تقنية «النانو» الطبية تتحدى الأمراض المستعصية

ثورة «الواحد على مليون من المليمتر» أمل المستقبل

تقنية «النانو» الطبية تتحدى الأمراض المستعصية

 

 

القاهرة: لم يتخيل أكثر المتفائلين بالتكنولوجيا في العصر الحديث أن يتم اختراع وحدة قياس فائقة الصغر تعرف باسم «النانو» لدرجة توصيفها بـ«واحد على مليون من المليمتر» (واحد على مليار من المتر) ومن ثم دخولها في مجالات متعددة لا تستطيع التقنيات المعروفة الوصول إليها، ومن بينها التقنيات التكنولوجية المتقدمة، وأصبحت كذلك جزءا لا غنى عنه في علاج الأمراض المستعصية، حيث يتم من خلالها الوصول للخلايا الخبيثة وتدميرها دون التأثير على الخلايا السليمة والتي كانت تتضرر حتى وقت قريب من أساليب العلاج التقليدية التي لا تفرق بين الخلايا وتستهدف كل ما تصل إليه بالإضافة إلى ما تسببه من أعراض جانبية جسيمة يعاني منها المرضى ربما لشهور أثناء فترات العلاج، واستطاع الأطباء المستخدمون لتقنية النانو علاج الأمراض المستعصية بشكل فعال من خلال توجيه العلاج للخلايا السرطانية بدقة متناهية والقضاء عليها، وهو ما مثل ثورة طبية كبيرة طورت من أساليب العلاج بهذه التقنية الفعالة والمثيرة للانتباه للكثيرين، ووصل التقدم من خلال هذه التقنية إلى زراعة أجهزة استشعار «نانوية» في الدماغ لمساعدة المصابين بالشلل على السير، بالإضافة للعديد من النجاحات الأخرى التي ساهمت في القضاء على أمراض عديدة بعد تشخيصها بشكل دقيق واستهدافها بالعلاجات الحديثة .

العالم المصري مصطفى السيد وفريقه البحثي من أوائل مستخدمي تقنية «النانو» في علاج السرطان بالاستعانة بجزيئات الذهب

وتعد تكنولوجيا النانو «Nanotechnology» أو التكنولوجيا متناهية الصغر ثورة المستقبل في جميع المجالات حيث تهدف هذه التكنولوجيا المتطورة إلى تصنيع أجهزة ومواد جديدة بمقاييس النانو تمتلك مواصفات وسمات غير عادية، وتقوم التقنيات الحديثة للنانو بدراسة المواد الحية وغير الحية في الذرة بهدف تصنيع هذه الأجهزة الدقيقة لاستخدامها في كل المجالات، ويعد المجال الطبي من أهم المجالات التي يتم استخدام النانو فيها خلال الفترة الأخيرة، واستطاع من خلاله تحقيق نتائج باهرة خاصة على مستوى الأمراض المستعصية .

 

علاج السرطان بالنانو

ومن خلال الكاميرات النانوية الدقيقة استطاع الأطباء المتخصصون العلاج بمثل هذه التقنيات والدخول إلى معقل الأورام السرطانية، وأخذ عينات من هذه الأورام بعد تحديد أماكنها بشكل دقيق وتصويرها، وتطورت تقنيات العلاج أيضا بعد الوصول إلى هذا المرحلة من خلال عمليات «الحقن النانوية» للخلايا السرطانية، واستهدافها بشكل دقيق جدا بل من خلال مراحل شديدة الدقة وإطلاق مواد طبية فعالة داخلها لاستهدافها مباشرة دون التأثير على الخلايا السليمة المحيطة، واستطاع الباحثون والأطباء من خلال ذلك إيقاف نمو الخلايا الخبيثة، بل والقضاء عليها أيضا، واستطاعوا أيضا تصنيع جسيمات دقيقة جدا من مركب «البوليمر» الكيميائي تتم إحاطته ببروتين «ترانسفيرين» تتوغل داخل الأورام لاستهدافها والقضاء عليها.

العالم المصري الدكتور مصطفى السيد

قنابل وروبوتات نانوية

ولم يكتف العلماء بما تم من تشخيص واستكشاف وحقن وتصوير من خلال تقنية النانو تكنولوجي الطبية الحديثة، ولكنهم أيضا استطاعوا من خلال هذه التقنية تفعيل قنابل مجهرية ذكية تستهدف الخلية السرطانية وتقوم بتفجيرها، وقتل الخلايا السرطانية، وتمت تجربة هذه التقنية على فئران التجارب وحققت نجاحا كبيرا.

روبوتات نانوية بحجم «1 ميكرون» يتم التحكم فيها من قبل الأطباء أثناء الجراحات، وتوجيهها بشكل يسمح لها بالمساعدة في العمليات الجراحية، وضخ مواد علاجية وإشعاعية

المحرك النانوي كان من بين التقنيات الحديثة في علم النانو ويستطيع هذا المحرك الذي قام بتصنيعه باحثون في جامعة كارنغي ميلون الأميركية التجول داخل الأوعية الدموية الموجودة في جسم الإنسان، وهو ما يدل على دقة وحجم هذا المحرك واستطاعته الوصول لأدق الأماكن في الجسم البشري، ومساعدة الأطباء على إجراء الجراحات الدقيقة، وبخلاف المحرك تم تصنيع روبوتات نانوية بحجم «1 ميكرون» يتم التحكم فيها من قبل الأطباء أثناء الجراحات، وتوجيهها بشكل يسمح لها بالمساعدة في العمليات الجراحية، وضخ مواد علاجية، وموجات إلى الخلايا بدقة بالغة، ويتم استخدام هذه التقنيات في جميع المجالات الطبية سواء العلاجية أو الوقائية، ويتم استخدامه كذلك في حمل الأجهزة الدقيقة والكاميرات متناهية الصغر والتي تمكن الجراحين من رؤية الخلايا والأنسجة والمرور من خلال الأوعية الدموية، وهي مواد نانوية مصنوعة من الكربون.

 

مركبات نانوية

استطاع العلماء استحداث تطبيقات طبية تتناسب مع تقنية النانو، وتفعيل «مركبات نانوية» ليست فقط لرصد الأمراض وحقن الخلايا المصابة، بل أيضاً يعد من وظائفها أمر الخلايا بإفراز هرمونات معينة للمساعدة في علاج الأمراض، وكذلك تدعيم وترميم الأنسجة المصابة بحيث تعود لطبيعتها مرة أخرى وتتغلب على العارض المرضي الذي أصابها، وتم استخدام هذه التقنية لدى مرضى السكري لحقن الأنسولين بكميات مناسبة وفي أوقات محددة بحسب حاجة الجسم، وكذلك أجهزة دقيقة تستطيع التحكم في كرات الدم الحمراء وإعادة ضخها إلى الدم بعد علاجها خلويا وبالتالي علاج عدد كبير من الأمراض كان يصعب جدا علاجه من قبل بواسطة التقنيات المعروفة في التشخيص والعلاج .

وكان للذهب نصيب في استخدام النانو، حيث فطن العلماء إلى إمكانية استخدامه في تشخيص وعلاج السرطان من خلال استخدام جزيئاته النانوية في امتصاص الضوء، ومن ثم تحويله إلى مواد حرارية تستهدف الخلية السرطانية فقط (وليس الخلايا السليمة) بالتدمير من خلال جزيئات الذهب النانوية .

الكاميرات النانوية الدقيقة استطاعت الدخول إلى معقل الأورام السرطانية وتصويرها وأخذ عينات منها واستهدافها بالعلاج

جهود مصرية

ويمتلك العالم المصري الشهير الدكتور مصطفى السيد وفريقه البحثي خبرات كبيرة في استخدام جزيئات الذهب النانوية في علاج مرض السرطان، حيث استخدموا هذه التقنية بسبب خواص الذهب الذي لا يتفاعل كيميائيا، وإمكانية استجابته للحرارة الموجهة إليه وبالتالي قتل الخلايا السرطانية من خلال هذه التقنية المستخدم فيها النانو، وأطلق العلماء مؤخرا اسم العالم المصري مصطفي السيد على بعض الأبحاث الخاصة بتكنولوجيا النانو تقديرا لجهوده في هذا المجال.

قنابل مجهرية ذكية «نانوية» تستهدف الخلية السرطانية وتقوم بتفجيرها وقتل الخلايا السرطانية

واستخدم فريق الدكتور مصطفى السيد جزيئات الذهب النانوية متناهية الصغر في حقن الأورام السرطانية، وبعد ذلك يتم استهدافها من قبل أشعة الليزر من مسافة ودرجات معينة وهي التقنية التي استطاعوا من خلالها قتل الخلايا السرطانية دون استهداف الخلايا السليمة، وعكف الفريق البحثي لأعوام متواصلة على تجرية هذه التقنية على حيوانات التجارب حتى تم التوصل إلى النسب المثلى سواء من خلال قوة شعاع الليزرالمستخدم أو حجم جزيئات النانو من الذهب والتي يتم حقنها داخل الخلايا المصابة، وحقق الدكتور مصطفى السيد وفريقه العلمي نجاحات باهرة في هذا المجال باستخدام هذه التقنية .

وامتدت رحلة العلماء المصريين مع التقنيات الحديثة للقضاء على السرطان منذ أمد بعيد، حيث استبق الدكتور المصري عبد الفتاح بدوي والذي كان يشترك في بحث تحت مظلة الاتحاد الأوروبي لعلاج السرطان بالموجات الكهرومغناطيسية مرحلة النانو تكنولوجي، حيث عمل الدكتور عبد الفتاح بدوي على تقنية طبية يتم حقن الخلايا السرطانية المصابة بمواد كيميائية، ويتم بعدها تعريض المريض لموجات كهرومغناطيسية بنسب معينة تستهدف المواد الكيميائية التي سبق حقنها فقط، وبالتالي القضاء على الورم السرطاني دون المساس بالخلايا السليمة، وتم تنفيذ هذه التقنية خلال عام 2005 من خلال عدة علماء في أوروبا ومنهم عالم مصري.

وتهدف بعض تقنيات النانو لاستهداف الخلايا السرطانية الصغيرة من خلال حقن الجسم بجسيمات نانوية ضوئية بأشعة تحت حمراء تقوم بالسير مع الدم لتلتصق بالخلايا الخبيثة وهو ما حقق نجاحا كبيرا في استهداف الخلايا السرطانية بالتدمير، وقلص من نموها، وإمكانية انتشارها إلى أماكن أخرى داخل الجسم، وتعد هذه التقنية فعالة جدا في المراحل الأولى من الأورام السرطانية وسهولة استهدافها بالتدمير من خلال المواد الطبية المتعددة .

وتعد المراحل العلاجية بالنانو هي إحدى خطوات هذه التقنية التي يتم استخدامها كذلك في اكتشاف الأمراض والفيروسات المعدية والفطريات من خلال ما يسمى المستشعرات الحيوية، وكذلك تساعد هذه التقنية على عملية التشخيص ومعرفة تطورات المرض ودرجته وهو ما يمكن بحسب العلماء من إنقاذ الملايين من البشر من المعرضين للإصابات وكذلك الوفاة جراء الإصابة، ويمثل الاستعانة بالأشعة بمختلف أنواعها تطورا كبيرا في استخدام النانو تكنولوجيا.

 

مخاوف نانوية

ورغم الفوائد التي لا حصر لها من استخدام تقنية النانو إلا أن الباحثين أشاروا لعدد من الآثار السلبية التي يمكن أن تؤثر على صحة الإنسان وكذلك البيئة المحيطة به جراء استخدام هذه التقنية، وأرجع الخبراء ذلك إلى دقة حجم المواد النانوية ومخاطر هذا الحجم النانوي بسبب سهولة توغله إلى مسام الجلد والأنسجة والشرايين والأوردة وكذلك داخل الخلايا، واستطاعته الانتشار بسرعة داخل الجسم مما يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه في حالة الخطأ الوارد عند الاستخدام، وكذلك إمكانية اختراق المواد النانوية للتحصينات الوقائية مثل الكمامات التي توضع على الوجه وذلك بسبب صغر حجم جزيئات النانو، هذا بخلاف تخوفات من تأثيرات قد تكون غير معروفة للباحثين جراء صغر حجم هذه الجزيئات وسهولة توغلها في الجسم بسرعة كبيرة جدا، بالإضافة إلى إمكانية تكوين أنواع غير معروفة من المواد قد يكون لها تأثير ضار على الحمض النووي للإنسان.

 

تقنية المستقبل

الدكتور محمد نجيب سيف أستاذ الصحة العامة والطب الوقائي بجامعة الأزهر في مصر قال في حديث خاص لـ«المجلة»: «تعد تقنية النانو، أو ما يعرف بالنانو تكنولوجي، واحدة من أهم الثورات الطبية الحديثة، حيث تتعدد استخداماتها في العديد من المجالات الطبية المتعلقة بالكشف والتشخيص والعلاج، ودخلت هذه التقنية ضمن الأساليب الطبية الفعالة والناجحة خلال الفترة الأخيرة وبدأت في التطور بشكل كبير خاصة في ظل التطور العلمي والاعتماد على الأجهزة الطبية الحديثة».

زراعة أجهزة استشعار «نانوية» في الدماغ لمساعدة المصابين بالشلل على المشي

وتابع: «النانو هو العلم الذي يتم من خلاله استخدام المواد بشكل ذري أو متناهي الصغر وجزيئي (جزء من الألف من الميكرو) أو (جزء من المليون من المليمتر)، وأحيانا يتم التعامل من خلال واحد من المائة من النانو، وهو شيء متناهي الصغر جدا بحيث تستطيع المواد النانوية الدخول إلى الخلية البشرية أو المواد البكتيرية الصغيرة مما يسمح للأطباء والمعالجين بهذه التقنيات الحديثة الدخول واستهداف أمراض متناهية الصغر داخل الخلايا نفسها مما يسهل عمليات العلاج بشكل كبير».

وأضاف: «النانو هو تقنية المستقبل ليس في الجانب الطبي والعلاجي فقط وإنما في كل شيء يتعلق بالحياة في البيئة والزراعة والمياه والطاقة والعديد من مجالات الحياة»، مشيرا إلى تسارع العلم في هذه التقنية التي ستدخل في كل مناحي الحياة خلال سنوات قليلة، وتجب الإشارة هنا إلى التطبيقات الطبية المتعلقة بتقنية العلاج بالنانو والتي تساهم بشكل كبير في رصد الخلايا وتشخيص الأمراض، وسبل العلاج، وإعطاء الأوامر للخلايا لإفراز الهرمونات من خلال جرعات معينة وذلك لضبط الحالة الصحية للمرضى، وهي كلها أساليب شكلت ثورة علاجية خاصة مع الأمراض المستعصية والمزمنة، واستطاعت تحسين حالات الكثير من المرضى خلال السنوات القليلة الماضية».

 

 

 

 

font change