الخيامية.. السير عبر ألف عام مضت

السوق الوحيدة في القاهرة التاريخية المسقوفة بألواح خشبية ومغطاة بالزخارف

الخيامية

الخيامية.. السير عبر ألف عام مضت

كثيرة هي الأماكن التي تجذبك أثناء سيرك في ربوع القاهرة التاريخية والتي تحمل الكثير من عبق الماضي، ويتوه نظرك بين مختلف الآثار وتاريخها، فكل بناية لها ماض وتاريخ يعود إلى مئات السنين.

ورغم أن كل شارع وبناية يحمل حكاية، بل حكايات خاصة به، فإن شارع الخيامية يحمل الكثير من المميزات الخاصة، فهو ما زال يحمل اسم صناعة امتدت على مدار مئات السنيين ما زالت تحتفظ ببعض بريقها، رغم سطوة التطور الحداثي على كل مناحي الصناعات الحرفية، التي كانت تتميز بها القاهرة التاريخية.

وتعتبر مصر الدولة الأولى التي وجدت لديها هذه الحرفة التي تعني صناعة الأقمشة الملونة، وترتبط في ذهن الكثيرين بالأقمشة المزخرفة التي تستخدم في عمل السرادقات.

رحلة عبر الزمن

وبداية من دخولك من باب زويلة التاريخي تبدأ رحلتك داخل سوق الخيامية حيث تشعر وكأنك تمر عبر التاريخ القديم في فترة زمنية قد تصل إلى أكثر من ألف عام في واحدة من أشهر أسواق القاهرة التاريخية، التي تكاد تكون السوق الوحيدة المسقوفة بألواح خشبية ومغطاة بالزخارف التي تتسلل منها أشعة الشمس الدافئة في الشتاء وتتسلل منها أيضا نسمات الهواء العليل في الصيف، فلا تشعر فيها ببرودة الشتاء ولا بحرارة الصيف، وكأنها صممت لتخلق جوا بديعا من السكينة والهدوء يزيد من جماله تناسق الألوان والزخارف البديعة التي تزين نحو 30 محلا على الجانبين، يجلس بها أصحابها وعمالها في هدوء ينهمكون في صناعتهم الدقيقة أو ينتظرون زبائن يقدرون قيمة أعمالهم الحرفية.

هذا الشارع الذي قد لا يزيد على 100 متر، يحكي قصة تاريخ طويل من صناعة الخيام والسرادقات يرجعها البعض إلى عصر الفراعنة، حيث أشار العالم الفرنسي الشهير جاستون ماسبيرو، في كتابه «المومياوات الملكية»، أنه تم اكتشاف سرادق من الجلد مع الأسرة الواحدة والعشرين وهو يعد من القطع الفنية النادرة بطريقة الإضافة (الخيامية) التي عثر عليها في خبيئة الدير البحري، فيما أشار آخرون إلى استخدامها في العصور اليونانية والرومانية والبيزنطية، حيث تنوعت أشكال الخيام وأنواع خامتها المختلفة والرسوم التي كانت تعكس ثقافة كل عصر واهتماماته.

أثر الثقافة الإسلامية

لكن في شارع الخيامية يظهر أثر الثقافة الإسلامية التي ازدهرت فيها هذه الصناعة وغيرت مسارها، خاصة في أيام الدولة الفاطمية، التي خصصت لها شارعا يحمل اسمها، وتنعكس الثقافة حتي في زخرفة المحلات التي تعكس الماضي بكل ما يحمله من فنون، فالورش تقع في طابقين: أرضي وهو الذي يتم فيه البيع والشراء وتعرض فيه البضاعة، والأول وأغلبه مغلق وكان يستخدم قديما مكاناً لمبيت التجار، الذين يأتون من البلدان المختلفة لشراء بضاعتهم من الخيام أو تصليح خيامهم.

وأثناء سيرك في الشارع، الذي يتسم بالهدوء، تجد الكثير من التجار والصناع منهمكين في صناعة الخيامية التي لم تعد تقتصر على صناعة الخيام والسرادقات، وإنما امتدت لتشمل المفارش ووسائد الجلسات العربية والكليم اليدوي.

وتعتمد الخيامية على زخرفة القماش وحياكة التصميمات المختلفة على الصواوين والخيام واللوحات والوسائد والمفارش وغيرها، وتستخدم خامات مختلفة في الصناعة كالقطن أو الصوف والحرير والستان والقطيفة والتيل إضافة الى أقمشة القلوع والجلود الرقيقة ويتم استخدام كل منها تبعاً لنوعية التصميم والطلب عليه وهو ما تظهر فيه مهارة الصانع في رسم ما يشبه لوحة على قطعة القماش.

تشكيلات متنوعة

وتهيمن «الموتيفات» الإسلامية بتشكيلاتها المتنوعة من النجوم والأشكال الهندسية، على هذه الصناعة ويقوم صناع الخيامية باستخدامها عبر أنماط متنوعة من التكرار والتداخل والتشابك والتناظر والانعكاس والتدوير بانتظام في نماذج تتخللها أحيانا آيات قرآنية أو حكم شعبية ووحدات أخرى تعكس الواقع الشعبي وتشترك فيها عناصر الطبيعة المختلفة.

ويفخر صناع الخيامية بأنهم كانوا يتشرفون بصناعة كسوة الكعبة المزينة بخيوط الذهب والفضة، التي كانت تقوم مصر بتصنيعها حتى فترة ستينات القرن الماضي وإرسالها للحجاز في موكب مهيب يعرف باسم «المحمل»، فضلا عن صناعة الخيام للأمراء والسلاطين الذين كانوا يطلبون أشكالا ورسوما بعينها.

وتنعكس الثقافة الإسلامية على هذا العمل اليدوي حيث يكتب لفظ الجلالة والآيات القرآنية واسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، والأئمة وآل البيت خاصة في أقمشة الأضرحة والمعلقات الحائطية.

 

تنويع المنتجات

وحرص الخيامون علي التغلب على قلة الزبائن فعملوا على تنويع منتجاتهم، وأصبحوا يهتمون بصناعة المفارش والستائر علاوة على ملابس وحقائب السيدات وتنجيد أطقم للجلوس، فضلا عن التنورة المستخدمة كزي للراقصين الشعبيين في الطقوس الصوفية وصناعة السجاد والكليم اليدوى والتي تجذب الكثير من الزبائن خاصة من السياح الأجانب والعرب.

ويمثل شهر مضان موسما رئيسيا للخيامية بعدما انتشرت ثقافة استخدام الأقمشة المزينة لاستخدامها في الخيام الرمضانية وسرادقات موائد الرحمن وواجهات المحلات والمطاعم، لكن هذا العام والعام الماضي تعرض هذا الموسم لأزمة كبيرة بسبب كورونا، بعدما تم منع الكثير من هذه المظاهر، واقتصرت عمليات البيع على الأفراد الذين استعاضوا عن هذا المنع بتزيين منازلهم وتأثر حركة البيع في السياحة.

خامات الصناعة

ويعتمد الصناع في خامتهم على الأقطان والكتان وقماش (التيل)، حيث يقومون بتخريم الرسم فوق القماش، ثم توضع بودرة لطبع الرسم على القماش، ثم التطريز اليدوي، وقد تستغرق القطعة الواحدة أياما وأسابيع وأحيانا شهورا حسب التصميم، فمنه رسومات فرعونية أو إسلامية، بالإضافة إلى الآيات القرآنية والمناظر الطبيعية، فضلا عن المفارش ووسائد الجلسات العربية، ووحدات إضاءة وعناقيد للزينة، فيما تتم إضافة بعض المجسمات المزينة بأقمشة الخيامية التي تناسب رمضان مثل عربات الفول، والترمس، والبطاطا، ومدفع الإفطار.

ومن الصعب أثناء تجولك في هذا المكان أن تمنع نفسك من شراء أي منتج، فالألوان الباهرة تخطف أنظارك وتنقلك وسط أجواء فلكورية يضفيها نسق المكان إلى ماض تشعر بلمسات الجمال تشكل ملامحه وتنقلك إليه وكأنك قد رحلت عبر آلة الزمن.

font change