الأزمات المتتالية تُضاعف نسب الحزن والغضب في لبنان

«التجارب السلبية» تُسجل مستويات خطيرة

سيدة لبنانية خلال تظاهرة ضد الأوضاع المعيشية المتردية في لبنان

الأزمات المتتالية تُضاعف نسب الحزن والغضب في لبنان

* أبو عقل: نبني جيلا يُعاني من هشاشة نفسية وجسدية
* إسعيد: تفاعل الأفراد مع الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية يضعهم تحت ضغط شديد يعبرون عنه بالسلوك العنيف المتزايد
* مرشاد: سجل لبنان ارتفاعاً كبيراً في أعداد التبليغات عن العنف الإلكتروني
* شمس الدين: الأزمة السياسية والاقتصادية أدت إلى ارتفاع غير مسبوق في نسب جرائم القتل والسرقة والهجرة

بيروت: يشهد لبنان عدّة أزمات مترابطة ومتصلة بعضها ببعض منذ أكثر من عام، فقد عانى اللبنانيون من الأزمات الاقتصادية والمالية وصولاً لأزمة كورونا، مما زاد من حجم الضغط النفسي الذي يتعرضون له، وانعكس بالتالي على مستوى الحياة التي يعيشونها، وهذا ما ظهر من خلال مؤشّر «غالوب» العالمي الذي وصف الوضع في لبنان بالعبارة التالية: «لم تشهد أي دولة في العالم ارتفاعاً في التجارب السلبية مثل لبنان».
ووفقاً للمؤشّر، فقد ازدادت نسبة اللبنانيين الذين يشعرون بالحزن من 19 في المائة عام 2018 إلى 40 في المائة عام 2019، وكذلك ارتفع عدد الغاضبين من 23 في المائة إلى 43 في المائة. إضافة الى ذلك، ارتفعت نسبة الأشخاص الذين يشعرون بالقلق من 40 في المائة إلى 65 في المائة. أما نسبة اللبنانيين الذين يشعرون بالتوتر فقد ارتفعت من 46 في المائة إلى 61 في المائة، وبذلك يكون قد وصل مستوى التوتر والقلق لدى اللبنانيين إلى درجات قياسية عام 2019.
في المقابل، انخفض عدد اللبنانيين الذين يشعرون بالراحة من 66 في المائة إلى 47 في المائة، وكذلك انخفضت نسبة اللبنانيين الذين يشعرون بالاستمتاع من 49 في المائة إلى 31 في المائة، بالإضافة إلى انخفاض الأشخاص الذين يشعرون بالسعادة ويرغبون في الضحك والابتسامة. وقيّم اللبنانيون، الذين عانوا من عدم الاستقرار السياسي وخسارة الليرة اللبنانية أكثر من 80 في المائة من قيمتها أمام الدولار الأميركي، حياتهم بشكل إيجابي بنسبة 4 في المائة، وهي أسوأ التصنيفات في العالم لعام 2019.
 
الاختصاصية في علم النفس العيادي، غيلان البستاني أبو عقل



مرحلة الاستسلام
وفي تفسير لهذه المؤشرات، قالت الاختصاصية في علم النفس العيادي، غيلان البستاني أبو عقل في حديث لـ«المجلة» أن «لبنان يشهد العديد من التغييرات على جميع الأصعدة، وهناك خوف من المجهول، في حين أن الإنسان يحب أن يطمئن تجاه المستقبل». وأضافت أبو عقل أن «كل الضمانات التي كان اللبنانيون يعتمدون عليها قد انهارت، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو حتّى الصحي، حيث نشهد أزمة كورونا، وكل ذلك أدى إلى أن يكون لدينا هشاشة على الصعيد النفسي وغياب للمرونة النفسية للبنانيين، حيث لم نعد نمتلك طاقة للاستثمار بها، وهذا ما يتبيّن من خلال غياب روح المواجهة والتظاهر التي شهدناها في وقت سابق».
وتابعت أبو عقل: «نعيش اليوم في مرحلة شبيهة بمرحلة الاستسلام، وهذا مؤشر خطير لأنه سيحمل تداعيات بدأت بالظهور كزيادة نسبة القلق والكآبة بشكل لافت». ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الأزمات على جيل الشباب بشكل مضاعف، حيث «تغيب علاقاتهم الخارجية مع المحيط بسبب فيروس كورونا وسوء الأوضاع الاقتصادية، ويمكن القول إن 40 في المائة من الشباب اللبناني يُعانون من حالة قلق شديدة واضطرابات بالأكل والكحول والمخدرات»، بحسب أبو عقل.
وترى أبو عقل أن «الخطير في هذه القضية أننا نبني جيلا يُعاني من هشاشة نفسية، وكذلك هشاشة جسدية، إذ إن الضغط المزمن يخلق أعراضا جسدية كالصداع وآلام البطن وغيرهما، فالمراهقون بحاجة لأمل ومخطط لمستقبله، في حين أنهم يشعرون بغياب ذلك». أما عن انعكاس هذه المؤشرات على المجتمع، فتلفت أبو عقل إلى «إننا سنشهد زيادة في نسب الجرائم والعنف وحتّى الانتحار، وذلك لأن العدائية تقوم على غياب التواصل والضغط الناجم عن انعدام القدرة على تأمين المستلزمات الحياتية، مما يؤدي إلى ردود فعل عنيفة».
وما يزيد من الوضع سوءاً هو مشهد تدمير جزء من العاصمة بعد انفجار مرفأ بيروت، إذ إنه «سيبقى في الذاكرة الجماعية للبنانيين». وتُكمل أبو عقل: «انفجار المرفأ جاء في وقت نعاني فيه من أزمات أخرى، مما شكل حالة صدمة جماعية ما زالت تداعياتها تتفاعل لغاية اليوم، فهناك أشخاض ما زالوا يعانون من حالات ما بعد الصدمة، سواء ممن تعرضوا لإصابات جراء الانفجار أم من أشخاص بعيدين عنه وإنما تأثروا به».
 
مديرة برنامج الإيواء الآمن الطارئ في منظمة أبعاد، جيهان إسعيد

 
العنف الأسري يشهد ارتفاعاً خطيراً
هذا الضغط النفسي وصل إلى داخل منازل اللبنانيين، حيث شهدت معدلات العنف المنزلي ارتفاعاً خلال العام الحالي، فقد سجل الخط الساخن المخصّص لتلقي شكاوى العنف الأسري في قوى الأمن الداخلي ارتفاعاً بنسبة 100 في المائة في عدد تبليغ الحالات لشهر مارس (آذار) 2020 مقارنةً مع مارس (آذار) 2019. كما أظهرت أرقام الجمعيات والمنظمات ارتفاعاً بنسب تتراوح بين 55 في المائة و65 في المائة، بحسب ما أشارت مديرة برنامج الإيواء الآمن الطارئ في منظمة أبعاد، جيهان إسعيد.
ولفتت إسعيد في حديث لـ«المجلة» إلى أن «الظروف الاجتماعية والضائقة المادية، إضافة إلى جائحة كورونا ساهمت في ارتفاع هذه النسب ليس فقط في لبنان وإنما على المستوى العالمي». وحول أنواع العنف الأكثر شيوعاً، أشارت إسعيد إلى أنه «خلال فترة الحجر الأولى في لبنان، برز ارتفاع نسبة جرائم القتل ضد النساء والفتيات في لبنان حيث سُجل في شهري أبريل (نيسان) ومايو (أيار) أكثر من 10 جرائم قتل. إضافة إلى ارتفاع نسبة العنف الجنسي، الجسدي والمعنوي، تجاه النساء والفتيات».
وأشارت إسعيد إلى أن «تفاعل الأفراد مع الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية والمالية تختلف من شخص لآخر، إلا أن الأشخاص الذين يعانون من سلوكيات عنيفة، تضعهم الأزمات بمواجهة مباشرة مع قدرتهم على التحمل وكيفية إدارة الأزمة والانفعال، مما يضعهم بدوره تحت ضغط شديد يعبرون عنه بالسلوك العنيف المتزايد». ولفتت إلى أن «هذه الأزمات تُساهم في ظهور أشكال السلوك العنيف لدى البعض، كونهم تحت تأثير الضغوطات النفسية تتراجع قدرتهم على السيطرة في انفعالاتهم».
المديرة التنفيذية بالشراكة لجمعية «فـي- مايــل» حياة مرشاد
 

 

العنف يصل إلى «ما وراء الشاشة»
كما أن تزايد العنف الأسري في لبنان لم يكن المؤشر الوحيد على سوء الأوضاع الاجتماعية في البلاد بسبب الأزمات المتتالية. وفي هذا الإطار، أشارت المديرة التنفيذية بالشراكة لجمعية «فـي- مايــل»، حياة مرشاد، إلى أن «كل أشكال العنف التي كانت تُمارس في الحياة اليومية انتقلت لتُمارس على المجال الافتراضي، لذلك أطلقت الجمعية في وقت سابق حملة (الشاشة ما بتحمي) حيث سجل لبنان ارتفاعا كبيرا في أعداد التبليغات عن العنف الإلكتروني، فقد ارتفعت معدلاته بنسبة 184 في المائة خلال الأشهر الأولى من الحجر المنزلي، كما تبيّن أن أكثر من 90 في المائة من هذه التبليغات تعود لنساء وفتيات، وأكثر من 40 في المائة منها تعود لفتيات تتراوح أعمارهن بين 12 عاماً و22 عاماً».
وأضافت مرشاد أن «هذه الظاهرة موجودة في المجتمع، إلا أن تراكم الأزمات أدى إلى إظهارها بشكل أكبر، فوفقاً لجميع الإحصاءات والدراسات والتجارب يتبيّن أنه في فترات الأزمات والأوبئة والنزاعات تزداد نسب العنف، إذ إن هناك أشخاصا يكون لديهم قابلية للعنف لا يمارسونها عادةً، في حين أن وجود هذه الضغوطات يجعل ملاذهن الوحيد هو ممارسة هذا العنف». وتابعت مرشاد: «هناك بعض حالات العنف التي تصلنا، توضح فيها النساء المُعنفات أنهن قبل أزمة كورونا لم يكن يتعرضن للضرب، إلا أن هذا الوضع تغيّر بعد انتشار الوباء في البلاد».
وفي هذا الصدد، توصلت الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية إلى أنّ الوجود الدائم للنساء المُعنّفات في المنازل مع أفراد الأُسرة، يُعرّضهن أكثر لخطر العنف الأُسري. كما لفتت الهيئة إلى أنّ الضغوط النفسية التي يُسبّبها الحجر المنزلي، إلى جانب الضغوط الاقتصادية الراهنة، ساهمت في ازدياد الممارسات المسيئة والمؤذية جسديّاً ومعنويّاً ونفسيّاً واقتصاديّاً وجنسيّاً التي يلحقها المعنِّف بالنساء والفتيات.
وأشارت مرشاد إلى أن «عدم القدرة على التواصل مع العالم الخارجي بسبب الحجر المنزلي منع الكثير من النساء من طلب الحماية، لذلك أصدر مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات قرار طلب من القضاة والمخافر الاستماع للنساء المعنفات عبر تقنية الفيديو». كما ترى مرشاد أن «المثال الأكثر تعبيراً عن انعكاس سوء الأوضاع الاقتصادية على الوضع الاجتماعي في لبنان، هو ارتفاع نسب الزواج المبكر، إذ تُشير التقديرات إلى أن هذه النسب ارتفعت هذا العام إلى 13 في المائة، مقارنةً بـ6 في المائة إلى 7 في المائة سابقاً، وذلك يعود في جزء كبير منه إلى عدم قدرتهم على تأمين متطلبات الحياة».
وتختم مرشاد بأن «الحل يكون من خلال لعب الأجهزة الأمنية دورا متشددا أكثر، كما أن هناك مسؤولية على المواطنين من خلال الإبلاغ عن العنف ورفع الصوت، والأهم هو دور الدولة بوضع وتفعيل قوانين تضمن الحماية الاجتماعية».
 
الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين
 

 
مؤشرات اجتماعية خطيرة
والخطير في هذه المؤشرات السلبية هو انعكاسها على معدلات الجرائم والانتحار والهجرة، فوفقاً للدولية للمعلومات سجلت حوادث السرقة ارتفاعاً خلال الأشهر الـ10 الأولى من العام الحالي مقارنة بالفترة ذاتها من العام 2019 بنسبة بلغت 56.3 في المائة، كما ارتفع عدد القتلى بنسبة 103.3 في المائة، أما حوادث الانتحار فقد تراجعت بنسبة 13.1 في المائة. وفي هذا الصدد، قال الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين لـ«المجلة» إن «الأزمة السياسية والاقتصادية، التي قد تترافق مع توترات أمنية أدت وستؤدي إلى ارتفاع غير مسبوق في نسب جرائم القتل والسرقة والهجرة. فغياب فرص العمل وإغلاق المؤسسات لأبوابها يجعل من الهجرة الباب الوحيد للشباب اللبناني».
ومن المرجح أن تتفاقم الأزمات التي يُعاني منها الشعب اللبناني، خصوصاً في ظل توجه السلطات اللبنانية نحو رفع الدعم عن المواد الأساسية، مما سيزيد من أعداد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر، ومع انعكاسات ذلك على الحالة النفسية للمواطنين. لذا فإن المجتمع اللبناني بات بحاجة ماسة إلى تدخل الدولة بشكل سريع لمساعدته على مواجهة كل هذه الظروف المحيطة به. وعلى الرغم من أن هذا التدخل يقع ضمن المسؤوليات البديهية للدولة، إلا أن التعويل على تحركها أقرب إلى أن يكون بالخيال. لذا، يبدو أن الشعب اللبناني سيكون بمواجهة مخاطر اجتماعية خطيرة في المرحلة المقبلة.
font change