صدمة «موت الإنسان».. تكشف تشوه الوعي في ربيع العرب

صدمة «موت الإنسان».. تكشف تشوه الوعي في ربيع العرب

[caption id="attachment_55245916" align="aligncenter" width="620"] موقعة "الجمل" اشهر معارك التحرير [/caption]

حينما يتصدر لائكو الأكباد وقاضمو القلوب شاشات الأخبار، تحت أي اسم كان، فإن ذلك لا يؤشر على نمو الظاهرة الإرهابية «المفزعة» وتهدد الأمن الإقليمي فحسب، ولكنه أيضا يؤكد أن الإنسانية في ذاتها باتت مهددة، وأن الحديث هنا يتجاوز خطر الآيديولوجيا، وينخر في عظم معنى «الإنسانية» وتفسخ الأخلاق و«منابعها»، ويفجر قضايا حقيقية أهمها هشاشة «الوعي بقيمة الإنسان» لا من قبل الحكومات كما كان يشيع المواطنون العرب، فتلذذ مواطن بشرب كوب من دم «مواطن آخر»، وتمثيل إنسان «عاقل» بجثة «أخ» له في الوطن أو العرق أو الدين، ومسارعة الأطراف لإعداد الصبية والأطفال لحمل السلاح وممارسة «نحر الرؤوس» وسط هالة من الشعارات المقدسة، وممارسات الإعدام المجانية لصبية في عمر الزهور في جانب آخر من الصراع، فإن هذا يهز الجرس بصوت مفزع، أن وعيا مشوها ومأزوما وخربا يرقد تحت قشرة التسامح «الوهمية» التي يتوهمها حراس الثقافة، وهذا يستلزم من كل من يظن أنه رمز أن يتدخل عاجلا لاستكشاف «هذا الوحش الذي يغذيه وهم البطولة»!
الحرب، في ذاتها، والقتال في ذاته، ظلا حاضرين في الوعي الإنساني، وظل «العنف» مبررا – على مضض - في إطار التدافع، كما أن الاحتفاء بذاكرة الحرب والانتصارات، والفخر بالرجال الأبطال الذين يبزون أقرانهم، كثير وفير في كل الثقافات، ولكنه ارتبط دائما بضوابط عرف «أخلاقي» لازم، سواء عند المقاتلين باسم «الجهاد - الدولة - القبيلة» الذين يوصون بأن «لا يقطعوا شجرة ولا يقتلوا بهيمة ولا يقتلوا شيخا ولا امرأة ولا طفلا»، أو حتى في عرف «الشطار» أو قطاع الطرق وصعاليك العرب القدماء «كالشنفرى وعروة بن الورد والسليك»، عرف أدنى معانيه أن الاستعراض لا يكون على الضعفاء والمساكين العزل، فالفخر بالفارس الذي لا يأكل ضعيفا ولا يسلب مسكينا ولا يقاتل إلا ندا. وتتوشح هذه المعاني بخيط من الأخلاق والقيم، وحد من هالة سماها العرب قديما «رجولة» و«مروءة»، ويمكن توصيفها أنه الحد بين الوحشية المريضة، ومعارك الرجال «الرجال».


[blockquote]
طبيعي أن تجيش الجيوش لهدف وغاية ولرعاية مصالح الدول، ولكن أن يجيش المواطنون بعضهم ضد بعض فهذا «محزن»، وأن تخترق الحرب الأهلية كل الأستار فهذا «مؤلم»، وأن لا يصير للإخوة وجاء يقيها ولا للمواطنة حرمة، ويصير الانتقام والقتل هدفا لذاته، فإنها سبة إنسانية نادرة، أما تحول الأفراد إلى آلات قتل «وحشية منزوعة الرحمة» كما نقرأ في الانتشاء والابتهاج، وشعارات الانتصار التي يبثها الإعلام نقلا عن الأرض العربية، في سوريا والعراق وليبيا، فهذه أمارة على مرض في الثقافة.
[/blockquote]


فالطبيعي أن يدرك من هو في أتون المعارك أنه مجبر على فعل ما يفعل على سبيل الجبر وبمنطق دفاع عن المصالح والنفس، لذلك فإن التاريخ الإنساني على اتساعه وفي أعتى الحروب ظلت فيه لمحات الإنسانية بارزة وكأن في طيها رسالة تقول: الحرب ضرورة بغيضة لا تنفي «قدسية الإنسان»، فالإنسانية تعود بأقل مجهود يفرغ شحنة التعبئة، فأي وردة أو ابتسامة أو لحظة صفاء كانت كفيلة بأن تعيد – حتى للمقاتلين - وعيهم وإنسانيتهم، ويقدم (إيبل – إيبسفلدت| Ibill Eibesfeldt) وصفا لجندي ألماني في الحرب العالمية الأولى، مهمته اختطاف جنود العدو وراء الخنادق لاستجوابهم، ويروي أنه يوما نجح في تخطي خطوط العدو ومفاجأة جندي من جيش العدو غفل عن سلاحه، ساعة تناوله للطعام، فصار أسيرا خائفا لا يملك بين يديه سوى رغيف الخبز الذي يأكله، فقام الجندي الأسير – فجأة - بأهم عمل في حياته، فأعطى عدوه بعض الخبز الذي بيده، فتأثر الألماني جدا بهذه الهدية، واستدار عن مقدم الهدية وعاد أدراجه عبر المنطقة المحرمة ليواجه غضب رؤسائه. هذه وغيرها قصص كثيرة، منتهاها أن لحظة في وسط الحرب تستيقظ فيها الإنسانية، وهو ما يحصل نقيضه في حروب الانتقام من الذات! (رورت سالديني، التأثير - علم نفس الإقناع، ص 45)، وقريب من هذا أن الصعاليك العرب القدماء، وقطاع الطرق، من الفرسان كانوا لا يسلبون من ترجاهم، وهذا ليس مدحا لهم ولكنه تنبيه على استيقاظ الإنسانية»!

بقراءة «وحشية الصراع» في دول الحروب الأهلية المحزنة، يمكننا الزعم بكل أسى أن في كل المجتمعات العربية، التي يتبارى مواطنوها المختلفون دما ولونا وعرقا ودينا وثقافة في التباهي بقشرة السماحة والتعايش، يكمن «وحش» نائم، ونومته هذه ليست بإرادته، ولكنها بوازع الخوف من الحاكم، ومتى ما انفلت النظام، تحول الشعب المتسامح إلى حالة من هستيريا العنف، غير المبررة، فيقتل بعضهم بعضا.
هذا التنظير المفتوح لا يتطلب من القارئ أكثر من فتح أقرب قناة عربية ومشاهدة نشرة أخبار واحدة، تحمل «التمادي» في الوحشية، وعليه فقط أن يفكر كيف كان شعبها قبل عامين ونصف، حينها يمكنه أن يقول معنا وبالصوت العالي: ما لم يجلس علماء الاجتماع والنفس والدين والسياسة، لدراسة «محفزات العنف» هذه، ويشخصوا «أصول هذا الوحش الكامن»، فستظل كل دولة مهددة في لحظة ما أن يتحول أبناؤها لأبسط اختلاف إلى آلات قتل بشعة ومؤلمة، تزدهي بأكل الأكباد وقضم القلوب.
وفي النهاية، فإن المقام مقام الشعراء الصعاليك، فليس من ضير في أن نختم على لسان نجيب سرور، ونقتطف ما يمكن نشره من قصيدته: «قولوا لدولسين الجميلة.. هو لم يمت بطلا ولكن مات كالفرسان بحثا عن بطولة. لم يلقَ في طول الطريق سوى اللصوص.. حتى الذين ينددون كما الضمائر باللصوص.. فرسان هذا العصر هم بعض اللصوص»، إلى أن يقول: «إنا لتعجزنا الحياة.. فنلومها.. لا عجزنا.. ونروح نندب حظنا.. ونقول: هذا العصر لم يخلق لنا.. هو عصرنا! لكننا لسنا به الفرسان.. نحن قطيع عميان يفتش في الفراغ عن البطولة.. والأرض بالأبطال ملأى حولنا.. ملأى.. ولكن باللصوص!».

font change