العلاقات التونسية- الليبية... استفاقة متأخرة لتونس

أنظار التونسيين تتجه إلى ليبيا لتفادي انهيار دولتهم

رئيس وزراء تونس ونظيره الليبي خلال المؤتمر الصحافي الذي عقد في العاصمة الليبية طرابلس

العلاقات التونسية- الليبية... استفاقة متأخرة لتونس

تونس: يدري رئيس الحكومة التونسي هشام المشيشي، بل هو اليقين لديه، أن زيارته على رأس وفد ضخم إلى العاصمة الليبيّة، تمثّل الفرصة الأخيرة، أو في أقلّها من أهمّ الفرص المتاحة أمامه، للنهوض باقتصاد بلده. النجاح أو الفشل يتجاوز البعد الاقتصادي المباشر، ليرتدّ مهما كانت النتيجة على مجرى الصراع بين قطبي السلطة التنفيذيّة في تونس. حرب استعمل فيها كلّ من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة جميع الأسلحة دون محرّمات، وعلى رأسها انتهاز زلاّت المنافس وتضخيمها إلى أقصى حدّ. ممّا يعني أنّ نتائج الزيارة ستكون سيفا بيد رئيس الحكومة أو سيفا عليه في خدمة رئيس البلاد.

عمل هشام المشيشي طوال الزيارة التي دامت يومي 22 و23 مايو (أيار) 2021 على «صناعة» صورة تبدو أفضل ما يكون أمام الشعب التونسي. نقلت وسائل الإعلام التونسية التي غطّت الزيارة، التصريحات «الرنّانة» من الطرفين، وشاهد الجميع رئيس حكومتهم يمسك بيد مضيّفه رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة. كما جاء السعي من الجانب التونسي إلى انتزاع أفضل الوعود، ردّ عليها أهل البلد بجميل القول.

بمجرّد العود إلى تونس وحتّى قبل أن تحطّ طائرته في مطار تونس قرطاج الدولي، وجد رئيس الحكومة ذاته تحت وابل من «النيران الصديقة»، التي أجمعت على «تفتيش حقائبه» بحثا عمّا قال أنصاره إنّها «نتائج ملموسة»، في حين اعتبر عضو مجلس نوّاب الشعب مبروك كورشيد أنّ الأمر لا يعدو أن يكون سوى «كلام بكلام»، خاصّة وأنّ الزيارة لم تشهد سوى إمضاء اتفاقية يتيمة، تخصّ مجال النقل. أسامة الخريجي الوزير المستشار لدى رئيس الحكومة صرّح أن اللجان المشتركة بين البلدين بصدد الاجتماع، ورفع توصيات إلى أصحاب القرار السياسي في البلدين، كما تمّ التأكيد من تقديم وديعة بالبنك المركزي التونسي بقيمة مليار دولار. وهو مبلغ، في حال دخوله خزينة البنك المركزي قادر على تعديل كفّة الاقتصاد التونسي المنهار، ومن الأكيد أن الطرف التونسي، سيراها ويقدّرها في صورة الردّ الفعلي على المماطلة التي يبديها صندوق النقد الدولي، والتي تأتي أقرب إلى الرفض وتمكين تونس من القروض التي تريدها وبالشروط التي تريدها.

هل يتحوّل الجار الليبي وهو الشريك العربي الأوّل على مستوى المبادلات التجاريّة، إلى أحد أهمّ المصادر التي ترجوها تونس للحصول على السيولة اللازمة لسدّ العجز في الموازنة، وأيضًا (وهذا الأخطر) لتفادي انهيار الدولة وعجزها عن تسديد أجور العاملين في القطاع العام.

الرئيس التونسي قيس سعيد يلتقي بالرئيس الليبي الجديد للمجلس الرئاسي، محمد المنفي في العاصمة الليبية طرابلس، يوم 17 مارس 2021 (غيتي)

قيس سعيّد: الحاضر/ الغائب

لم يفوّت رئيس الوزراء التونسي فرصة زيارته إلى القطر الليبي للغمز في اتجاه خصمه اللدود رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد، حين أكّد أنّ «تونس بلد يرحبّ بالاستثمار» في إشارة نفي ورفض لما صرّح به غريمه إلى قناة «فرانس 24»من أنّ «المناخ السياسي في تونس الآن غير سليم وغير مشجع على الاستثمار»، علمًا أنّ الرئيس التونسي سبق وأن أدّى زيارة إلى ليبيا، في شهر مارس (آذار)، لم تلق ذات التغطية الإعلاميّة التي لاقتها زيارة المشيشي، وأكثر من ذلك، كانت زيارة ذات طابع سياسي بحت دون أدنى بعد اقتصادي.

«جيش» مرافق

عمل فريق الإعداد في رئاسة الحكومة في تونس، على أن تكون زيارة رئيسها إلى طرابلس ذات فوائد ومجزية على أكثر من وجه. لذلك تضمّن الوفد الذي انتقل إلى العاصمة الليبية رفقة هشام المشيشي أغلب وزراء حكومته، ورؤساء منظمات الأعراف والعمّال والفلاحين، بمعيّة ما يقارب مائتي رجل أعمال وعدد هام من وسائل الإعلام التونسيّة. «هجوم» أشارت إليه أغلب وسائل الإعلام التونسيّة واعتبرته دليلا من رئيس الحكومة على الرغبة في العود بأوفر «صيد» من هذه الدولة الشقيقة.

من جهة أخرى، يعلم هشام المشيشي وكامل الوفد المرافق له، خاصّة رجال الأعمال أنّ صورة ليبيا القديمة قد انقضت دون رجعة. ولم يعد هذا القطر الشقيق تلك الدولة البترولية ذات الموارد النفطية الضخمة التي لا تتورع عن استيراد السلع بكميات خيالية وبيعها لمواطنيها بأسعار جدّ مدعّمة، مما أفرز حركة تهريب ضخمة جدا نحو الدول المجاورة، بل صارت ليبيا بعد عشر سنوات من عدم الاستقرار وحرب أهلية شديدة العنف، تفكر في ترشيد الدعم والشروع في التخلّي عنه. كما نادت قيادات ليبية عديدة بضرورة تأسيس صناعة محليّة لتشغيل الليبيين وامتصاص البطالة المتفشية.

هل تقدر تونس على منافسة الدول الكبرى ذات الإمكانيات الاقتصاديّة المتميّزة وخاصّة التي ترى لذاتها مصالح كبرى في ليبيا؟ عند هذه النقطة جاءت تصريحات رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا عبد الحميد الدبيبة «جدّ مطمئنة»، حين ألحّ في الآن ذاته على «المكانة الخاصّة» لتونس لدى القيادة الليبية وثانيا، والأمر لا يقلّ أهميّة، أنّ لهذه الدولة الجارة «نصيب» من مشاريع «إعادة إعمار ليبيا»...

تاريخيا، شكّلت ليبيا الرئة التي يتنفّس من خلالها كامل الجنوب الشرقي التونسي، حيث تمثّل التجارة وفي نصيب أكبر بكثير التهريب، النشاط الأوحد والوحيد لسكّان منطقة واسعة جدّا، لم تعرف استثمارات تُذكر من قبل الدولة أو القطاع الخاص. من ذلك يرتبط استقرار هذه الجهة ارتباطا وثيقا بما هو «نبض» العلاقة مع ليبيا، سواء على مستوى تصدير البضاعة المحليّة، من خضراوات وغلال وأنماط من الصناعات المحليّة، أو استعمال موانئ ليبيا معبرًا لاستيراد بضائع مهرّبة إلى تونس، تغذّي الاقتصاد الموازي الذي خنق أو يكاد الاقتصاد التونسي المنهك منذ عشر سنوات على الأقلّ.

 

على الحدود بين تونس وليبيا يزدهر تهريب الوقود

أبعد من السياسة... أعمق من الاقتصاد

شدّدت قيادات ليبية عديدة منذ تشكيل الحكومة الراهنة، على أهميّة الأمن الإقليمي، وأكدّوا أنّ ليبيا ستتحوّل إلى عامل استقرار في المنطقة بعد أن شكّلت على مدى عشر سنوات بؤرة توتّر، إن لم نقل تهديدا لدول الجوار.

من ذلك، جاءت تصريحات رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا عبد الحميد الدبيبة «مطمئنة» للدولة الجارة تونس، بأن يكون لها من هذه «الكعكة» نصيب، يعلم التونسيون أنّه لن يشكّل «نصيب الأسد» لأسباب أهمّها:

أوّلا:أن تونس رغم علاقة الجوار والعلاقات التاريخيّة الوثيقة مع ليبيا، لم تكن ذلك الفاعل «صاحب الوزن» في الصراع داخل هذا القطر الشقيق، الذي دام عشريّة كاملة، بل كثيرا ما اتهمت حكومة طرابلس تونس بأنها «مصدر الإرهابيين»، ليردّ الجانب التونسي تهمة «تصدير الإرهاب» إلى حكومة طرابلس.

ثانيا:عديد الدول ذات المصلحة في ليبيا سواء بسبب موقع هذا البلد الاستراتيجي، على جنوب المتوسط أو الثروة النفطيّة، تأتي ذات قدرات اقتصادية معتبرة وقدرات تكنولوجية، وخاصّة ذات قدرة على التمويل، جميعها دون استثناء أفضل بكثير ممّا للجانب التونسي.

ثالثًا:علاقة الجوار وإدراك الجانب الليبي جيّدا أنّ أيّ «عدم استقرار» على الجانب التونسي، قد يكون شديد الخطورة على الاستقرار الليبي بالمفهوم الاستراتيجي. الاستقرار لا يزال مهدّدًا... أمر دفع إلى إجراء تعديلات بسيطة على شروط «توزيع الكعكة»، لتمكين تونس ممّا هو أكبر ممّا يعود إليها بحكم الموازين على الأرض.

أستاذ الاقتصاد بالجامعات التونسيّة والوزير السابق محسن حسن

قراءات متكاملة ومتناقضة أحيانًا

كما تختلف القراءات السياسيّة، تتضارب القراءات والتقديرات لهذه الزيارة. «المجلّة» استجوبت أصحاب آراء متباعدة أحيانا ومتقاربة أحيانًا أخرى..

أستاذ الاقتصاد بالجامعات التونسيّة والوزير السابق محسن حسن، يرى قبل كل شيء «وجوب الاعتراف بالزخم الإعلامي الذي صاحب الزيارة وهذا نجاح في حدّ ذاته. كما وجب النظر إلى العدد الكبير لرجال الأعمال وبصفة أعمّ مشاركة المنظمات الثلاث الكبرى، منظمة الأعراف، نقابة العمال واتحاد الفلاحين، التي تقدّم صورة ممتازة عن التماسك الداخلي»، قبل أن يضيف أنّ «النظرة التونسيّة الصائبة تنبني على أساس المكانة الاستراتيجيّة للدولتين الجارتين»، مع إصرار على أنّ «خروج تونس من أزمتها الحاليّة، يستحيل خارج تثمين العلاقات مع الجارتين، وأساسا تسريع المبادلات التجاريّة بإزالة الحواجز، وكذلك مراجعة الاتفاقات القائمة قبل تفعيلها»، مذكرا أنّ الليبيين يصرفون ما يقارب 315 مليون دولار سنويّا في تونس، بل إنّ النموّ في تونس وصل في فترة إلى قرابة 3 في المائة، من بينها 0.6 في المائة بفعل العلاقات مع الجارة الجنوبية...

 

 

 

الكاتب والمحلّل السياسي التونسي منذر بالضيافي

الكاتب والمحلّل السياسي التونسي منذر بالضيافي، والذي كان ضمن الوفد الإعلامي الذي قام بتغطية الزيارة، يرى «أنّ قراءة وضع كلّ من الحكومتين واجب قبل تقييم الزيارة أو الحديث عن نجاح أو فشل» قبل أن يضيف: «الحكومتان تعمل كلّ منهما تحت ضغط كبير. حكومة الوحدة الوطنية ذات أفق لا يتجاوز تأمين الأوضاع من أجل تنظيم انتخابات آخر السنة، في حين أن الحكومة التونسية تعمل بنصف أعضائها وفي مناخ يسوده ضغط داخلي كبير. من ثمّة يمكن القول إنّ الزيارة نجحت في تحقيق بعض المكاسب في حدود الممكن المذكور»، قبل أن يختم أنّ «الزيارة غلب عليها البعد السياسي، وهي أقرب إلى أرضيّة صلبة يمكن التأسيس عليها، وفق رؤى ذات بعد استراتيجي»، معترفًا في الآن ذاته أنّ «السياسة الخارجيّة في تونس استفاقت مؤخرًا، لكن الحظوظ تبقى متوفّرة لإقامة شراكات استراتيجية ودائمة».

زهير طابة، صحافي تونسي مقيم في كندا ومتابع للشأن الاقتصادي يرى أنّ «تونس غير معنية بإعادة الإعمار في ليبيا، وادعاء خلاف ذلك مبالغة كبرى لا تجوز، حيث لا تملك تونس إمكانيات الدول الكبرى، التي فازت بالعقد الأهمّ. دليل ذلك أنّ الشركات التونسيّة التي نسمّيها (كبرى)، كانت ولا تزال منذ زمن القذافي، لا تنال سوى عقود من الباطن». قبل أن يضيف أن «الليبيين ضغطوا رغبة في استرداد أموال مهربّة من بلدهم، مع العلم أنّ نسبة عالية تدور خارج المسارات المصرفية، ليأتي قرار تمكين الليبيين من تملك المساكن وسيلة لضخّ هذه الأموال في القطاع العقاري».

هذا فيما يعوّل سكّان الجنوب الشرقي في تونس ويراهنون على التهريب الذي لم ينقطع يومًا في الاتجاهين لتحريك عجلة اقتصاد هامشي، لم يعرفوا غيره منذ الولادة.

font change