لا للأحزاب... ونعم للدولة المدنية

توجهات الشباب في جنوب لبنان

لا للأحزاب... ونعم للدولة المدنية


*93   في المائة من شباب مدينة النبطية... و97.8 في المائة من شباب مدينة صور أعلنوا عدم الانتماء الرسمي إلى حزب أو تيار أو حركة سياسية
* 83.3  في المائة من شباب مدينة صيدا لا يدعمون ولا يريدون أي جهة سياسية
* سجلت النبطية نسبة تأييد 100 في المائة لصالح مطلب إقامة دولة مدنية
* سليمان: المتظاهرون لم يتواجدوا صدفةً وإنما هم أبناء تلك المناطق

بيروت: عند الحديث عن الحالة اللبنانية بتشعباتها وتعقيداتها ومآسيها وأزماتها، لا بدّ من التوقف قليلاً والتأمل في واقع الشباب اللبناني الذين شكلوا عصب 17 أكتوبر (تشرين الأول). فمن نافل القول إن حدوث أي تغيير جدي وفعلي في البلاد سينطلق من هؤلاء، وهم الذين ورثوا من الأجيال السابقة تركة ثقيلة بطائفيتها وتسلطها في الحكم، ورثوا كذلك أزمة اقتصادية لم يشهدها لبنان من قبل، كما ورثوا طبقة سياسية تعتمد في نفوذها على المحاصصة والمحسوبية والواسطة، وورثوا قادة للبلاد يحملون شعار «حماية الطائفة» لصون مراكزهم. ولكنهم رفضوا أن يشاهدوا «وراثة نجل الزعيم لأبيه»، فجاء تحركهم الذي فاجأ الجميع.
لم تكد تمر ساعات على ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، حتّى بات واضحاً للمراقبين أن الشباب اللبناني قرر الانتفاض وخوض معركته الخاصة، فشاهدنا التلميذ والطالب الجامعي والموظف في المطعم والمقهى، والباحث عن عمل بعد تخرجه، والعاطل عن العمل يملأون الشاشات ويعبرون عن سخطهم ورفضهم لكل هذا الواقع. هذا المشهد، لم يكن مختلفاً في الجنوب اللبناني من صيدا إلى صور والنبطية وصولاً لمنطقة العرقوب، هتف الشباب ضد الزعماء، وحولوا ساحات الاعتصام إلى مراكز ثابتة لهم يرفرف في سمائها العلم اللبناني ويزينها شعار «كلن يعني كلن».
ولطالما اقتصرت المظاهرات الشعبية على العاصمة بيروت، فكان وسطها الملجأ شبه الوحيد لتجمع الشباب اللبناني من مختلف المناطق للمطالبة بشتّى القضايا. لذا، فإن المفاجأة الأكبر كانت بشمولية المظاهرات التي انطلقت عشية 17 أكتوبر (تشرين الأول)، لتصل إلى مناطق الأطراف التي لم تتعود على وجود أي تظاهرات أو اعتصامات باستثناء بعض التحركات الاحتجاجية التي عادةً ما تقتصر على بضع عشرات من الشباب الجنوبي لمناصرة قضايا بيئية واجتماعية وإنسانية.
 
الجنوب بين الانتماء الحزبي والاستقلالية
هذا التحول في المشهد يمكن استنتاج دلالاته من خلال استطلاع للرأي أجراه «مركز رشاد للحوكمة الثقافية في مؤسسة أديان»، في الفترة الممتدة بين 29 نوفمبر (تشرين الثاني) و14 ديسمبر (كانون الأول) 2019، أي بعد 42 يوماً من اندلاع الثورة، شمل 1,800 شخص ما بين 18 و35 سنة من العمر. فوفقاً للاستطلاع، يتبين أن نسب الشباب الجنوبي الذين شاركوا ولو مرة واحدة في المظاهرات والاعتصامات التي بدأت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) هي: صيدا 63.3 في المائة، الزهراني 18.5 في المائة، جزين 27.6 في المائة، النبطية 11.3 في المائة، صور 26.4 في المائة، مرجعيون 16.4 في المائة، وحاصبيا 39.1 في المائة.
كما يتبيّن أن نسب عدم تأييد أو دعم أي جهة سياسية من قبل الشباب الجنوبي كان متوسطاً حيث بلغ أعلى معدلاته في صيدا بنسبة 83.3 في المائة، في حين سجّل أدنى معدلاته في مرجعيون بنسبة 25.5 في المائة، وجاءت النسب ما بينهما على الشكل التالي: الزهراني 31.5 في المائة، جزين 48.3 في المائة، النبطية 49.3 في المائة، صور 29.7 في المائة، وحاصبيا 52.2 في المائة.
 
الكاتب السياسي حارث سليمان

شباب الجنوب والدولة المدنية
هذه النسب ترتفع لدى الشباب الجنوبي لتصل إلى أرقام قياسية عند الإعلان عن عدم الانتماء الرسمي إلى حزب أو تيار أو حركة سياسية، فقد جاءت جميع النسب أعلى من 90 في المائة وهو رقم يدل على ابتعاد هذه الفئة الاجتماعية الشبابية عن التيارات السياسية باعتبار أنها لا تمثل آراءهم وطموحاتهم وهواجسهم، وهذه النسب توزعت على الشكل التالي: صيدا 93.3 في المائة، الزهراني 94.4 في المائة، جزين 93.1 في المائة، النبطية 93 في المائة، صور 97.8 في المائة، مرجعيون 94.5 في المائة، حاصبيا 100 في المائة.
وكان لافتًا التأييد الواسع الذي حظي به مطلب إقامة دولة مدنية، حيث أيّد شباب النبطية هذا المطلب بنسبة 100 في المائة، وبلغ هذا التأييد في حاصبيا نسبة 99.9 في المائة، وهي من أعلى النسب في لبنان.
 
الجنوب والحراك المستمر
في هذا السياق، قال الكاتب السياسي حارث سليمان، في حديث خاص لـ«المجلة» إن هناك عقلا في لبنان يتعامل مع الجنوب كمكون غريب، وهذا يعود إلى أن حزب الله حاول أن يقول إن الجنوبيين مختلفون عن باقي اللبنانيين، أي إنهم لا يتصلون مع باقي الناس وليس لديهم هموم مشتركة ولا يُحاسبون، في حين أن ما ينطبق على اللبنانيين جميعاً ينطبق على الجنوبيين».
وأضاف سليمان: «لكل حزب في لبنان روايته الخاصة، وتلك هي رواية حزب الله إلا أن المشكلة أن الإعلام والأخصام لحزب الله صدقوا تلك الرواية وسلموا بها». وتابع سليمان: «المدن والقرى الجنوبية تشهد حراكا مضادا لحزب الله بشكل يومي منذ عشرات السنين، ويُعبّر بأشكال مختلفة، ولا شك أن هناك قبضة لحزب الله منعت بروز هذه الحالة الاعتراضية، كما أن الدولة لعبت دورا في تسليم مقاليد السلطة الفعلية لحزب الله وحركة أمل». كما أشار سليمان إلى أن «كل ذلك انكسر في 17 أكتوبر (تشرين الأول) وفُتح المجال العام للناس للتعبير عن آرائهم، وهؤلاء المتظاهرون لم يتواجدوا صدفةً وإنما هم أبناء تلك المناطق ومن أعمار مختلفة».
وعن أسباب تراجع أعداد المتظاهرين، قال سليمان: «هذا التراجع لم ينحصر في الجنوب وإنما شمل كافة المناطق، بل على العكس كان هناك إصرار في مناطق الجنوب على إعادة إحياء ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، وبالتالي فإن هذه الثورة متجذرة في هذه الساحات ولا إمكانية للعودة إلى ما قبل ذلك التاريخ». ولفت سليمان إلى أن «الثورة لا تعني البقاء في ساحات الاعتصامات وإنما هي عبارة عن وعي الناس وإدانتهم للسلطة وعدم اعتبار أنها تُمثل طموحاتهم». وعن إمكانية ترجمة هذا التوجه في صناديق الاقتراع، قال سليمان إن «السلطة ستؤجل الانتخابات المقبلة خوفاً من أي تغيير، فهي لم تعد تعبر عن شعور الناس،  ولذا رفضت الانتخابات المبكرة وإلا كان يمكن إجراؤها واكتساب شرعية شعبية».
 
ساحة الاعتصام قي مدينة صور الجنوبية

شباب الجنوب: لا ثقة بالسلطة
وفي محاولة لفهم مواقف شباب الجنوب، قامت «المجلة» باستطلاع آراء عدد منهم، فقالت ريهام رومية إنها «لا تثق بهذه الطبقة السياسية الفاسدة خصوصاً في ظل الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي تتحمل مسؤوليته». وأضافت: «بعد 30 سنة في الحكم لم تقدم السلطة لنا أي شيء سواء طبابة أو فرص عمل أو تعليم، وكل ذلك شكل دافعا بالنسبة لي للمشاركة في المظاهرات».
وأضافت رومية: «الثورة تمكّنت من كسر مركزية الاعتصامات والاحتجاجات التي كانت تقتصر على العاصمة بيروت، ومعها كسرت الخوف لدى المواطنين الذين تشجعوا للنزول إلى الشوارع والتعبير عن آرائهم». ولفتت إلى أن «تراجع أعداد المتظاهرين يعود إلى الخوف والتهديد والضغط الذي تعرضوا له، بالإضافة إلى تخوين الثورة واالاتهامات التي وجهت لها». وتابعت رومية: «هناك مواطنون توقعوا إحداث تغيير أكبر من خلال الثورة، إلا أن الإحباط الذي أصابهم جعلهم ينكفؤون ويعودون إلى منازلهم، إلا أن هؤلاء لم يؤيدوا السلطة وبالتالي سيعبرون عن آرائهم من خلال صناديق الاقتراع، وهذا يفتح الباب أمام إمكانية إحداث تغيير فعلي في الجنوب». وختمت رومية أن «نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة اقتصرت على 49 في المائة من المواطنين وبالتالي فإن النسبة الأكبر من المواطنين لم ينتخبون لأنهم ضد السلطة».
حديث رومية لا يختلف كثيراً عن حديث علي جابر الذي قال لـ«المجلة» إن «مشاركة الشباب اللبناني عموماً والجنوبي خصوصاً في الاحتجاجات والاعتصامات يعود إلى حاجتهم لطريق جديد ورؤية حديثة، فهذا الجيل الجديد نشأ على فكرة ضرورة إيجاد خيار آخر وبديل للسلطة، وهذا ما فقدناه عام 2016 مع المظاهرت التي واكبت أزمة النفايات». وأضف إلى ذلك أن «الانتخابات الأخيرة أفرزت مجلسا نيابيا لا يُرضي طموح وتطلعات الشباب». وتابع جابر: «اليوم لا أحد يمثلني في هذه السلطة».
كما أشار جابر إلى أن «الاعتصامات ما زالت قائمة في بيروت نتيجة وضعها كنقطة التقاء لجميع المناطق، أما في الأطراف فقد تراجعت أعداد المتظاهرين نظراً لوجود هيمنة وخوف، وهذا الخوف مبرر؛ إذ إن هناك تجربة بيّنت تعرض الثوار للاعتداءات».
أما رشا هاشم التي تُعرف عن نفسها بأنها مستقلة ولا تنتمي لأي جهة سياسية، فتؤكد في حديث لـ«المجلة» أنها كانت تضع كل أملها في بناء مستقبلها في لبنان من خلال إسقاط الطبقة السياسية الفاسدة. وقالت هاشم: «أصابتني خيبة أمل كبيرة، إذ إن السلطة تمكنت من التحكم في السواد الأعظم من المواطنين». وأضافت هاشم أن «بارقة الأمل الوحيدة برزت من خلال نتائج الانتخابات الطلابية التي أفرزت فوزا كبيرا للطلاب المستقلين، وبالتالي فهي مؤشر على المزاج الشعبي في البلاد». وتابعت هاشم: «المشكلة في الجنوب أن معظم المواطنين يخافون من التهديد أو الانتقام منهم بطرق مختلفة».
لا شك أن ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) كسرت القيود وقدمت صورة جديدة للواقع السياسي اللبناني، حيث أدخلت لاعبين جددا إلى تلك الساحة لطالما كان صوتهم هامشياً، وباتوا اليوم في صلب المشهد السياسي، هذه الفئة الاجتماعية المتمثلة بالشباب اللبناني تمكنت من التعبير عن مخاوفها وهواجسها من خلال المشاركة الكثيفة في المظاهرات والاحتجاجات. وهكذا، تمكن الشباب الجنوبي من ترجمة مواقفهم الرافضة للأحزاب السياسية من خلال الانضمام إلى تلك المظاهرات، بل والتصميم على البقاء في الساحات رغم كل الاعتداءات التي تعرضوا لها.
لقد شكلت المظاهرات التي قادها الشباب الجنوبي في مختلف المناطق الجنوبية مفاجأة للجميع، كما أن ثباتهم وبقاءهم في صلب هذا الحراك السياسي شكل مفارقة بحد ذاته، إلا أن التغييرات السياسية وتبدل ميزان القوى ولّد إحباطا لدى الشباب اللبناني ومن ضمنه الجنوبي، وبات التعبير عن هذا الإحباط يتمثل بالهجرة. وبين الأمل بتحقيق خرق في جدار الأحزاب الجنوبية والاعتراض على الأمر الواقع من خلال الهجرة، تبقى الانتخابات النيابية المقبلة، إن أُجريت، المعيار الذي يمكن من خلاله تقييم نجاح أو فشل هؤلاء الشباب بتحقيق أهدافهم.



 
font change