الخرطوم وتل أبيب... دبلوماسية للتنمية أم تجاوز للخط الأحمر؟

بين الضغط الدولي والانقسام الشعبي ...

رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك يستضيف وزير الخارجية مايك بومبيو في 25 أغسطس 2020 (تويتر)

الخرطوم وتل أبيب... دبلوماسية للتنمية أم تجاوز للخط الأحمر؟

* يشير محللون إلى أن رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية عن السودان لم يكن ممكنا لولا مقابلة رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل نحو عام من الآن

* عبد الله حمدوك رداً على سؤال بشأن موقف الحكومة الجديدة من التطبيع مع إسرائيل: «عندما يقول المجلس التشريعي رأيه سيكون رأياً ملزماً»

* أي توجه يُبعد الخرطوم عن العواصم الدولية المؤثرة سينعكس سلباً على مساندة الحكومة الانتقالية في مواجهة الأزمة الاقتصادية

* العلاقة مع إسرائيل يمكن عبرها إعادة تأهيل موانئ السودان المطلة على البحر الأحمر، والتفكير في إنشاء ميناء عملاق جديد وذي طابع عالمي

* هذه الخطط تحتاج لقاعدة سياسية وطنية متوافق عليها تفتقر لها الحكومة الحالية لأن مكوناتها تضمر حالة رفض التطبيع

* جميع الدول المحيطة بالسودان أنشأت علاقات مع إسرائيل وقبل ذلك مصر، فهل يترك السودان كجزيرة معزولة أمام أقوى دولة في المنطقة؟

 

الخرطوم: تواجه الحكومة الانتقالية الجديدة في السودان تحديات داخلية وخارجية من أجل تحقيق أهدافها المتعلقة باتباع سياسة خارجية متوازنة، وفي ذات الوقت توسيع قاعدتها المحلية بشكل يجنبها المزالق التي قد تصل في أسوأ السيناريوهات إلى «الانقلاب»عليها حسب رؤية بعض السياسيين، ما يجعل حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك تحت الضغط، خصوصا وأن مهامها تتطلب الحذر من التعامل في قضايا مثل العلاقة مع إسرائيل، إذ تبدو من الملفات الأكثر تأثيرا حاليا على علاقات الخرطوم الخارجية وعلى سياساتها الداخلية المزدحمة بالمشكلات المعقدة.

ويشير بعض المحللين إلى أن رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية عن السودان في أواخر عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لم يكن ممكنا لولا الخطوة السودانية التي اتخذها رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان بمقابلة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل نحو عام من الآن.

ومنذ ذلك الحدث، يراوح موضوع العلاقة مع إسرائيل خطابات المسؤولين في الحكومة أو المعارضة من حين إلى آخر، ولكن في فترات متقاربة، وكثيرا ما يلقي السياسيون بمن فيهم ساسة النظام السابق، باللوم على الأجندة الإسرائيلية في الأزمات التي تواجه البلاد، ويذهب سياسيون أكثر من ذلك، ويشيرون إلى دور فاعل لإسرائيل في انفصال جنوب السودان عام 2011م، فضلا عن انتشار الرؤى التي تحرم التعامل مع إسرائيل، وتحذر من تجاهل مركزية القضية الفلسطينية في العالم الإسلامي.

وخلال مؤتمر صحافي لإعلان حكومته الجديدة في التاسع من هذا الشهر، أكد رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، أن قضية تطبيع العلاقات مع إسرائيل سيحسمها المجلس التشريعي الانتقالي، وردا على سؤال بشأن موقف الحكومة الجديدة من التطبيع مع إسرائيل، أجاب حمدوك: «عندما يقول المجلس التشريعي رأيه سيكون رأيا ملزما».

 

انقسام شعبي بين مؤيد للتطبيع ومعارض

وتخضع الدبلوماسية السودانية التي تقودها الدكتورة مريم الصادق المهدي، لاختبار شديد التعقيد حول كيفية التعامل مع القضايا السياسية ذات العلاقة بالخارج وذات تأثيرات داخلية، وسط ضغوط من قوى مؤثرة إلى اتباع سياسة أكثر استقلالية في العلاقات الدولية، وتغيير السياسات التي كانت متبعة في عهد النظام المعزول.

وسبق لوزيرة الخارجية أن وجهت انتقادات حادة لقرار التطبيع مع إسرائيل، رافضة أن يتم الربط بين رفع اسم السودان من قائمة الدول المشجعة للإرهاب وتدشين علاقات مع تل أبيب. وحذرت من أنّ قرار التطبيع يمكن أن يفضي إلى حدوث انقسام داخل المجتمع السوداني.

وكانت المهدي، وهي نائبة رئيس حزب الأمة القومي، قد أشارت إلى أن القانون السوداني ما زال يجرم التعامل مع إسرائيل، مطالبة بإيجاد رؤية واضحة لمصالح السودان وعلاقاته من منظور سوداني، وهي مهمة يجب أن يقوم بها برلمان منتخب.

لكن مسؤولا سياسيا في الحزب قال إن حصول أحد كوادر الحزب (مريم الصادق) على منصب وزيرة العلاقات الخارجية في الحكومة، يعني أنه سوف يلتزم بالضرورة بقرارات مجلس الوزراء لكن موقف الحزب سيبقى هو نفسه رافضا لمسألة التطبيع مع إسرائيل.

ويعتقد سياسيون بأن الوقوف على الحياد في السياسة الخارجية أمر محفوف بالمخاطر بالنسبة للحكومة الانتقالية لاعتبارات تتعلق بالآمال المعقودة على الدعم الاقتصادي من قبل بعض الأطراف الإقليمية، والدولية، مشيرين إلى أن أي توجه يُبعد الخرطوم عن العواصم الدولية المؤثرة سينعكس سلبا على مساندة الحكومة الانتقالية في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تعتبر من الأسباب الرئيسية لتحريك الشارع السوداني، فضلا عن أن مشاريع التنمية التي يطمح إليها السودانيون تتطلب علاقات دولية قوية جاذبة للاستثمار الأجنبي.

تجمع سوداني للاحتجاج على اتفاق التطبيع في الخرطوم، السودان (غيتي)

ويساند هذا الاتجاه مبارك الفاضل المهدي الذي يقود حزبا سياسيا مستقلا عن حزب الأمة القومي الذي تتولى إحدى عناصره البارزة وزارة الخارجية.

ويقول فتحي حسن عثمان نائب رئيس القطاع السياسي للحزب الذي يقوده الفاضل، إن المعول عليه أن تكون هنالك رؤية وبرنامج للعلاقات الخارجية وفق ما يحقق مصالح السودان العليا دون محورية أو تبعية، وأن حزبه نادى بمؤتمر للسياسة الخارجية يخرج بتوجه سليم ورؤية متفق عليها نظرا لأن الخارطة السياسية الإقليمية والدولية حدثت فيها متغيرات، وبدأ يتشكل نادٍ سياسي جديد ودخول دول عربية عديدة في عملية إنهاء حالة العداء مع إسرائيل، فضلا عن التمدد الإيراني عبر المذهب الشيعي الذي يسهم في تفكيك الدول كما حدث في العراق وسوريا ويسعى لتفكيك اليمن حسب قوله.

ويضيف عثمان في حديث لـ«المجلة»أن إيران تسعى للسيطرة على ممرات صادرات النفط لكن التوجه العربي يسعى إلى تجريد إيران من كروت الضغط هذه ويجعل البحر الأحمر أكثر أهمية ومعبرا بديلا لمضيق هرمز، ومن هذا تنبع أهمية علاقات خارجية تقوم على المصالح السودانية إذ إن أمن دول الخليج من أمن السودان، ويترافق ذلك مع قيام السودان بتوقيع الاتفاقية الإبراهيمية وإنهاء حالة العداء مع إسرائيل.

ورأى أن انخراط السودان في النادي السياسي الجديد يحقق للسودان تفعيل ميزة تفضيلية كونها الدولة التي تحظى بامتداد واسع على البحر الأحمر، معتبرا أن عضوية السودان في النادي السياسي الجديد الذي يتضمن إسرائيل أيضا، يسهم في الحصول على فوائد من إسرائيل مثل تكنولوجيا الزراعة المتقدمة وتقنية رفع الإنتاجية، مما يسهم في نهضة القطاع الزراعي السوداني عبر رأسمال عربي وموارد طبيعية سودانية وتقنية إسرائيلية، الأمر الذي يمكن صادرات السودان من أن تكون السلع الأولى في العالم.

ويسترسل عثمان موضحا أن العلاقة مع إسرائيل يمكن عبرها إعادة تأهيل موانئ السودان المطلة على البحر الأحمر، والتفكير في إنشاء ميناء عملاق جديد وذي طابع عالمي يستوعب تزويد ناقلات النفط الكبيرة بالوقود والمناولة، كما أن السودان يوفر خططا استراتيجية لقواعد عسكرية لتأمين الملاحة على البحر الأحمر عبر قوة مشتركة ولتأمين ظهر هذه البلدان حتى لا يتسلل إليها المد الإيراني أو القرصنة البحرية وتعزيز أمنه القومي وتعزيز أمن المنطقة.

لكن عثمان يرى أن هذه الخطط التي وصفها بـ«الزاهية»تحتاج لقاعدة سياسية وطنية متوافق عليها تفتقر لها للحكومة الحالية لأن مكوناتها تضمر حالة رفض التطبيع وتتعذر بعدم مشروعيته الآن لعدم وجود برلمان منتخب، معتبرا أن هذا التعليل هو محاولات للهروب إلى الأمام إذ دعت الوثيقة الدستورية إلى إصلاح العلاقات الخارجية دون أي تحديد، معتبرا أن هذا الاتجاه الرافض للتطبيع تقوده بعض الأحزاب الآيديولوجية التي ترفع شعارات لم تحقق تقدما للشعوب ولم تواكب التطورات السياسية، مشددا على أن التطبيع مع إسرائيل لا يعني نسيان الحق الفلسطيني، وإنما تماشٍ مع اتفاقية حل الدولتين كما نصت عليه قرارات أوسلو، كما لا يعني غض الطرف عن الانتهاكات واغتصاب الأرض وعودة اللاجئين من الشتات، داعيا حكومة عبد الله حمدوك لمناقشة هذه القضية في العلن.

لكن العلاقة مع إسرائيل ذات حساسية عالية لدى حكومة عبد الله حمدوك، حيث صرح رئيس الوزراء السوداني، بأن القضية لدى المجلس التشريعي المقرر إنشاؤه قريبا، بيد أن مصادر في المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير إحدى الحاضنات السياسية للحكومة الانتقالية تحدثت إلى «المجلة»موضحة أن «مسألة  العلاقة مع إسرائيل التي بادر بها الجانب العسكري من دون الشريك المدني، تشهد تباينا كبيرا وأن المخرج الأوفق هو أن التمسك بضرورة ترك أمر التطبيع أو إقامة العلاقات مع إسرائيل إلى المجلس التشريعي، حيث إن ذلك قد يعطي الوقت الكافي لها خاصة وأن البعض يرى أن هذا المجلس قد لا يرى النور في المستقبل المنظور خاصة في ظل خلافات بين الأطراف الداعمة للحكومة».

وتشير هذه الإفادة إلى أن موضوع العلاقة مع إسرائيل ستظل ملفا لدى المسؤولين العسكريين والأمنيين خصوصا وأنها ورقة مهمة في تحريك الشارع السياسي ضد الحكومة الانتقالية، التي تواجه ضغوطا شديدة في السياسات التي تتبعها داخليا وخارجيا مما دفع عضوا بارزا للمجلس المركزي في قوي الحرية والتغيير إلى اتهام جهات داخل مؤسسات الفترة الانتقالية (لم يسمها) بـالسعي للقيام بانقلاب غير تقليدي سياسياً.

وقال جمال الكنين لصحيفة «الحراك السياسي»السودانية إن هنالك مخططا مدعوما من أطراف داخل مؤسسات الفترة الانتقالية للمخطط ويتم تمويله من قبل النظام المعزول  يجري عبر حشد الإدارة الأهلية والطرق الصوفية وصناعة بعض التنظيمات الشبابية للقيام بانقلاب، ويتزامن ذلك مع تحركات وسط الطرق الصوفية والإدارة الأهلية انتهى بتوقيع 50 شخصية صوفية وقيادات من الإدارة الأهلية على بيان يدعو لإسقاط الحكومة الانتقالية الحالية..

وينص إعلان قوى الحرية والتغيير، بشكل واضح على أن تقوم علاقات السودان الخارجية وفقا للمصالح المتبادلة، وأن تبتعد عن المحاور والأحلاف، سواء كانت سياسية أو عسكرية، خصوصا التي تضر بمستقبل البلاد، ويفسر المعارضون لأي خطوة في العلاقة مع إسرائيل هذا النص بأنه يعني النأي عن سياسة النظام السابق، بما فيها انخراط السودان في القوة العسكرية الأميركية بأفريقيا، المعروفة اختصارا باسم «أفريكوم»، أو عبر انخراط السودان في عمليات ما يسمى محاربة الإرهاب، وفقا للرؤية الأميركية، أو الإسرائيلية.

وحسب السكرتير السياسي للحزب الشيوعي السوداني محمد سيد أحمد الخطيب فإن تطبيع العلاقات مع «الدولة الصهيونية»سيحول السودان إلى «فلسطين جديدة»، وأن إسرائيل ستعمل كـ«مخلب قط»لخدمة مصالح الإمبريالية وضرب حركات التحرر والمقاومة في المنطقة وتقويض الأنظمة التقدمية، ورأى أن التطبيع سيؤدي إلى تقسيم الدول في المنطقة العربية والأفريقية على أساس مذهبي وعرقي وزرع التناقضات والحروب.

وشدد في لقاء مع المحررعلى وصف الاتفاق بين بلاده وإسرائيل بأنه «تطبيع»وليس «سلاما»، وقال الخطيب إن الحديث عن اتفاق سلام يهدف إلى تسويق اتفاق التطبيع، وأضاف: السودان لم يك في حاجة للتطبيع من أجل إنشاء علاقات دولية تقوم على الندية، وأكد على أن رهن الإرادة الداخلية للخارج هي التي ورطت السودان في أزمة العقوبات الأميركية، بيد أن الخروج منها لن يتم برهن الإرادة الوطنية للخارج، مؤكدا على أن كل قوى الرأسمالية الدولية تعمل على فرض إملاءات على السودان لتوسيع نفودها، ولاستغلال موارده في مراكمة رؤوس الأموال في بلدانهم.

 

رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان

وفي غضون الأسبوع الماضي، كشفت صحف محلية أن بعثة إسرائيلية دبلوماسية وصلت إلى العاصمة الخرطوم الأسبوع الماضي وعقدت لقاءات مع المسؤولين فيرئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان الحكومة لإكمال عملية التطبيع.

وتأتي هذه الزيارة بعد نحو ثلاثة أسابيع من زيارة قام بها وزير الاستخبارات الإسرائيلي إيلي كوهين للعاصمة السودانية، وذلك بعد أشهر من اتفاق السودان​ وإسرائيل على تطبيع العلاقات.

وفي هذا الصدد يقولالمتخصص في الشؤون السياسية والأمنيةالدكتور طارق محمد عمرلـ«المجلة»إن الزيارة الخاطفة وغير المعلنة لوفد أمني إسرائيلي برئاسة وزير المخابرات إيلي كوهين توضح أن إيلي كوهين هو عراب الانفتاح الاسرائيلي نحو الدول العربية بغية التطبيع مع بلاده لأهداف اقتصادية وأمنية، وأن الاهتمام الإسرائيلي بالسودان له أبعاد تاريخية واجتماعية واقتصادية وأمنية، وسيتم ربط الأنساق الأمنية الإسرائيلية بالسودانية في مجالات التدريب وتبادل المعلومات والإنذار المبكر، معتبرا أنهذه العلاقة تحتاج لشخصيات وطنية مؤهلة في جميع المجالات تفاديا لصيرورة السودان الطرف الأضعف، ورأى أن إصلاح القوانين الاقتصادية والأمنية أمر لازم وواجب.

وعادة؛ فإن جدل الموقف السوداني من إسرائيل يتصاعد في مثل هذه المناسبات لكنه سريعا ما يخفت مع بروز الأحداث المحلية، بيد أنه في الفترة الأخيرة لوحظت كثافة المناظرات السياسية والاجتماعية حول العلاقات السودانية الخارجية وعلى رأسها العلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.

وتعليقا على هذا الجدل، يدعو الأكاديمي البارز في جامعة الخرطوم مصطفى نواري إلى «عدم التعاطي بحساسية سياسية غير موضوعية بشأن العلاقة مع إسرائيل».

ويتساءل قائلا: جميع الدول المحيطة بالسودان أنشأت علاقات مع إسرائيل وقبل ذلك مصر، فهل يترك السودان كجزيرة معزولة أمام أقوى دولة في المنطقة؟

ويضيف نواري: «رغم موقف السودان الصامد في الحق العربي إلا أن الموقف العربي على طول تاريخ المؤامرات الإسرائيلية ضد السودان كان أسوأ من الموقف الإسرائيلي، خاصة دولا عربية مجاورة كانت تدعم التمرد بالجنوب في صف واحد مع إسرائيل».

ويعتقد أن «الوقت قد حان لتغيير الموقف السوداني، بعد أن مرت عقود، وتبدلت المواقف، بما فيها القضية الفلسطينية نفسها، معتبرا أن موقف السودان المعادي لإسرائيل على خطأ تجب معالجته»، وفق تعبيره.

font change