المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا يغضب الجزائريين

مقترحاته «لمعالجة الذاكرة» صادمة ومخيّبة للآمال

المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا قدم تقريره للرئيس الفرنسي ماكرون

المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا يغضب الجزائريين

* يطالب ستورا في تقريره بضمان مساحة أوسع لتاريخ فرنسا في المناهج الدراسية الجزائرية، وهذا الأمر لا يختلف عن احتلال جديد، أو رجوع بعد هزيمة

* الضرب على وتر الشباب ودعم أعمالهم هو محاولة لكسب تأييد هذه الفئة التي أصبحت أكثر وعيا في الجزائر

* تقرير ستورا مراوغة لكسب الجزائر بنتيجة أكبر بمنطق الرياضيين

* مطلب الجزائر في تقريرها يمكن أن يكون في بند واحد فقط هو استرجاع الأرشيف كاملا غير منقوص، وهيهات أن تقبل فرنسا بذلك

* لم تخصص أي جريدة لحد الآن ملفاً محترماً حول التقرير، ولم يكلّف أي من المؤرخين الرسميين عناء ترجمة التقرير إلى العربية، (160 صفحة) ولا أي جريدة مٌعربة فعلت ذلك

 

 

الجزائر: مثلما كان متوقعاً، أثار تقرير المؤرخ الفرنسي الشهير بنجامين ستورا جدلاً واسعاً في الجزائر، وبينما كان الجزائريون ينتظرون تقديمه لتصور يعيد الاعتبار لهم، ويقدم حلولاً نهائية ومنصفة لمعضلة الذاكرة الجزائرية الفرنسية المرتبطة بالماضي الاستعماري، باعتذار فرنسا عن جرائمها، إلا أن التقرير كان صادماً ومخيباً للآمال، وهو برأي الجزائريين لم يقدم أي جديد، غير أنه ساوى بين الضحية والجلاد، من خلال المقترحات التي قدمها كحلول لترميم العلاقة بين البلدين.

فرغم مساعي التقارب المبذولة في مناسبات عدة، لا تزال قضية الذاكرة تسمّم العلاقات بين باريس والجزائر، وترهن في كل مرة محاولات فتح صفحات جديدة، وطي صفحة الماضي الأليم، ويُجمِع متابعون للمشهد السياسي في الجزائر على أن ملف الأرشيف يمثل أحد أكبر مخاوف باريس، فهي ترفض الخوض فيه لأنه سيفصح عن حقائق خطيرة، في وقت تربط فيه السلطة الجديدة في الجزائر إقامة علاقات عادية مع فرنسا بتسوية مسألة الذاكرة، وهو ما ورد في تصريحات إعلامية سابقة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قال فيها مراراً إن «ضمان علاقات طبيعية واستعادة فرنسا لمكانتها الاقتصادية في الجزائر مربوط بمدى جاهزيتها لمعالجة ملفات الذاكرة». حتى إنه قال إن «الجزائر ليست محمية لفرنسا ولا غير فرنسا»، وأردف قائلاً إن «الجزائر ستتعامل الند بالند مع فرنسا وغيرها من الدول، من يحترمنا سنحترمه ومن لا يحترمنا لن نحترمه».

 

احتفالات واسعة بالجزائر خلال استرجاع رفات مقاوميها من فرنسا العام الماضي

حد للهيمنة الفرنسية إلى حين معالجة «ذاكرة الحرب»

ومنذ وصول الرئيس الجديد إلى الحكم بعد انتخابات 12 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، برزت مُؤشرات توحي بتغيير طريقة التعامل مع المستعمر القديم فرنسا، ووضع حد للهيمنة الفرنسية على الاقتصاد الجزائري واسترجاع المزايا التي منحت لها طوال العقدين الماضيين من الزمن.

وفي مبادرة جديدة لإحداث التقارب، جرى في يونيو (حزيران) الماضي، اتفاق بين الرئيسين تبون وماكرون على تكليف شخصيتين بمتابعة ملف الذاكرة، وعن الجانب الجزائري تم تكليف مدير الأرشيف عبد المجيد شيخي، وعن الجانب الفرنسي المؤرخ بنجامين ستورا، لكن مستشار الرئيس الجزائري عبد المجيد شيخي، صرح في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في ندوة بمقر الإذاعة الجزائرية، بأن «ملف استرجاع الأرشيف والذاكرة الوطنية ما زال يراوح مكانه بسبب سوء نية الطرف الفرنسي»، مشيراً إلى أنه «لم يجد التعاون اللازم من الطرف الفرنسي، بعد أزيد من ستة أشهر من تكليفه، من قبل الرئيس تبون، ممثلا عن الجانب الجزائري في العمل الجاري مع الدولة الفرنسية حول الملفات المتعلقة بالذاكرة الوطنية، واسترجاع الأرشيف الوطني».

وبعد أشهر من الانتظار، سلّم المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تقريره المنتظر، ويعد ستورا أحد أبرز الخبراء المتخصصين في تاريخ الجزائر الحديث. ويُدرّس تاريخ المغرب العربي وحروب إنهاء الاستعمار والهجرة المغاربية في أوروبا في جامعة باريس 13 وفي معهد اللغات الشرقية. ومن أشهر مؤلفاته: «الغرغرينا والنسيان»، «ذاكرة حرب الجزائر»، و «المجنّدون في حرب الجزائر»، و«الجزائر... الحرب الخفية».

وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو أول رئيس فرنسي ولد بعد هذه الحرب، أبدى في مناسبات عدة عزمه على حلحلة هذا الملف الشديد التعقيد، ومحاولة تهدئة العلاقات المتقلبة منذ عقود بين البلدين، والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتاريخ، منذ غزو الجزائر واحتلالها عام 1830 إلى حرب الاستقلال. ومع اقتراب الذكرى الستين لنهاية الحرب (1962-2022)، كلّف ماكرون المؤرخ الفرنسي بهذا التقرير كجزء من مبادراته لمحاولة «إنهاء العمل التاريخي حول حرب الجزائر»، وكتب ماكرون في رسالة تكليف ستورا: «من المهم أن يُعرف تاريخ حرب الجزائر وينظر إليه بعقل متبصّر. فالأمر ضروري لراحة وصفاء نفس من أضرت بهم»، ورأى أن الأمر يتعلق أيضا «بمنح شبابنا إمكانية الخروج من النزاعات المتعلقة بالذاكرة »، ومن الجانب الجزائري، أعرب الرئيس تبون في مقابلة مع صحيفة «لوبينيون» الفرنسية، عن أمله في أن يعمل شيخي وستورا «في جوّ من الحقيقة والصفاء والهدوء لحلّ هذه المشاكل التي تسمّم علاقاتنا السياسية ومناخ الأعمال وحسن التفاهم».

ماكرون: فرنسا لن تقدم اعتذاراً للجزائر

مقترحات ستورا

وتنتظر الجزائر من باريس أن تقدم لها كلّ أرشيف الفترة الاستعمارية (1830-1962) المتعلق بها، وفق عبد المجيد شيخي، أحد المشاركين في حرب الاستقلال، وقال شيخي: «تطالب الجزائر بكلّ أرشيفها الموجود في قسم كبير منه في فرنسا»، مشيرا إلى أن فرنسا «لطالما قدّمت ذرائع»  لعدم تسليمه، «مثل عدم رفع السرية عن جزء من الأرشيف رغم أنه جُمع قبل عقود». وسبق أن أعادت فرنسا إلى الجزائر جزءًا من الأرشيف، لكنها احتفظت بالجزء المتعلق بالتاريخ الاستعماري والذي يقع، وفقًا لها، تحت سيادة الدولة الفرنسية.

التقرير الذي سلمه ستورا لماكرون تضمن 22 مقترحاً، أبرزها: تواصل الاحتفالات التذكارية، مثل يوم 19 مارس (آذار) 1962، الذي طلبته عدة جمعيات للمحاربين القدامى حول اتفاقات إيفيان، وهي الخطوة الأولى نحو نهاية الحرب، حيث يمكن تنظيم مبادرات تذكارية مهمة أخرى حول مشاركة الأوروبيين من الجزائر في الحرب العالمية الثانية، ويشمل ذلك اقتراح يوم 25 سبتمبر (أيلول) يوماً لتكريم الحركى  (الجزائريين الذين حاربوا مع فرنسا ضد بلادهم) وغيرهم من أعضاء التشكيلات المساعدة في الحرب، و17 أكتوبر (تشرين الأول) 1961 بشأن قمع العمال الجزائريين في فرنسا، مع اقتراح دعوة ممثلي مجموعات الذاكرة المعنية بهذه القصة إلى كل هذه الاحتفالات، وتنظيم عملية جمع أقوال الشهود الذين تضرروا بشدة من هذه الحرب لإثبات المزيد من الحقائق وتحقيق مصالحة الذكريات.

التقرير اقترح صنع تمثال للأمير عبد القادر، الذي قاتل ضد غزو الجزائر في منتصف القرن التاسع عشر، في أمبواز (إندري-إي-لوار)، حيث عاش في المنفى بين عامي 1848 و1852، إذ يمكن وضع النصب التذكاري بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال الجزائر في عام 2022. مع اعتراف فرنسا باغتيال المحامي علي بومنجل، صديق رينيه كابيتانت والزعيم السياسي للقومية الجزائرية، الذي قُتل خلال معركة الجزائر عام 1957.

وبخصوص ملف المفقودين اقترح أن يجري العمل على إصدار دليل المفقودين (جزائريين وأوروبيين)، على أساس بحث مجموعة العمل التي تم تشكيلها عقب إعلان الصداقة الموقع خلال زيارة الرئيس السابق، فرنسوا هولاند للجزائر عام 2012، حيث يتعين على المجموعة مواصلة عملها للسماح بتحديد موقع قبور الجزائريين والفرنسيين المختفين من حرب الاستقلال.

وبشأن التجارب النووية التي جرت في الصحراء الجزائرية اقترح ستورا مواصلة العمل المشترك الخاص بمواقع التجارب النووية الفرنسية في الجزائر بين عامي 1960 و1966 ونتائجها وزرع الألغام على الحدود. وعن الرفات اقترح مواصلة نشاط اللجنة المشتركة للخبراء العلميين الجزائريين والفرنسيين المكلفة بدراسة الرفات البشرية لمقاتلين جزائريين من القرن التاسع عشر محفوظة في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي.

كما اقترح ستورا التفاوض مع الجزائر حول تنقل الحركى (الجزائريين الذين حاربوا مع فرنسا ضد بلادهم) وعائلاتهم بين البلدين، كما اقترح تشكيل لجنة من مؤرخين حول عمليات اغتيال فرنسيين بعد الاستقلال، مع ترميم على مقابر الأوروبيين واليهود بالجزائر.

وبخصوص الأرشيف اقترح جرد المحفوظات والأرشيف الذي أخذته فرنسا أو تركته في الجزائر وستستعيد الجزائر بعض المحفوظات (الأصلية)، على أن تمنح فرنسا كل عام تأشيرات لعشرة باحثين مسجلين في أطروحة عن تاريخ الجزائر والحقبة الاستعمارية. كما يستفيد الطلاب الفرنسيون من تأشيرة دخول متعددة ومن سهولة الوصول إلى الأرشيف الجزائري لنفس الفترة، مع إنشاء مجموعة فرنسية جزائرية ضمن دار نشر كبيرة، لوضع أسس مشتركة للذاكرة، وإنشاء صندوق لترجمة الأعمال الأدبية والتاريخية من الفرنسية إلى العربية ومن العربية إلى الفرنسية، قد يدعم هذا الصندوق أيضًا كتابات باللغة الأمازيغية. مع إعطاء مساحة أكبر لتاريخ فرنسا في الجزائر في المناهج الدراسية، وإنشاء مكتب شباب فرنسي جزائري، للترويج لأعمال المبدعين الشباب، مع إعادة تنشيط مشروع متحف تاريخ فرنسا والجزائر، وتنظيم مؤتمر دولي هذا العام مخصص لفرنسوا مورياك وريموند آرون وجان بول سارتر وأندريه ماندوز وبول ريكور.

وتجاهل التقرير المطالب الجزائرية بضرورة اعتذار فرنسا عن جرائمها الفرنسية بحق الجزائريين، وقالت الرئاسة الفرنسية إثر تسلمها التقرير إنها تعتزم القيام بـ«خطوات رمزية» لمعالجة الملف، لكنها لن تقدم «اعتذارات». وأضاف الإليزيه أن الرئيس إيمانويل ماكرون سيشارك في ثلاثة احتفالات تذكارية في إطار الذكري الستين لنهاية حرب الجزائر في 1962، هي: اليوم الوطني للحركى في 25 سبتمبر، وذكرى قمع تظاهرة الجزائريين في باريس في 17 أكتوبر1961، وتوقيع اتفاقيات إيفيان في 19 مارس 1962.

الرئيس تبون: الجزائر ستتعامل الند للند مع فرنسا وغيرها من الدول

ستورا تجاوز جرائم فرنسا

وفي الجزائر لم يصدر أي رد فعل رسمي على تقرير ستورا، كما لم يصدر لحد الساعة التقرير النهائي لمستشار الرئيس تبون بشأن رؤية الجزائر فيما يتعلق بملف الذاكرة، لكن التقرير الفرنسي أثار نقاشاً واسعاً وانتقادات حادة من طرف باحثين وخبراء ومنظمات قدماء المحاربين، هذه الأخيرة اعتبر أمينها العام بالنيابة المجاهد محند واعمر بن الحاج أن «التقرير أغفل الجرائم الاستعمارية وأراد اختزال ملف الذاكرة في إطار احتفال رمزي لطي صفحة الاعتراف والاعتذار».

وقال المجاهد محند واعمر، في فيديو تم بثه عبر صفحة المنظمة الوطنية للمجاهدين على «يوتيوب»، أن التقرير الذي رفعه المؤرخ بنجامين ستورا إلى الإليزيه بداية يناير الماضي «أظهر محدوديته في سرد الحقائق التاريخية»، مشيرا إلى أن «السياق الذي أعد فيه المؤرخ تقريره يوحي بأنه خان أفكاره وأنه فرض عليه ما يكتب لأغراض سياسية بحتة»، وأوضح أن «ستورا الذي تطرق في كتاباته السابقة إلى الجانب المظلم من تاريخ فرنسا الاستعماري، أغفل الحديث في تقريره عن مختلف الجرائم الاستعمارية التي مارستها الدولة الفرنسية باعتراف الفرنسيين أنفسهم»، منتقدا: «تحاشي المؤرخ التطرق إلى أصل مشكل الذاكرة بين البلدين الذي بدأ بإرسال الملك الفرنسي شارل العاشر لجيشه إلى الجزائر سنة 1830 بهدف استعمار البلاد واستنزاف ثرواتها وإبادة شعبها». وأضاف محند واعمر أن «ستورا حاول تجاوز هذا التاريخ الأليم من المحارق والمجازر والتسبب في نشر الأوبئة التي أبادت ملايين الجزائريين، واختزل كل عمليات القتل في اغتيال الشهيد علي بومنجل والتوصية بجعل تاريخ استشهاده ذكرى مشتركة لطي ملف الذاكرة».

وشكك الأمين العام بالنيابة لمنظمة المجاهدين في صدق الإرادة السياسية للجانب الفرنسي، واعتبر أن «استبعاد أي إمكانية لاعتذار فرنسا الرسمية عن الجرائم الاستعمارية، يقوض محاولات التصالح مع الذاكرة»،  مشددا على أن «الجزائريين لا ينتظرون من الدولة الفرنسية تعويضا ماديا مقابل الملايين من الأرواح البشرية، بل يطالبونها بالاعتراف بجرائمها ضد الإنسانية». كما ذكّر بـ«الممارسات السابقة للدولة الفرنسية بخصوص ملف الذاكرة واستغلاله في مختلف المواعيد السياسية الهامة التي عرفتها البلاد. وأن الفرنسيين كانوا دائما يتناولون هذا الموضوع بأهداف مستترة»، معتبرا من هذا المنطلق، أن «الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يهدف إلى استعمال ملف الذاكرة كورقة رابحة في الانتخابات الرئاسية المقبلة».

وفي معرض قراءته لمحتوى التقرير يؤكد أستاذ التاريخ والحضارة بجامعة الجزائر بن يوسف بن خدة الأستاذ عواد منور أن «ستورا وكممثل لدولة فرنسا حول ملف الذاكرة المشتركة مع الجزائر كَتبَ ما يراه ويعتقد أنه بادرة لحل أزمة الذاكرة متبنيا الرؤية الفرنسية القديمة، وسعيا منه لتحصيل مكاسب تحفظ وجه تاريخ فرنسا الملطخ، وتضمن حقوقا ووجودا في أرض الجزائر من جديد من خلال باحثين وخبراء، ولجان مشتركة».

ويضيف لـ«المجلة» أن «الحنين الفرنسي لمكان ميلاد بعض أبنائها ونشأتهم، وأرض لم يعتقدوا يوما أنهم سيغادرونها منهزمين ما تزال تُحدِثُ غصّة في قلوبهم، وألما في نفوسهم، وقد تَرْجَم كل ذلك مواقفهم العنصرية من قضايانا الوطنية ذات الشأن الداخلي أو الخارجي، وبعد كل الذي أحدثته فرنسا في الجزائر من دمار وألم، تستمر في محاولة الالتفاف على الماضي، وشغل الرأي العام الوطني بقضايا هامشية لتمرر ما تسعى إليه، وتأخذ ما تريده من مدخرات البلد وخيراته، والعبث بعقول أبنائه، وتغيير لسانه، والعمل على تفكيك وحدته، فلا يمكن لحاقد أن يصير صديقا أو شريكا، إلاّ إذا تبدلت النيّات، وبدت في المواقف والآراء الجامعة والمشتركة، والململمة لجروح الماضي وطعناته».

وحسب تقديره فإنه «من المعلوم أن المفاوضات خصوصا حول ملف الذاكرة تخضع لأساليب ضغط تضمن تقدمها أو تعثرها، وينتج عن ذلك تحصيل مكاسب، أو ضياع حلقات من الماضي والهوية والتاريخ، ومما جاء في تقرير ستورا بتواصل الاحتفالات التذكارية كعيد النصر 19 مارس 1962، واتفاقيات إيفيان كخطوة لنهاية الحرب، والتي يمكن اعتبارها تاريخا مشتركا على الرغم مما قيل حولها وكتب، ويقترح ستورا أيضا أن تكون فرنسا وفية لمن خدمها فتخصص يوما لتكريمهم، ويجعله مطلبا لاعتراف الجزائر بعيد الحركى والخونة الذين باعوا وطنهم وأهلهم، وتنكروا لدينهم، وفي المقابل يحاول ستورا أن يظهر الاعتراف بقمع العمال وتقتيلهم يوم 17 أكتوبر 1961 على أنه مكسب للجزائر».

وبخصوص البند الثاني الذي يشير فيه ستورا إلى جمع أقوال الشهود الذين تضرروا من الحرب لإثبات الحقائق، فلا يعدو هذا أن يكون برأيه «إلهاء عن حقيقة كتابة التاريخ انطلاقا من الوثيقة التي تملكها فرنسا وهي الأرشيف، ثمّ إن غالب المتضررين قد قضوا إلى ربهم، فكيف لمؤرخ مثل ستورا أن يفوته الاعتماد على الوثيقة، ويطالب بالرجوع إلى الرواية الشفوية».

ولا يعتقد عواد أن «وضع تمثال للأمير عبد القادر في منفاه كما ذهب إلى ذلك ستورا في البند الثالث من تقريره سوف يضيف شيئا لتاريخ الجزائر في فرنسا، ولا يعبر عن حسن نيّة الجانب الفرنسي الذي يحبسُ الكثير من أخبار هذا البطل في وثائق الأرشيف، وإن إحياء ذكرى بطل تكون بإحياء تاريخه وبطولاته لا بتجسيمه وتصنيمه، وإذا اعتبرنا أن الاعتراف بقتل زعيم كعلي بومنجل وصديق للثورة كموريس أودين أنه مكسب، ألا يُعد ذلك تغطية على جرائم القتل التي طالت الملايين. وفي البند الخامس اقترح ستورا إصدار دليل المفقودين (جزائريين وأوروبيين) وذلك بتحديد مواقع القبور الجماعية، وأماكن الحرق، وكل ذلك تعرفه فرنسا وهو مكتوب عندها ولكن تجعل منه نقطة تفاوض لتحصّل مكاسب أكثر».

وبالحديث عن زرع الألغام، والتجارب النووية التي خلّفت مآسي كثيرة ما تزال آثارها إلى اليوم، فإن ستورا يعلم حسب عواد أن «الأرشيف الفرنسي فيه مخططات التجارب ونتائجها ومواقعها، وكذلك الأمر بالنسبة للألغام ومواطن زرعها، وتعدادها فما أهمية اللجان بوجود الوثيقة، وعن إقامة اللجنة المشتركة للتعرف على رفات شهداء الجزائر فهذا البند يتطلع له الجزائريون وهو حق شرعي وإنساني لهم»، ويبدو أن ستورا برأيه «قد ذهب بعيدا في تقريره إلى حدّ المطالبة بتنقل الحركى بين البلدين، والتحقيق في اغتيال فرنسيين بعد الاستقلال كمدخل لمحاولة المساواة بين الضحية والجلاد».

احتفالات واسعة بالجزائر خلال استرجاع رفات مقاوميها من فرنسا العام الماضي

الحل يبدأ باسترجاع الأرشيف الجزائري

إن القضية الجوهرية في ملف الذاكرة برأيه هي الأرشيف والوثائق التي أخذتها فرنسا من الجزائر، أو التقارير والكتابات التي تعلقت بالمجتمع الجزائري أثناء الاحتلال الفرنسي، وهنا يقترح ستورا حسب حديثه «استرجاع الجزائر لبعض المحفوظات الأصلية فقط، والسماح لعشرة باحثين جزائريين بالتعامل مع وثائق أرشيفية محددة، ويبقى الكثير منها في خانة السريّة، وفي الوقت ذاته يطالب ستورا بالسماح للطلاب الفرنسيين بالوصول للأرشيف الجزائري لتنقّب فرنسا أكثر، وتستكمل حلقات تاريخ أبنائها، فيما تقبع مليارات الوثائق التي تحكي تاريخ الجزائر وأبنائها حبيسة رفوف المكتبات ومراكز البحث الفرنسية، ولن يفيد إنشاء مجموعة فرنسية مشتركة لنشر الأعمال وترجمتها سوى فرنسا التي تملك الوثيقة، فتصدّر للجزائر كتابات وفق تصوراتها وقراءتها للوثائق، وتطلع في الوقت ذاته عمّا وجد عندنا من وثائق أو تصورات عن حقبة جُلّ وثائقها محفوظ عندها، وفي مطلب أكثر استفزازية يطالب ستورا في تقريره ضمان مساحة أوسع لتاريخ فرنسا في المناهج الدراسية الجزائرية، وهذا الأمر لا يختلف عن احتلال جديد، أو رجوع بعد هزيمة، وإن الضرب على وتر الشباب ودعم أعمالهم هو محاولة لكسب تأييد هذه الفئة التي أصبحت أكثر وعيا في وطننا الجزائر».

حاجة الجزائر الأساسية والملحة والتي يدركها ستورا وفرنسا أجمع برأي عواد هي «استرجاع الأرشيف كاملا غير منقوص، فهو يجيب عن كلّ البنود التي اقترحها ستورا، ويبلغ بنا إلى حقائق عن ذاكرة أمتنا، ونعرف منه جوانب كثيرة من حلقات حياة أجدادنا، وصفحات تاريخ وطننا الجزائر سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا».

تقرير ستورا في تقدير عواد هو «مراوغة لكسب الجزائر بنتيجة أكبر بمنطق الرياضيين، إن مطلب الجزائر في تقريرها يمكن أن يكون في بند واحد فقط هو استرجاع الأرشيف كاملا غير منقوص، وهيهات أن تقبل فرنسا بذلك، لذا سنناضل من أجل استرجاع تاريخنا بكل الوسائل التي تتاح لنا، وإن لم نستطع نحن سيأتي الجيل الذي يتمكن من ذلك، ويكتب تاريخ الجزائر من الوثيقة، وتوثق جرائم فرنسا بالوثيقة أيضا، وعندها لا نطالب فرنسا بالاعتذار بل نسوقها إلى المحاكم».

من جانبه، يعتقد البروفسور إسماعيل مهنانة أستاذ الفلسفة بجامعة قسنطينة أن تقرير ستورا «لا يدخل في تفاصيل الأحداث التاريخية، بقدر ما يعرض أولا ميثاقا ديونطولوجيا  déontologiqueحول أخلاقيات النقاش التاريخي والفلسفي التي يجب أن يتحلّى بها مشروع كتابة ذاكرة مشتركة بين الجزائريين والفرنسيين». كما يُمكن اعتباره في تقديره «بيانا إبستمولوجيا (معرفيا) يعرض فيه ستورا العوائق المعرفية التي تحول دون كتابة تاريخ مشترك، بين الدولتين والشعبين، تاريخ منزوع الأحقاد المجانية، متجرّدا عن روح التهييج والصراع والغوغائية. ومطالبة ملحاحة بالصراحة والصدق إلى أقصى حد».

فمن المقدّمة يوضح مهنانة: «يقول ستورا إن المشكلة ليست في الحقيقة التاريخية بقدر ما هي في الخلافات السياسية والآيديولوجية التي تحكم كتابة التاريخ وتدريسه في السردية الرسمية للبلدين». وحسب مهنانة فإن «ستورا وضع يده على الجرح حين يحدد تلك العوائق المعرفية بمصطلح التمثّلاتles représentations  التي لا تزال تحدد كتابة التاريخ. فالتمثّل هو كيفية حضور الحدث التاريخي في الوعي الحالي وكيفية تأويله، وليس الحدث التاريخي نفسه». ويعتقد مهنانة أن «التأويل هو المشكلة، لهذا فهو يذهب مباشرة إلى المشكلة. وهي أن التاريخ المشترك بين فرنسا والجزائر لم يُكتب لحد الآن، ولا يتردد ستورا في تحميل النظام الجزائري، مسؤوليته التاريخية، ليس فقط في تزوير التاريخ، وشحن السردية الوطنية ببطارية أكاذيب، ولكن أيضا، وخاصة في تحميله مسؤولية إقصاء الكثير من الجماعات التي تشترك في هذه الذاكرة، كاليهود، والحركى، والأقدام السود، وغيرهم».

أكثر من ذلك يقول مهنانة «يُحمّل ستورا النظام الجزائري مسؤولية خنق البحث التاريخي وفرض شروط سياسية وآيديولوجية على المؤرخين، وقمع كل الكتابات المخالفة للسردية الوطنية الرسمية». إن أكثر ما آلمني في هذا التقرير يتابع «ليس كل هذه الصدمات والصفعات المتلاحقة التي وجهها ستورا للجزائر، ولكن هذا الصّمت الإعلامي المُطبق في الجزائر حول التقرير، لم تخصص أي جريدة لحد الآن ملفا محترما حول التقرير، ولم يكلّف أي من المؤرخين الرسميين عناء ترجمة التقرير إلى العربية، (160 صفحة) ولا أي جريدة مٌعربة فعلت ذلك».

font change