تأثير الوضع السياسي على سوق العقارات اللبناني

صفقات بـ3.5 مليار دولار في الأشهر الخمسة الأولى من 2020

تأثير الوضع السياسي على سوق العقارات اللبناني

 

* مسعد فارس لـ«المجلة»: إحجام مواطني دول الخليج عن الحضور إلى لبنان أدى إلى تدهور القطاع العقاري

* أزمة القطاع المصرفي واحتجاز أموال المودعين أنعش القطاع العقاري وأنقذ الشركات من الإفلاس

* بلغت قيمة الصفقات العقاريّة خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الماضي 3.5 مليار دولار، في حين لم تتجاوز 2.4 مليار دولار في الفترة المماثلة من 2019

* حجم عمليات الشراء العقاري ارتفعت من حيث القيمة أكثر من 1.1 مليار دولار بين الفترتين، ما يعني أن حجم هذه العمليات ارتفع بنسبة تقارب 46 في المائة

* ساهم الانهيار المالي الذي بدأ في الفصل الأخير من العام 2019 في إنقاذ القطاع العقاري اللبناني الذي كان يعاني ركوداً قاتلاً أدّى إلى تعثّر بعض المقاولين

 

 

بيروت: في مطلع العام 2019، كان قطاع العقارات اللبناني يشهد أسوأ أيامه على الإطلاق. وكانت التقارير تتناقل أخبار تجار البناء المعروفين الذين أعلنوا تعثّرهم وتوقّفهم عن إتمام مشاريعهم، وعن مشكلات الشركات العقاريّة مع ديونها المتراكمة في المصارف.

لكن ما إن حدث الانهيار الذي شهده القطاع المصرفي، حتّى تبدّل المشهد بشكل مذهل، فقد اندفعت الشركات العقاريّة وتجار البناء لإتمام المشاريع العالقة، وسددوا الالتزامات المصرفيّة التي أعادوا جدولتها باستمرار طوال الفترة الماضية، وعادت الأرباح لتظهر في أرقام الشركات العقاريّة.

لا يحتاج المرء إلى الكثير من التحليل لفهم ما حصل. فما إن فرضت المصارف اللبنانيّة القيود على ودائع عملائها بعد أكتوبر (تشرين الأوّل) 2019، حتّى أصبح هاجس المودعين الأساسي البحث عن أساليب وطرق للتصرّف بودائعهم وتوظيفها بما يمكن أن ينقذها من القيود المفروضة عليها. ووجد تجار البناء والعقارات والشركات العقاريّة الكبرى مصلحة في بيع العقارات مقابل الشيكات المصرفيّة، وخصوصاً أولئك الذين كانوا يرزحون تحت ديون المصارف والمورّدين. وهكذا، كانت أزمة المودعين عنوان خلاص هذه الفئة من المستثمرين في القطاع العقاري.

وإضافة إلى تجّار البناء والعقارات، فقد كانت هناك كتلة وازنة من القروض والتسهيلات التي استفادت منها الشركات في القطاعات التجاريّة الأخرى، والتي وجد أصحابها مصلحة في بيع موجوداتهم العقاريّة مقابل شيكات مصرفيّة لسداد قيمة ديونهم في المصارف. وبمرور كل شهر بعد حصول الانهيار في القطاع المالي، كان حجم هذا النوع من العمليات يتضخّم، خصوصاً كون أصحاب الودائع كانوا يتأكّدون أكثر مع مرور الوقت أن لا انفراجة قريبة لمسألة ودائعهم الحبيسة في القطاع المصرفي.

وبحسب أرقام المديريّة العامّة للشؤون العقاريّة، فقد بلغت قيمة الصفقات العقاريّة التي عُقدت خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام 2020 حدود الـ3.5 مليار دولار، في حين لم تتجاوز قيمة هذه العمليّات 2.4 مليار دولار في الفترة المماثلة تماماً من العام 2019، والتي سبقت حصول الانهيار الكامل في القطاع المالي. بمعنى آخر، تشير هذه الأرقام إلى أنّ حجم عمليات الشراء العقاري ارتفعت من حيث القيمة أكثر من 1.1 مليار دولار بين الفترتين، وهو ما يعني أن حجم هذه العمليات ارتفع بنسبة تقارب 46 في المائة. وهكذا، تعكس هذه الأرقام الانتعاش الذي شهدته التداولات في السوق العقاريّة، وارتفاع حجم المبيع، كنتيجة لظاهرة تحويل الودائع المصرفيّة إلى عقارات بعد حدوث الانهيار في القطاع المالي.

أما الأهم هنا، فهو ملاحظة المسار التصاعدي لعدد هذه العمليات بين الأشهر التي تلت حصول الانهيار. فبين شهري مايو (أيار)، ويونيو (حزيران)، ارتفع عدد عمليات الشراء العقاري من 4036 عمليّة في شهر مايو، إلى 8339 عمليّة في شهر يونيو، وهو ما عبّر عن تزايد إقبال المودعين على هذه الصفقات خلال الأشهر الأخيرة لتحرير ودائعهم من المصارف.

«سوليدير» تحديداً تمثّل عينة من الشركات التي أنقذتها أزمة المصارف، كونها من الشركات التي كانت ترزح تحت عبء الديون المصرفيّة التي استُعملت سابقاً في أنشطة التطوير العقاري

وتشير أرقام مصرف لبنان إلى أن القروض الممنوحة للقطاع الخاص بلغت حدود 40.44 مليار دولار في نهاية مايو، في مقابل نحو 52.5 مليار دولار في الفترة المماثلة من سنة 2018. باختصار، يمكن القول إن القطاع الخاص تمكّن بين الفترتين من التخلّص من نحو 23 في المائة من قروضه والتزاماته، عبر عمليّات انطوت في غالبيتها الساحقة على إطفاء القروض مقابل بيع الموجودات العقاريّة. مع العلم أن هذه العمليات لم تقتصر من ناحية البيع على الشركات العقاريّة وتجار البناء فقط، بل شملت الكثير من المقترضين الآخرين الذين أقدموا على تسييل عقاراتهم مقابل شيكات مصرفيّة لسداد التزاماتهم في المصارف.

أما النتيجة فكانت إنقاذ الشركات العقاريّة وتجار البناء من الإفلاس. فـ«سوليدير» مثلاً، تمكّنت من سداد نحو 225 مليون دولار من ديونها لمصلحة المصارف في النصف الأول من 2020 وحده، نتيجة تمكّنها من بيع عقارات تقارب قيمتها 342 مليون دولار في تلك الفترة. و«سوليدير» تحديداً تمثّل عينة من الشركات التي أنقذتها أزمة المصارف، كونها من الشركات التي كانت ترزح تحت عبء الديون المصرفيّة التي استُعملت سابقاً في أنشطة التطوير العقاري، وهو ما سمح للشركة بقبول شيكات المودعين كطريقة للدفع بعد الأزمة، بهدف سداد الديون.

باختصار ساهم الانهيار المالي الذي بدأ في الفصل الأخير من العام 2019 في إنقاذ القطاع العقاري اللبناني الذي كان يعاني ركوداً قاتلاً أدّى إلى تعثّر بعض المقاولين. وبتهافت المودعين على شراء عقارات لتحرير جزء من ودائعهم المصرفيّة نتيجة القيود المفروضة على السحوبات النقديّة بالعملات الأجنبيّة، تخلّص تجار البناء والشركات العقارية من ديونهم تجاه المصارف فباعوا عقاراتهم مقابل الشيكات المصرفيّة. لكن، وبعد تسديد ديونهم توقّفت الغالبية الساحقة منهم عن القبول بالشيكات المصرفية وباتوا يطالبون بدفع نسبة من ثمن العقار بالدولار الطازج، بدل الشيك المصرفي.

اليوم وبعد فشل الطبقة السياسية الحاكمة في تشكيل حكومة جديدة تنقذ البلاد والعباد من هذا الوضع السياسي والاجتماعي والصحي المأساوي الذي أدى إلى انهيار كل القطاعات الاقتصادية.

«المجلة» التقت أمين سرجمعية المطورين العقاريين في لبنان مسعد فارس للاطلاع منه على واقع القطاع في ظل هذه الأزمات، فقال: «بين عامي 2011 ومنتصف 2019، كان وضع سوق العقارات في لبنان متدهورا بسبب الصراع السوري، وإحجام مواطني الدول الخليجة عن زيارة لبنان بسبب المشاكل الأمنية، وحتى اللبنانيون أنفسهم لم يكن لديهم الرفاهية الاقتصادية للشراء، كما كانوا من قبل، لكن في الربع الأول من عام 2020، بدأت تظهر على النظام النقدي في لبنان علامات الانهيار. و سرعان ما أدرك المودعون المصرفيون أن العقارات هي الملاذ الأكثر أمانًا للحفاظ على قيمة أموالهم.

أمين سر جمعية المطورين العقاريين في لبنان مسعد فارس

* هل صحيح أنه منذ أغسطس (آب) 2019 وحتى نهاية 2020 بيعت نحو 60 ألف وحدة سكنية؟ وأن هذه الهجمة على العقار حلت مشكلة المطورين مع المصارف وفي نفس الوقت حلت مشكلة المودعين الذين حجزت أموالهم في المصارف؟

- في الفترة الممتدة من منتصف عام 2019 حتى نهاية عام 2020، شهد بيع الشقق السكنية زيادة هائل، إذ بدأت المصارف في مقايضة المودعين مع المدينين من أصحاب المشاريع السكنية مما أدى إلى خفض ديون المطورين وتحسين نسب ديونهم وباع العديد من المطورين العقاريين مشاريعهم مباشرة للعملاء الذين هم في عجلة من أمرهم لتأمين أموالهم في العقارات وقام الكثير من المتخصصين في القطاعات الخاصة مثل الصناعيين والتجار والمستثمرين الذين لديهم تسهيلات مصرفية مؤمنة بالعقارات ببيع بعض من هذه العقارات لتسديد ديونهم للبنوك.

 

* هل هناك مشترون من خارج لبنان؟

- في أيامنا هذه، ليس هناك أي مشترين أجانب. ولكن هناك ترقب من اللبنانيين المقيمين في الخارج للفرص والصفقات المثيرة للاهتمام خاصة للبنانيين الذين يملكون أموالا عالقة في حساباتهم المصرفية في لبنان.

 

* هل تعتقد أن الذي اشترى اليوم لتحرير أمواله سيقوم ببيع العقار بعد فترة؟

- المودعون الصغار الذين يملكون مبلغا محددا في المصارف، أسرعوا واشتروا العقارات بهدف تأمين أموالهم ولا بد أن يبيعوها عند حاجتهم للأموال خاصة عند تحسن الوضع الاقتصادي والمصرفي في لبنان، أما المودعون الكبار الذين استثمروا بعضا من أموالهم في شراء العقارات فلن يبيعوها لمجرد الحصول على الأموال.

 

* كيف تنظر إلى مستقبل العقار في حال لم تحل المشاكل السياسية التي تعرقل مسيرة البلد ككل؟

- في السنتين المقبلتين، ستشهد سوق العقارات حركة لأن معظم العقارات التي تم شراؤها من أجل إخراج الأموال من المصارف، وسيتم عرضها في السوق مجددا لبيعها. وخلال عام 2021، نتوقع أنه سيكون هناك مستثمرون انتهازيون سيأتون بدولارات نقدية ويبحثون عن صفقات مع مالكي العقارات الذين لا يزالوا يحتاجون إلى بيع عقاراتهم لأنهم بحاجة إلى هذه الدولارات النقدية. لن يكون هذا وفيرًا ولكنه سيحرك السوق قليلاً .

وباعتقادي أنه بحلول منتصف عام 2022، نعتقد أن سوق العقارات المتواضعة ستشهد حركة لأن أصحابها سيبدأون في عرض المساكن للبيع، حيث إنهم سيحتاجون إلى النقود للعيش. ومع مرور الوقت، سيزداد العرض في سوق العقارات الأغلى ثم الأغلى وهكذا. ولكن لا نعتقد أن سوق العقارات الراقية والفاخرة سيواجه أي عرض لأن أصحابها لديهم احتياجات مالية مختلفة. ليستعيد العقار مكانته. على القطاع المصرفي أن يستعيد مكانته وعلى الليرة أن تستعيد قيمتها، وعلى الوضع السياسي أن يأخذ مكانته. اليوم وضع لبنان متأزم سياسيا وهذا له تأثير كبيرعلى الاقتصاد سواء كان على صعيد النهضة الاقتصادية أو الحركة العمرانية أو الصناعة أو التجارة أو النقد أو أي قطاع آخر، أي إنّ القطاع العقاري في المرحلة المقبلة هو خليط من كل هذه الاحتمالات، ففي العام 2020 تهافت المودعون على شراء العقار وقلّة قليلة لا تزال تَنوي شراء العقار. فالمودع الذي اشترى عقاراً بمبلغ صغير بهدف إخراج أمواله من المصرف أحسَنَ بخطوته لأنه حافظَ بهذه الطريقة على قيمة أمواله بدل إبقائها في المصرف، لكن هذا المودع أو المستثمر الصغير هو أول من سيحاول بيع عقاره في المرحلة المقبلة لأنه سيكون بحاجة أكثر إلى الأموال مقارنةً مع المستثمر الكبير الذي، على سبيل المثال، اشترى شقة أو أرضاً بقيمة 4 أو 5 ملايين دولار، فهذا لن يحتاج إلى الأموال قريباً وبالتالي لن يُقدم على البيع في الفترة المقبلة.

* هل هذه البيوعات ستخفّض من سعر العقار؟

- سيتراجع سعر العقار في حال هجم المستثمرون دفعة واحدة على البيع، بحيث يصل مجموع قيمة المعروض العقاري إلى ما بين 30 إلى 40 مليون دولار. إلّا أنّ هذا الأمر مُستبعد لأنّ من اشترى عدة أراضٍ بملايين الدولارات لن يُقدم على البيع في الفترة المقبلة لأنه لن يحتاج إلى سيولة قريباً، سيبقى سعر هذا النوع من العقار متماسكاً ولن يتبدّل. أمّا من اشترى شقة صغيرة بسعر مقبول وأراد أن يعرضها للبيع لتسييلها فلن يحقق ربحاً من هذه العملية إنما سيحافظ على قيمة أمواله، إذ إنه بعد أن اشتراها بشيك مصرفي سيُطالب عند البيع بجزء من ثمنها نقداً والجزء الآخر عبر شيك مصرفي.

وتوقّع فارس في ختام حواره أن تصبح السوق العقارية في المرحلة المقبلة سهلة، وستحصل الكثير من عمليات البيع والشراء مرجّحاً أن تكون غالبية المشترين من خارج لبنان، لا سيما من المغتربين، لأنّ الشقة أو العقار المقدّر بمليون دولار سيشتريه المغترب بـ300 ألف دولار نقدي، بما يعني أنّ العقار سيصبح متاحاً أكثر وبسعر أرخص لمن يملك الأموال الطازجة.

 

 

 

 

font change