الإنسانية في السياسة الخارجية الأميركية

الإنسانية في السياسة الخارجية الأميركية

* هل يجوز أن تكون السياسة الخارجية للدول الكبرى محكومة بانفعالات عاطفية؟

 * إذا كان في السياسة الأميركية شيء من الأخلاقية فهو انتقائي

 

قبل نحو خمسة أسابيع من مغادرته الحكم أطلق الرئيس الأميركي جورج بوش في 15/ 12/ 1992 مبدأ جديدا للتدخل الأميركي في الخارج، يرتكز على الاعتبار الأخلاقي. ففي خطاب ألقاه في إحدى جامعات ولاية تكساس، في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يعتزم إنشاء مكتبة باسمه، نادى بقوة، كما لم يفعل سابقا، بأنه يجب أن يكون للمسائل الأخلاقية والضميرية اعتبار مركزي في السياسة الخارجية الأميركية.

 جاء ذلك في سياق حديثه عن الوحدات العسكرية الأميركية التي توجهت إلى الصومال في مهمة إنسانية. وعلل الخطوة بالقول إن قيادة الولايات المتحدة دوليا، وقوتها، لا بل وضميرها، كلها تبقى من ضرورات أي نظام دولي  يعمه السلام والازدهار، كما أن مثل هذا النظام، في المقابل، هو من الضرورات الحيوية للولايات المتحدة. وحض على الاستخدام الرشيد لقيادة أميركا وقدرتها وقوتها المعنوية. وقال إن قيادة أميركا كان لا غنى عنها في إشاعة الديمقراطية والانفتاح الاقتصادي في العالم.

وأكد الرئيس بوش في خطابه أن العزوف على الاستجابة لداعي الكوارث الإنسانية الجماعية، كما في الصومال، سيكون من شأنه طعن روح الأمة معنويا. وفي معرض تحديد قواعد واضحة لإرسال قوات أميركية إلى الخارج بمهمات إنسانية، قال: «ليس للسياسة الخارجية قواعد فريدة أو بسيطة. علينا تقديم المساعدة. ولكن علينا أن لا نستخدم القوة العسكرية إلا في الحالات التي تسوغ هذا الاستخدام حيث يكون هذا الاستخدام فعالا، وحيث يكون للعملية نطاق وأجل محددان. وإذ نسعى لإنقاذ أرواح علينا أن نكون حريصين على الأرواح التي نجازف بها، أما الانكفاء عن تحمل مسئوولية القيادة والتدخل من جانب الولايات المتحدة فيشكل خطأ يمكن أن يدفع ثمنه غاليا أولادنا والأجيال المقبلة».

هذا الموقف المتميز للرئيس بوش على عتبة خروجه من سدة الرئاسة استثار فيضا من السجال في الصحافة الأميركية بين مؤيد ومتحفظ.

 قال المعلق والتر ايزاكسون في مجلة «تايم»(21/12/1992): إن ما يجعل التدخل الأميركي في الصومال مبعث إلهام وعرضة للزلل في آن هو أنه أول عملية عسكرية تتم منذ الحملات الصليبيه (كذا) بدوافع محض أخلاقية وإذا كان لنا أن نستحضرأقرب المواقف الحديثة المماثلة، فقد نجدها في تجربة الرئيس الأميركي ودرو ويلسون، فقد سعى إلى أن يضفي على السياسة الخارجية الأميركية رداء من المثالية. فبرر هجمات القوات الأميركية البرمائية على دول أميركا اللاتينية بأنها كانت لتعزيز «الحرية الدستورية». كما برر زج الولايات المتحدة الأميركية في الحرب العالمية الأولى بأن «لا بد من جعل العالم أمنا للديمقراطية». هذا مع العلم أن تدخلات ويلسون لم تكن في حقيقة الأمر محض مثالية، وإنما كانت أيضا مرتبطة بتطلعات واقعية تمت بصلة إلى المصالح الأميركية الاقتصادية والاستراتيجية.

 ويصح هذا القول إلى حد ما، حسب التعليق على الحرب الباردة التي كانت في واقع الأمر مجابهة مبدئية وصراعا قويا في آن معا. وبمزيج من هذه الدوافع كان تبرير سلسلة من التدخلات العسكرية ابتداء من كوريا مرورا بفيتنام وانتهاء بجرانادا وباناما والكويت.

 لقد دخلت القوات الأميركية باناما لوضع حد للاتجار بالمخدرات وخاضت حرب الخليج، كما يقول المعلق لحماية انسياب النفط. وفي كلتا الحالتين فإن المصلحة الأميركية الحيوية كانت هي الحافز. ولكن الرئيس بوش في كلتا الحالتين أكد أيضا على الدوافع المبدئية للعملية. ويلاحظ المعلق أن الديمقراطيات، في عصر المواصلات السريعة ووسائل الإعلام الواسعة الانتشار تواجه إشكالا: فهي بحكم كونها ديمقراطيات تفترض تجاوب السلطة مع المشاعر، العامة ولكن هذه المشاعر بفعل صورة طفل يحتضر جوعا في الصومال أو عجوز يقتل في البوسنة، قد تأتي تعبيرا عن انفعالات عاطفية؟ ثم إن هناك سؤالا يبقى عالقا: هل يكتفي العالم بنجدة الصومال ويغفل شأن السودان مثلا لمجرد أن صورة العملية في الصومال تبدو أكثر بهاء منها في السودان؟

 

تصحيح الخلل

يخلص المعلق إلى القول إن أميركا لا تستطيع منفردة تصحيح كل خلل في العالم. ولكن هذا لا يعني أن أميركا يجب أن تنكفئ عن إنجاز ما تستطيع إنجازه. القاعدة هي أن تعمل الولايات المتحدة ما تستطيع عمله. وإذ تقدم على عملية عسكرية احتسابا، بلا غرض ذاتي، تستطيع أن تثبت مرة أخرى أن المثالية والواقعية يمكن أن تسيرا جنبا إلى جنب.

 وتقول المعلقة الصحافية فلورا لويس (إنترناشيونال هيرالد تربيون 11 /12/ 1992) إن عملية التدخل في الصومال تختلف عن كل ما عداها من عمليات النجدة التي كانت تنفذ. فليس هناك فريق يراد دعمه، وليس هناك دولة تستنجد بعد ما انهارت السلطة المركزية في البلاد، وليس هناك سوى العصابات وضحاياها، ولا مصلحة للقوة المتدخلة فى البقاء فى الصومال. كانت منظمة «أطباء بلا حدود»تتحدث عن الحاجة إلى «دبلوماسية خيرية»لإيصال النجدة إلى مناطق العوز في العالم حيث تحول الأوضاع السياسية المحلية دون وصولها. وأبرز تلك المناطق، الصومال وجنوب السودان وجنوب أثيوبيا والمناطق المجاورة في كينيا وأوجاندا. فإذا بالأمر يتطور، وتصبح الحاجة في الصومال إلى «قوة خيرية».

 قد يقود منطق الأحداث في تلك المناطق إلى العودة إلى التفكير في ضرورة إحياء نظام الوصاية من قبل الأمم المتحدة على البلدان العاجزة عن إقامة سلطة ترعى مصالح الناس وتشرف على بناء فعاليات الدولة ومؤسساتها. فالحاجة ماسة في تلك المناطق إلى مساعدات طارئة ثم إلى بناء المؤسسات. ولكن ظروف العالم قد لا تسمح بعودة العمل بنظام الوصاية حتى ولو كانت الوصاية معقودة اللواء للأمم المتحدة، والمهمة لن تكون هينة حتى على الأمم المتحدة.

 مع ذلك، كما يقول المعلق الصحافي جيم هوجلاند (إنترناشيونال هيرالد تربيون 17/ 12/ 1992) فإن الحديث غدا ناشطا في أوساط المجتمع الدولي حول الحاجة إلى نظام وصاية تديره الأمم المتحدة. كان مثل هذا الحديث محرما قبل بضعة أشهر بسبب حساسيات دول العالم الثالث. ولكن الفكرة عادت إلى سطح الأحداث مع امتداد عمليات الإنقاذ العسكرية التي تنظمها أو ترعاها أو تباركها الأمم المتحدة.

 أما صحيفة «نيويورك تايمز»فتقول في افتتاحية لها (نشرت في إنترناشيونال هيرالد تربيون 18/ 12/ 1992) إن استطلاعا للرأي أجرته الصحيفة بالاشتراك مع شبكة «سي بي إس». أظهر أن أكثر الناس راضون عن بقاء الجنود الأميركيين في الصومال لمدة ثلاثة أشهر أو ستة أو حتى أكثر. هذه المشاعر تعبر عن حقيقة ما يجول في أفئدة الأميركيين ورؤوسهم. ولكن كيف يكون الموقف لو نشبت أزمات وكانت الحاجات الإنسانية فيها على ذات المستوى من الإلحاح وإنما المخاطر العسكرية أكبر. كيف تختلف الصومال عن البوسنة مثلا، حيث العدوان الصربي يطلق عصابات مسلحة للإجهاز على مواطنين عزل.

 

مصالح حيوية

لا مشاحة في الحالات التي تملي فيها مصلحة الولايات المتحدة الاستراتيجية التدخل. أما المواقف الأكثر حرجا فهي تلك التي تتعلق ببلدان لا تقترن بمصالح حيوية معينة للولايات المتحدة الأميركية وهذه حال كثير من أقطار آسيا الجنوبية والوسطى وأكثر أقطار أفريقيا وهنا يبدو أن معايير الرئيس بوش الملتبسة لا تقدم أو تؤخر كثيرا، فهل تسوغ المعطيات تدخلا عسكريا أميركيا في حال السودان أو ليبيريا مثلا؟ ففي مثل هذه الحالات يتجلى الموجب الإنساني واضحا إذا كان التدخل ممكنا عمليا وإذا كان من شأنه إنقاذ أرواح ولكن مواصلة الولايات المتحدة تكرارا السير على الخط الذي سلكته في الصومال سيكون من جرائها حسب رأي الصحيفة إرهاق موارد الولايات المتحدة واستنزاف الدعم الشعبي الداخلي فضلا عن أن ذلك قد تعبق منه رائحة الغطرسة الإمبريالية.

إلى ذلك فإن إيحاء الرئيس بوش بأن أميركا وحدها هي التي تستطيع التحرك ليس صحيحا حتى ولو كان الأمر كذلك فإن الغلو في التأكيد على واجبات أميركا يمكن أن يثقل كاهل الأميركان ويخفف عن كاهل مراجع متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة فعندما تكون المهمة إنسانية فإن الأمم المتحدة هي التي تعكس صورة الإنسانية أكثر من سواها. أما والحال كذلك أفلا يبدو طبيعيا أن تؤدي الولايات المتحدة واجباتها الإنسانية من خلال الأمم المتحدة وليس نيابة عنها؟

وفي الختام تعمد الصحيفة إلى تلطيف تحفظها بالقول في أي حال تبقى القيادة الأميركية ضرورية كما يبقى ضروريا أن تقدم الولايات المتحدة النصيب الأكبر من أي جهد إنساني.

أما المعلق روبرت بارو (وول ستريت جورنال 18/ 12/ 1992) فيبدي تحفظا واضحا في القول: إن قرار الرئيس بوش بإرسال قوات أميركية إلى الصومال هو مؤشر على أن أسوأ أخطائه السياسية لم تعد قاصرة على الميدان الداخلي فحتى الآن كان الناس يأخذون بالمبدأ القائل بأن التدخل العسكري له ما يبرره في حالات الزود عن المصالح القومية، وقد يختلف الناس في الحكم على مبررات التورط في فيتنام أو جرانادا أو باناما أو الخليج من هذا المنظور لكن أحدا لا يستطيع أن يبرر الحملة إلى الصومال بمنطق الأمن القومي.

إن العلاج المطلوب للصومال ولكثير من الدول الفقيرة الأخرى ليس مجرد مبادرة خير ورحمة، وإنما هو إقامة سلطة مركزية تضمن الاستقرار السياسي وسلامة الممتلكات ولكن ليس هناك ما يبعث على الاطمئنان إلى أن أية قوة خارجية تستطيع أن تفرض حكومة محلية فعالة ولا قبل للولايات المتحدة بأن تقوم بهذا الدور، انظر إلى فشلها في ضمان الأمن ومنطلقات النمو الاقتصادي في كثير من مدنها.

 

قرار سيئ

وينتهي التعليق إلى القول: مع أن عملية التدخل في الصومال كانت وليدة قرار سيئ اتخذته الولايات المتحدة إلا أن هذه العملية تشكل مبادرة سياسية رائعة لجورج بوش، فسوف يكتسب بنتيجتها الفضل في القيام بمبادرة إنسانية نبيلة. أما نحن فنقول: إذا كان في السياسة الخارجية الأميركية شيء من المبدأية أو الأخلاقية أو الإنسانية فهي في ذلك انتقائية فبعد عملية الصومال أقدمت إسرائيل على إبعاد 417 فلسطينيا من الأرض المحتلة في فلسطين إلى الأرض العازلة في جنوب لبنان وتركتهم في العراء يواجهون الصقيع والمطر والجوع، مع أن الولايات المتحدة شجبت هذا العمل وأيدت قرار مجلس الأمن الذي ندد بهذا العمل ودعا إسرائيل إلى إعادتهم إلى ديارهم إلا أنها لم تقم بخطوة إيجابية لإكراه إسرائيل على الاستجابة. وقبل قضية المبعدين كانت للعرب قضايا كثيرة وقفت فيها الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل على حساب الحق العربي. ماذا فعلت الولايات المتحدة عمليا لتحمل القوات الإسرائيلية على الانسحاب من جنوب لبنان تطبيقا لقرار مجلس الأمن 425؟ ماذا فعلت لتمنع إسرائيل من شن حربها المدمرة على لبنان في عام 1982. ثم لإيقافها عن متابعة الحرب وقد نفذت عدوانها بالأـسلحة الأميركية المتطورة، وقبل ذلك وبعده ماذا فعلت الولايات المتحدة وهي الدولة العظمى بلا منازع وصاحبة الحول والطول في الأمم المتحدة لإنصاف شعب فلسطين الذي سلبت إسرائيل أرضه وشردته عنها، وغير ذلك من مثل هذه المواقف كثير.

وفي الختام، حتى كلام الرئيس بوش في تبرير عملية الصومال ينم عن أن دوافع الخطوة لم تكن كلها احتسابا وذلك حيث يقول: «إن انكفاء أميركا عن مسؤولية القيادة والتدخل يشكل خطأ يمكن أن يدفع ثمنه غاليا أولادنا والأجيال المقبلة»، أو ليس في هذا التبرير مصلحة بينة؟

font change