقليم التيغراي سواء فيما يتعلق بعلاقته مع إريتريا، أو فيما يتعلق برؤيته الخاصة بتحجيم أبناء الإقليم بعيدا عن مراكز السلطة التي وصلوا إليها خلال الفترة السابقة، واتضح سوء التقدير بصورة جلية حينما اشتدت الأزمة وتصاعدت بين الإقليم والحكومة المركزية، حيث حاول آبي أحمد تكرار سيناريو نجاحه السابق السهل عندما استطاع قمع احتجاجات الأورومو بالقوة عقب اغتيال المطرب الأورومي هوشالو هونديسا، وقام باعتقال كل قادة حركة الأورومو المنتمي إليهم، بل يذكر أنه تحالف مع قومية الأمهرة على حساب الأورومو التي قادت احتجاجات مناهضة لحكومة ديسالين، وهو ما لا يمكن أن يحدث مع إقليم التيغراي لسببين:الأول، التباين الديموغرافي بين المجموعتين، إذ إنه في الوقت الذي يتميز فيه أبناء التيغراي بالمستوى الثقافي والتعليمي العالي والمستوى المالي المميز، إضافة إلى اشتغال أبناء الإقليم في عدد كبير من مؤسسات الدولة المركزية في أديس آبابا. على الجانب الآخر، يغلب على أبناء الأورومو ضعف المستوى التعليمي والثقافي وتركيزهم على مهنة الزراعة، بل يغلب على نمط معيشتهم الحياة البدائية، وهو ما جعل السيطرة عليهم أسهل حينما تفاقمت الأمور. أما السبب الثاني، فيتعلق بما يتمتع به التيغراي من  خبرات عسكرية متراكمة حصل عليها أبناء الإقليم أثناء الحرب الإريترية الإثيوبية، والتي دارت رحاها داخل الإقليم، بل كانت سببا في انتماء عدد كبير من أبناء الإقليم إلى الجيش الإثيوبي ووصول ضباط كثيرين منهم إلى رتب ومناصب عليا فيه، ويقدر عدد قوات التيغراي بحوالي 250 ألف جندي. وهو ما يفسر السبب وراء إلقاء أديس آبابا القبض على 17 ضابطاً في الجيش الإثيوبي بتهمة الخيانة، كما يفسر كذلك إقدام آبي أحمد على إقالة قائد الجيش وقائد الاستخبارات ووزير الخارجية في يوم واحد نظرا لمعارضتهم لتصعيد الحرب ضد الإقليم، وهو ما يعبر عن مدى ما وصلت إليه الأوضاع من تفاقم.  
ونتيجة لهذين السببين، وضع التيغراي نصب أعينهم ما حدث مع الأورومو، لذلك تحول صراعهم مع أديس آبابا إلى معادلة صفرية وصراع وجود، فإما أن تكون أو لا تكون، وهو ما جعلهم أكثر تشددا في معركتهم. 
ثانيا:تفاقم الأوضاع الخارجية والداخلية، إذ يواجه آبي أحمد أزمة متفاقمة مع مصر والسودان فيما يتعلق بأزمة سد النهضة بسبب تعنته وتشدده غير المبرر، فضلا عن أزمته مع السودان التي سبق أن دخل الطرفان بسببها في مواجهة عسكرية مؤخرا تم احتواؤها، إلا أنهما لم يتوصلا إلى حل لأسباب تلك المواجهة. كما يواجه آبي أحمد في الوقت ذاته أزمات داخلية اجتماعيا واقتصاديا وأمنيا سواء بسبب أزمة فيروس كورونا المستجد الذي أدى إلى تراجع مستويات النمو وفاقم من تعقيد الأوضاع، أو بسبب زيادة حجم الديون التي أثقلت كاهل الاقتصاد الإثيوبي. إضافة إلى ما يواجهه من استياء من داخل مجتمع الأورومو العرقي الذي ينتمى إليه، حيث يؤكد كثيرون أنهم لا يرون تقدما رغم وعود رئيس الوزراء الكثيرة من أجل التغيير. 
وغني عن القول إن الأمر لم يتوقف على ذلك فحسب، بل كان لتوقيت الأزمة دور إضافي في تعقيدها وتصعيدها، إذ إن العالم غير مهيأ لتدخل جدي لوقف صدامات السلاح، فالولايات المتحدة مشغولة باستحقاقات نقل السلطة التي تعاني للمرة الأولى ارتباكا غير مسبوق في إجراءاتها، وهو ما يجعلها بعيدة في ذلك الوقت من استخدام نفوذها لوقف إطلاق النار، كما أن الاتحاد الأوروبي لم يعط اهتماما ملحوظا بإمكانية التدخل بأكثر من نداءات وقف إطلاق النار وحفظ سلامة المدنيين، الأمر ذاته ينصرف إلى الاتحاد الأفريقي الذي لا يمتلك القدرة على وضع حد لخلافات وصراعات مزمنة في البيت الإثيوبي. 
ولذا فإنه من غير المنتظر أن تشهد الأزمة الإثيوبية حلا عاجلا خلال الأجل القريب خاصة مع تزايد حدة الاتهامات المتبادلة من الطرفين وتصعيد الحكومة المركزية من لهجتها تجاه تطورات الأوضاع، كما عبر عن ذلك رئيس الوزراء آبي أحمد في رسالته على «فيسبوك»في السابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري والتي أعلن فيها عن انتهاء مهلة مدتها 3 أيام لاستسلام قوات وميليشيات إقليم تيغراي، وأنه بعد انتهاء هذه المهلة، سيتم تنفيذ الإجراء الحاسم الأخير لإنفاذ القانون في الأيام المقبلة، دون أن يحدد طبيعة هذا الإجراء وإن كان مضمون الخطاب يعكس اللجوء إلى تصعيد من مستويات العمل العسكري الذي من غير المتوقع أن يحسم المعركة لصالح الحكومة المركزية، بما قد يفاقم الأوضاع بصورة قد تمتد إلى الجوار الجغرافي خاصة ما بعد ضربات التيغراي لمطار أسمرة في إريتريا. مع الأخذ في الحسبان أن الحل مع تفاقم الأزمة قد يؤدي بالتبعية إلى رحيل آبي أحمد والدخول في معترك سياسي جديد، إلا أن هذا الدخول ليس ضمانة لاستقرار الدولة الإثيوبية، ما لم يأت رئيس توافقي يتفهم أزمات الواقع الإثيوبي منعا لانزلاق الأوضاع لمزيد من التدهور بما قد يكون بدايات لتفكيك الدولة وبدء مرحلة صراعية جديدة في منطقة القرن الأفريقي بما تمثله من أهمية جيواستراتيجية عالميا وإقليميا، وهو ما يفرض أهمية البحث عن مقاربات جديدة للتعامل مع الأزمة الراهنة بعيدا عن الرهان المتكرر على توافق مرحلي سرعان ما تدخل الدولة عقبه في صراع جديد يعيد الكرة من جديد إلى نقطة الصفر في أحسن الأحوال. 
خلاصة القول إن أزمة الدولة الإثيوبية أزمة متجددة مع كل الحكومات التي تتولى السلطة وتتغافل عن معالجة قضيتين رئيسيتين: 
الأولى، تتعلق بكيفية إدارة ملف التباين العرقي والإثني بصورة تحقق عدالة سياسية واجتماعية.
الثانية،إدارة ملف علاقات الدولة خارجيا مع جوارها الجغرافي المباشر بصورة تعاونية وليس صراعية، انطلاقا من طبيعتها الجغرافية كدولة حبيسة تحتاج إلى إرساء دعائم الاستقرار والتعاون بين الجميع. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لا تزال الدولة في مراحل تطورها الأولى بما يجعلها في حاجة ماسة إلى استثمار كافة مواردها وتعظيم عوائدها بعيدا عن الدخول في حروب وصراعات تستنزف هذه الموارد المحدودة بما يزيد من معاناة الشعب الإثيوبي لتتصاعد بذلك موجة الاحتجاجات والصراعات بين أقاليم الدولة المختلفة. فنكون إزاء أزمة دولة من ناحية غير قادرة على إدارة ملفاتها الداخلية عرقيا وتنمويا، وفي الوقت ذاته إزاء دولة أزمة بتصعيد توتراتها في علاقاتها مع جيرانها من ناحية أخرى. 

font change