«مسبحة الرئيس - هجائيات أشعلت ثورة» للشاعر عبد الرحمن يوسف

«مسبحة الرئيس - هجائيات أشعلت ثورة» للشاعر عبد الرحمن يوسف

[caption id="attachment_55250041" align="aligncenter" width="618"]غلاف الكتاب غلاف الكتاب[/caption]

في رحلة عكسية نادرة لم تحصل إلا قليلا جدا في عالم الشعر، وهو أن يستدين النصّ تأثيره من العالم الخارجي، بينما النص مفتقد لأبسط أدوات هذا التأثير، وأقلها الصورة أو الإيقاع. هكذا، انتشر الشعر السياسي، في العقدين المشار إليهما لا بصفته اشتغالا من داخل اللغة، بل بصفته فائضا حركيا مستمدا من العالم الخارجي. وهي مسألة لم ينج منها إلا محمود درويش، من خلال «أسطرة» الموضوع الشعري، فانتقل المعنى لديه من أثر تمنحه الجماعة، إلى قوة لفظية مشحونة بالإشارة والتخيّل والتزيين.

وبعد أن حسمت الحداثة الشعرية العربية، قضية الشعر السياسي، وفي شكل جذري، وخصوصا مع شعر التسعينات، لا يزال الشعر السياسي، في مضامينه، مستمرا. وللمفارقة، فإن استمراريته، تلك، استمدّت أدواتها الستينية ونمطها الجماهيري، دون أن تبدو عليها ملامح القلق الأسلوبي الذي رسّخته الكتابة الجديدة، العربية. ككتاب «مسبحة الرئيس - هجائيات أشعلت ثورة»، دار الشروق، القاهرة، 2013. للشاعر المصري عبد الرحمن يوسف. إذ يبدو من الهجائيات التي اتخذت من الغلاف تكئة دلالية مباشرة، أن الرسالة ذات مضمون غير مستمد من إنجازات اللغة الشعرية العربية، ولم تتشارك معها قلقها وأسئلتها، بل لم تكن توجد معها في الفضاء نفسه. وليس السبب، قطعا، بالبيت الشعري أو تقفيته أو بحوره أو تفعيلاته. بل في النمط الشعري ذاته الذي بقي محصورا في التعبير، والحركة المثقلة بمضامين تولّت إخراجها وقولبتها المباشرة، والمساحة المحدودة ما بين اللفظ والمعنى.

اختار عبد الرحمن يوسف تقليص أي مساحة ما بين اللفظ والمعنى، ليكون الأخير امتدادا فوريا للأول، دون أن يكون للتصوير أو الاشتغال اللغوي أي مكان على مساحة النص: «صرتُ من جوعي في السجون نحيلا» ص 38. فهذا الصدر يعكس تقليص المساحة ما بين اللفظ والمعنى إلى الحد الأقصى، كما لو أن الجوع في السجن، شعريا، لا يمكن أن يولد إلا النحول! ومثله في تلك الهجائية: «بالأمس كم لوّحتَ بالإرهاب/ في بلداننا وكأنها فزّاعة» ص64. في لغة مباشرة قلّصت أي مساحة ما بين الدال والمدلول، ليكون دور اللغة مجرد نقل لمضامين أو لمحتوى «سياسي» هجائي لم يأت بجديد، خصوصا أن الهجائيات في الشعر العربي، تراثٌ فني غني لجهة الأدوات والأنماط التي تفرعت عنه. من الشعر الجاهلي، إلى دعبل بن علي الخزاعي، إلى المتنبي، كانت الهجائيات مزيجا فريدا من تعظيم الذات، في مقابل تغييب الآخر، أو تحجيمه أو التقليل العنيف من شأنه. عبر لغة تتحرك ما بين التفريط بمزايا الآخر، مقابل الإفراط بمزايا الذات. أمّا هجائيات عبد الرحمن يوسف فهي تفريط بالأدوات الشعرية نفسها وابتسارها على جانب واحد من عالم اللغة وهو التعبير، وإعدام المساحة التي تفصل ما بين الدال والمدلول. وإلا كيف يمكن نشر مثل هذه الجملة: «تعدّ التقارير زورا فزورا لنخرس عدل القضاة/ ندور كجاموسة في السواقي لنثبت ظلم الطغاة»؟ ص79. أو هنا: «الخير والشر دوما في مصارعة/ والصبر يملأ بئر العزم إن نضبا». ص 14.

تستمر لغة الشعر السياسي، عند يوسف، مستعيرة نظام تدمير الآخر، أو الخصم، أو العدو الآيديولوجي، إنما من دون سياق تاريخي يمنحها تلاؤما ما يبرر نمطها غير المتداول، والمفتقد للتأثير الجمالي لسببين رئيسين، أولهما بسبب المدرسية الطاغية في نظام التعبير الذي أسلفنا بأنه تقليص مفرط للمساحة ما بين الدال والمدلول، مثل: «ليل تحكم في الخليقة ظالما/ والشعب في الظلمات تاق صباحا» ص22. ومثل: «يا من رضعت الكذب في كل الظروف رضاعة/ ناور بتعديل القوانين البغيضة زاعما أن الخضوع شجاعة»، وسوى ذلك كثير بين دفتي الكتاب. وثانيهما اقتصار الدلالة الهجائية على المدلول، وحسب، لا على دوال. وبذلك يكون النص عند الشاعر مجرد منصة لإطلاق موقف أو إمرار معنى ومضمون، دون أدنى جهد فني أو بلاغي ممكن. حتى ليبرز سؤال عن تلك المبالغة التقييمية التي قدمها كاتب النصوص بنفسه في مقدمة الكتاب، حيث يقول متحدثا عن نفسه: «.. دواوين الشاعر منعت في سوريا وتونس وفي كثير من الدول العربية، وأصبحت توزع كمنشورات سرية بين النشطاء ومحبي الشعر». من المقدمة ص7. ثم يضيف متحدثا عن نفسه: «في هذا الديوان سترى أطياف سلالات من المعارضين، من السياسيين والشعراء، وستتأكد أن الشعر دائما يثور أولا». وأن قصائده عبّرت: «عن طموحات جيل جديد». أي أن النص ذاته لم يتكفل بإطلاق المواقف كلها فأتت المقدمة لإتمام التعبير والمطابقة ما بين الدال والمدلول، إنما كزعم أو تقييم متضخم لتجربة محدودة.

الشعر السياسي، في عقدي الخمسينات والستينات، كان صراعا آيديولوجيا في المقام الأول. خصوصا في الوقت الذي كانت فيه الأفكار متعسكرة ما بين فريقين متصارعين حول اليمين واليسار. فكانت لغة الشعر السياسي ذات مضمون حزبي حالم، بغض النظر عن القيمة الممنوحة له أو غير الممنوحة. إنما، بصفة عامة، الشعر السياسي هو الأقل قيمة ما بين أنماط الكتابة الشعرية. بسبب ارتهانه للمضمون والموقف الشعري، أكثر من اشتغاله على اللغة والإخلاص للبنية الفنية. من هنا، كان وضع كلمة «هجائيات» على الغلاف، صحيحا ونوعيا. لكن الزعم فيها تأصل، عندما يقول الغلاف: «هجائيات أشعلت ثورة». لأن دور الهجاء لا يتجاوز حد التقليل من شأن الآخر، أو الخصم، أو قض مضجعه أو إيقاع الأذى به، كما فعل المتنبي بكافور. أما أن يكون للهجاء أن يشعل ثورة، فهذا ليس فقط من خارج اللغة الشعرية، بل من خارج الواقع.

بالإضافة إلى الأزمة البنيوية في الشعر السياسي، من حيث كونه ليس اشتغالا من داخل اللغة، بل من خارجها، هناك أزمة المنبرية التي تلتصق بالشعر السياسي التصاقا وثيقا. فالشعر السياسي الذي يفترض المناسبة، فهو يفترض المنبرية، أيضا، للارتباط الذي يجمع بين هذه المستويات كافة. ومع أن المنبرية مسألة فنية قبل أن تكون من خارج النص، فإنها عادت في كتاب «مسبحة الرئيس»، ذلك أن انعدام الاشتغال على اللغة وغياب القلق الأسلوبي، لا بد سيترك فراغاً لن يملأه إلا التعبير والمحتوى الذي هو المضمون الذي يتشكل بمجرد التقاء الدال بالمدلول، كما في ذلك النص الذي يرثي الروائي نجيب محفوظ: «دمعي، وهل تكفي الدموع الحاليات لأبكيك/ أتقنتُ كل بحور شعر العرب حتى أرثيك/ ووددت لو أتقنت كل أشكال القتال لأحميك» ص91. أو هنا، عندما تتنازل الشعرية عن كل أدواتها لصالح المضمون والتطابق ما بين الدال والمضمون، خصوصا في هذا المقطع الذي تتقفى فيه أواخر الأسطر، في إيقاع استطرادي ينتج بعضه من بعض: «ابن وأب/ ذَنْب وذَنْب/ لا تسألوا عن السبب/ هذا قضاء وقدر/ قضى من الأرض الوطر/ به اليقين قد وجب/ ولا تسل عن النسب» ص55.

نجح عبد الرحمن يوسف في تقليص المساحة ما بين الدال والمدلول، لتكون الكلمة مجرد دال مباشر على شيء ما، على عكس الشعر، وغير ما تريده المواهب من اشتغال داخل اللغة يحول الكتابة مساحة مفتوحة ما بين اللفظ والمعنى، لا تقليصا للمسافة بحيث يكون الصوغ الشعري مجرد منبرية تتسلق المناسبة في العالم الخارجي لإمرار كتابة لا يتعرّف إليها الشعر.
font change