بعد 30 عاماً... صحوة أهل الخرطوم على القراءة

مبادرات لتشجيع شغف الاطلاع ومداواة جروح الحروب بالمعرفة

القراءة في السودان جزءا ﻻ يتجزأ من ضروريات الحياة اليومية

بعد 30 عاماً... صحوة أهل الخرطوم على القراءة

الخرطوم: يُعرف عن السودانيين شغفهم بالقراءة والنهم لخبز المطابع، قبل أن تضطرهم الظروف السياسية والاقتصادية وعواصف الحداثة إلى التراجع أحيانا عن هذه الميزة القرائية المذهلة، بيد أن مبادرات حثيثة تقوم على المستوى الرسمي والشعبي لتجديد ألق الكتاب وإعادة القراء إلى المكتبات العامة.

وفي زمان يرويه كبار السن للأجيال الجديدة؛ أتاحت ظروف التعليم المجاني ووفرت المكتبات العامة واعتبار الخرطوم سوقا للقراءة لكثير من دور النشر مكانا للترويج والبيع، حتي صارت مقولة «القاهرة تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ»واقعا بلا جدال.

لكن بعد تلك السنوات الزاخرة بانتشار المعرفة، شهدت البلاد تدنيا في الاهتمام بالقراءة والاطلاع، انعكست على معارض الكتب، بصفة عامة وعلى صعيد الاقتناء والاهتمام الشخصي بالكتاب بصفة خاصة، لأسباب يسهب الناس في الإشارة إليها وتشريحها، إلا أنهم يجمعون على أن الظروف المعيشية والاقتصادية والاجتماعية التي أنتجتها الأحوال السياسية هي السبب الرئيسي لذلك التدهور، ويضيفون أسبابا أخرى مرتبطة بتطور التكنولوجيا وشيوع الثقافة المرتبطة بالإنترنت والهواتف الذكية.  

 

6 أكتوبر أكبر تجمع للقراءة في الخرطوم

 فالصحف التي كانت أول ما يثير شهية المواطن العادي بعد شاي أو قهوة الصباح، حل الرغيف وكيفية توفير ثمنه مكانها، وأصبح الكتاب ذلك الصديق الوفي، يدخل في مقارنات تفضيلية قبل التضحية بثمنه، ودفع بسؤال: هل ما زالت تلك الأهمية قائمة ومؤثرة؟

يقول يوسف حمد المدير العام لهيئة الخرطوم للصحافة والنشر، لـ«المجلة»إن الأهمية ما تزال موجودة وإن علاقة تليدة تربط السودانيين بالكتاب وصناعات الثقافة المختلفة.

وأكد أن هيئة الخرطوم للصحافة والنشر تعمل في مشروع طباعة ونشر الكتاب الورقي، باعتباره موقفا رسميا منحازا إلى صناعة الثقافة.

وقال: «بطريقة ما، نأمل في إبلاغ رسالة ما، هي أن رفاهية الشعوب وازدهار اقتصادها، بما فيه الاقتصاد الحياتي اليومي، لا يمكن أن يكتمل خارج فعل القراءة والثقافة، أو خارج تبادل المعرفة التي يوفرها الكتاب، ولم نجد قط من يدلنا على مجتمع نهض بشكل حقيقي خارج شرط الكتاب وصناعة المعرفة».

وأوضح أن الهيئة بدأت فعليا بالاشتراك مع اتحاد الناشرين السودانيين لإقامة معارض للكتاب في الهواء الطلق في الخرطوم بشارع النيل، وأن المعرض المقترح هو بمثابة تمتين لعلاقة تليدة َوقوية تربط السودانيين بالكتاب، ويضيف: «بغض النظر عن اندلاع الإنترنت، فإن الكتاب الورقي يحظى بجمهور واسع ونسب إقبال عالية، وحتى الآن لم تأت اللحظة التي نزعم فيها أن الإنترنت هو البديل».

وعلى ذات النسق، يقول الفاضل الشريشابي عضو مبادرة الإحياء والتجديد التي تتبنى إصدارات فكرية في مجالات مختلفة، إن القراءة تكمن أهميتها في استعادة ذاتنا وكياننا، وإن القراءة ساهمت في استعادة القراء للوعي، حيث لا تزال الخرطوم تقرأ، وأن مبادرتهم تستند على توطين القراءة في الحياة الشخصية للسودانيين من أجل توسيع قاعدة الفهم أو من أجل الحصول على معلومات حول موضوع ما أو التسلية أو رفع الحرج أو تلبية لتطور مهني للمرء أو استجابة للشعور بالواجب أو لإظهار حب المعرفة.

ورأى الشريشابي في حديثه لـ«المجلة»أن القارئ الجيد يكون مستعدا لأن يستفيد من القراءة ما يمكنه من هدم بعض ما كان يظنه ثوابت فكرية وإنشاء ثوابت جديدة، ولأن العلوم متجددة دوما والمعلومات تصبح قديمة، وقد ساهمت أندية القراءة في زيادة الوعي بأهمية التغيير.

وتظل النصيحة الذهبية قائمة: «اقرأ ما يفيدك، وإن استفزك! اقرأ ما يصدقك، وإن أوجعك! اقرأ ما يجعلك تفكر، وإن أجهدك! اقرأ ما يثير خيالك، وإن صدمك! اقرأ ما يجبرك على احترامه، وإن خالفك!».

كتب نادرة بأسعار رمزية

مبادرات لتنشيط علاقة السودانيين بالكتاب

وينظم السودان معرضا سنويا للكتاب تشارك فيه أعداد كبيرة من دور النشر المحلية والعربية، ويحظى المعرض عادة بإقبال واسع من الجمهور.

ومنذ سنوات تقوم مجموعة ثقافية باسم «عمل»على تنشيط علاقة السودانيين بالاطلاع وتبادل الكتب، وذلك بمعرض دوري باسم «مفروش»في ساحة صغيرة وسط الخرطوم، حيث يتم عرض وبيع الكتب الجديدة والمستعملة بأثمان رخيصة، ويؤم المعرض العديد من المثقفين وطلاب الجامعات من الجنسين.

وهنالك العديد من المبادرات في هذا الخصوص، حيث تنشط مؤسسة «الشبَّاك»الثقافية في تشكيل حراك جامع وشامل للتنوع والتعدد الثقافي السوداني، وبحسب وكالة السودان للأنباء فإن (الشبَّاك) انضمت في عام 2018 إلى سجل المبادرات في مجال القراءة والاطلاع كنافذة تعرض الكتب بأسعار في متناول اليد، وأحيانا أُخرى تعرض للقراءة مجانا، إضافة إلى بناء عدد من المكتبات في مناطق السودان المختلفة، بمساهمة أفراد ودور نشر.

وكانت الكاتبة إيماض بدوي قد أسست المبادرة التي تشتغل على برامج ثقافية، مثل الاهتمام بالكتاب السوداني عن طريق برامج تدشين الكتب السودانية واستعراضها بالمناقشة وتناولها بالدراسات النقدية.

وعلى صعيد المبادرات أيضا، تنشط الكاتبة الجنوب سودانية استيلا قايتانو ضمن مبادرة لجمع الكتب وإنشاء المكتبات العامة في مدن السودان البعيدة عن العاصمة الخرطوم.

وتقول قايتانو لـ«المجلة»إن بعض المناطق فاتها قطر الحداثة وما بعدها بسبب ظروف كثيرة جدا، منها التهميش والحروب والنزاعات والبعد عن مراكز الحضارة، ونعمل على إلحاق هذه المناطق بركب الحداثة، حتى لو تم ذلك بأدوات تقليدية في الوقت الحالي كالكتاب الورقي والمكتبة كمبنى ومكان يحقق استراحة ذهنية وروحية ونفسية.

وتضيف: «إن أدوات وأجهزة الحداثة لا يتم استخدامها في الغالب لتلقي المعارف الموجودة في الكتب وبالتالي تظل للمكتبات العامة أهمية فالمكتبات تفتح شهية الشباب ومن تركوا القراءة في وقت مبكر ويتحسسون الورق للمعرفة والمتعة».

وقالت إن المبادرة التي أطلق عليها اسم«اصنع فرقا بكتاب»لا تهدف إلى تجميع الكتب فقط وإنما بالتشجيع وتكوين نوادي القراءة ومناقشة الكتب وفتح نوافذ لرعاية الكتاب والمبدعين وللمنافسات، وأشارت إلى أن جزءا من المبادرة يشمل إنشاء المكتبة الإلكترونية لتشجيع الشباب.

وفي إجابتها على السؤال القديم المتجدد، الخبز أم الكتاب؟ تقول قايتانو إن المبادرة من أجل حل هذه الإشكالية ومن أجل التعامل مع هذه الظروف الصعبة التي يواجهها السودانيون بما فيها الكتًاب أنفسهم الذين يواجهون صعوبة في الحصول على المعارف، لذا قامت المبادرة على التبرعات والاستعارة والقراءة في نفس المكان وتوفير شراء الكتاب، وتغلبنا على هذا المحك بتوفير كتاب مجانا للجميع ومتاح في مكان مريح ومن حق الجميع الحصول عليه في كل مدن وقرى السودان، وتضمن تركيزنا على المناطق التي عانت التهميش والحروب لنقل الشباب من ميادين المعارك والحروب إلى ميادين الفكر والحوار والتداول السلمي.

وتشير الكاتبة قايتانو إلى أن المبادرة شعبية وليست نخبوية رغم مشاركة النخب فيها بالتبرع ولكن الجزء الكبير من مساهمات المبادرة تأتي من أسر سودانية عادية أو أشخاص غير لامعين في الوسط الأدبي أو الفني وبينهم نساء وأطفال، موضحة بأنه لا نية لاستخدام المبادرة في التجارة أو الحصول على عائد مادي، وأن التبرعات يتم استخدامها في شراء الكتب وتأسيس مكتبات في القرى والمدن البعيدة.

ورأت بأن نجاح المبادرة صنع منها مشروعا شعبيا لثورة الوعي التي كانت واحدة من شعارات ثورة ديسمبر عبر الاطلاع والقراءات العميقة لكل المنتوج الفكري والثقافي الموجود في الساحة، وأعربت عن أملها في إكمال المشروع وظهور نتائجه على أرض الواقع بعد سنوات.

معرض الكتب المتحرك في الخرطوم

صحوة أهل القراءة

من ناحيتها، تقول سارة حمزة الجاك، وهي قاصة سودانية أنتجت العديد من الكتب القصصية ومشاركة بحماس في مبادرات لتشجيع القراءة، إن «القراءة في السودان شهدت صحوة أهل الكهف، بعد 30 عاما تردد فيها أن لا وقت للقراءة فوصلنا لما نحن عليه الآن من كساح فكري يطغى على رسالتنا السياسية والثقافية والاجتماعية، أما الإعلامية فحدث ولا حرج».

وتضيف: «صحونا لنجد أن علينا الاستيقاظ من نومتنا المميتة ولا طريق لهذه اليقظة إلا عبر القراءة والكتاب بأي وسيط من الوسائط ورقيا كان أو إلكترونيا، موضحا أن ارتباط ملايين السودانيين بالإنترنت والهواتف الذكية لن يلغي حاجتهم للقراءة وحينها سيجدون الكتب تنير شاشات هواتفهم قبل أن تنير عقولهم، لكن السودان دولة لا تتمتع بكهرباء وإنترنت في كل بقاعها ما يجعل الكتاب الورقي هو الأكثر طلبا، فضلا عن مضار استعمال الهاتف لأوقات طويلة ومشروعية تداوله ما بين كاتب وناشر ومقرصن وسارق».

وترى الجاك ضرورة وجود الكتاب في المتناول، والعمل على تيسير هذا التناول عبر الدعم الحكومي أو النسخ الشعبية وغيرها من الطرق المعروفة وقد نبتكر طرقا حسب متطلبات المرحلة.

ولدور النشر رأي في هذه القضية، إذ تقول سناء أبو القاسم أبو قصيصة مساعد رئيس اتحاد دور النشر والتوزيع، إن الحديث عن تراجع انتشار الاطلاع واضمحلال سوق الكتاب لا يسنده الواقع، وإن الطلب على الكتب ما يزال مستمرا حتى وسط الشباب الذي يقول البعض إنهم مشغولون بأشياء أخرى.

وتشير أبو قصيصة وهي صاحبة دار «مدارات»لـ«المجلة»، إلى أن انتعاش سوق الكتاب والعرض لا صلة له بدعم حكومي وإنما هي جهود من دور النشر ومبادرات شعبية، حيث لا تزال معوقات الطباعة ماثلة.

وتحدثت عن مبادرة النادي السوداني للكتاب الذي يحظى بمشاركة ما لايقل عن 1500 عضو على «فيسبوك»، موضحا أن المبادرة أظهرت أن قراء الكتب في تزايد لكنها عابت استسهال صدور العديد من الكتب التي لا ترتقي إلى مستوى القارئ السودان الذي يمتلك مهارات وثقافة واسعة تتطلب انتقاء الكتب بعناية وتجويد الطباعة والنشر.

وذكرت أن المبادارت السائدة قد أسهمت بفاعلية في انتشار ثقافة الاطلاع وتشجيع القراءة وتسويق الكتب.

font change