العراق يستنسخ التجربة المصرية ويدشن عاصمة إدارية جديدة

بغداد المتخمة بالسكان والزحام تبحث عن التحرر عبر مدينة «الرفيل»

مدينة «الرفيل» تعد المشروع الأول من نوعه في العراق

العراق يستنسخ التجربة المصرية ويدشن عاصمة إدارية جديدة

القاهرة: يسير العراق بخطى حثيثة على الطريقة المصرية في مواجهة الارتفاع المتواصل لأعداد السكان، بإنشاء مدينة الرفيل، كعاصمة إدارية جديدة، تضم الكيانات الحكومية، جنبا إلى جنب مع مشروعات سكنية وترفيهية وإدارية، لتخفيف الضغط على العاصمة بغداد.

وقد بدأت الحكومة العراقية التفكير في استحداث عاصمة جديدة قبل ثلاث سنوات، واختارت منطقة في جنوب بغداد لتدشين المشروع العملاق الذي يمتد على مساحة 106 آلاف كيلومتر مربع، ويشتق اسمه من أحد الأنهار العراقية القديمة المعروفة في العصر العباسي باسم «نهر عيسى»، نسبة إلى عيسى بن العباس، عم باني بغداد أبو جعفر المنصور.

ومن المخطط تنفيذ المشروع على 4 مراحل، تتضمن المرحلة الأولى فيه إنشاء مجمعات متعددة الأغراض بين سكنية وإدارية وترفيهية وخدمية بمساحة 16 ألف كيلومتر، تسهم بإجمالي 75 ألف وحدة سكنية تكفي لتسكين  300 ألف نسمة، بينما تتضمن المراحل الثلاث الأخرى أنشطة توفر الآلاف من فرص العمل في المشاريع الصناعية واللوجيستية المجاورة لمطار بغداد، ومجموعة من الأنشطة الزراعية الغذائية الصديقة للبيئة.

ويهدف المشروع إلى خلخلة الكثافة السكانية في بغداد التي تراجعت داخلها الخدمات بشكل خطير بعد ارتفاع عدد سكانها ليتراوح بين 8 و9 ملايين نسمة، وربما يكون ذلك أحد الأسباب في اختيار موقع الرفيل قرب مدينة بسماية السكنية، التي تم تدشينها قبل 18 عامًا على بعد 20 كيلومتراً من بغداد وتم استكمال أعمال البناء بها أخيرًا، ليتكامل المشروعان معًا ويشكلان مدينة عملاقة.

ويشير الموقع المختار للعاصمة العراقية الإدارية الرغبة في توفير جميع المقومات لنجاحها، فبالقرب منها منطقة المدائن التي تضم آثارًا هامة أبرزها طاق كسرى وقبر الصحابي سلمان الفارسي، مما يجعلها جاذبة للسياحة ويوفر المبالغ المالية اللازمة لإنشاء متحف كأحد العناصر الأساسية في العواصم الجديدة، بجانب اقترابها من مطار بغداد الدولي الذي يسهل الانتقال إليها.

كما تبتعد مسافة قليلة عن موقع بناء المدينة الرياضية، المهداة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى الشباب العراقي، والتي سيتم تنفيذها بواسطة الشركة العالمية POPULOUSقرب منطقة بسماية، وتضم ملعبًا سيتم تصميمه بطريقة شبيهة بنادي توتنهام الإنجليزي.

ويملك العراق الإرادة السياسية لتنفيذ المشروع رغم الأزمات المالية والسياسية والأمينة التي حالت دون تنفيذه منذ عام 2018، خاصة بعد نجاح التجربة المصرية في تمويل العاصمة الإدارية، وتحديد موعد انتقال أول دفعة من موظفي الوزارات الحكومية إليها في أغسطس (آب) المقبل.

ناظم: مشروع مدينة الرفيل يعد أحد المشاريع التي تعول عليها الحكومة بتنشيط القطاع الخاص

تجربة متشابهة

وزار وفد عراقي ضم نائب رئيس الحكومة وخمسة وزراء، بجانب عدد من المسؤولين الحكوميين، العاصمة الإدارية الجديدة بمصر، أخيًرا، وتفقدوا الحي الحكومي ومنطقة الأبراج السكنية ومدينة الفنون، كما شاهدوا عرضًا تقديميًا حول تفاصيل مشروعات العاصمة، والفوائد التي تعود على الاقتصاد القومي من تدشينها.

يبدو التفكير المصري والعراقي متطابقًا في استغلال مباني الوزارات التي سيتم نقلها بتحويلها إلى مناطق ترفيهية وثقافية وتجارية ومشروعات ريادة الأعمال في قلب العاصمة القديمة، ما يجعلها أحد مصادر التمويل للمشروع الجديد عبر بيعها أو منح حق الانتفاع بمبانيها فترات زمنية طويلة أو حتى تأجيرها.

كما تتقارب وجهات نظر الطرفين، كثيًرا، في التخطيط لنمط الحياة داخل العاصمتين الإداريتين في الاعتماد على  الطاقة الشمسية وإنشاء مجمعات خاصة بتكنولوجيا المعلومات، وتدشين مشروع قطار بغداد المعلّق حول العاصمة، والذي يشبه تمامًا مشروع مونوريل العاصمة الإدارية بمصر، الذي يبلغ طوله 56.5 كيلومتر ويضم 22 محطة، ومن المقرر افتتاح مرحلته الأولى في نهاية مايو (أيار) 2022.

ولا يحمل المشروع رفاهية بالنسبة للعراقيين، فبغداد أصبحت متخمة بعد نزوح نحو 3 ملايين شخص إليها بسبب الأوضاع الأمنية والحروب على مدار عقدين، وتوطنوا في قرابة ألف تجمع سكني عشوائي، ما يمثل ضغطًا رهيبًا على البنية التحتية، التي أصبحت عاجزة عن الاستيعاب.

واحتلت بغداد قبل خمس سنوات المرتبة الأخيرة في التصنيف العالمي في نوعية العيش الذي ضم 230 مدينة، والذي تعده شركة ميرسر الأميركية، لكن وزارة التخطيط العراقية تؤكد أن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة سيخف من حالة الاختناق بوسط بغداد، ويقلل المدى الزمني لإنجاز المعاملات بتجميع مقار الوزارات في مكان واحد.

ويواجه المشروع عقبة سياسية من البرلمان حول 16 ألف كيلومتر من المخصصة للمدينة يقطنها 300 ألف نسمة يملكون «سندات عمانية». وإقحامه في بعد طائفي، بزعم أن المشروع يحمل شًقا للتغيير الديموغرافي، لكن الأمر قابل للحلول بإعادة توطين السكان في وحدات جديدة، مثلما تفعل مصر في ملف العشوائيات.

 

مقومات أساسية

تتنوع أسباب إنشاء العواصم القومية الجديدة ما بين أسباب عمرانية مثل تكدس واحتقان العاصمة القديمة، أو اجتماعية كمحاولة إعادة تشكيل الخريطة السكانية للدولة وخلخلة الكثافات لأماكن جديدة خالية من البشر، وأسباب اقتصادية مثل السعي إلى تنمية أقاليم جديدة ذات موارد اقتصادية غير مستغلة، وأسباب بيئية كتقليل التلوث والحفاظ على استدامة الموارد.

ويحتاج نجاح أي عاصمة جديدة للعديد من المقومات الأساسية من بينها الاختيار الأمثل للموقع والتخطيط الجيد والتوزيع القائم على دراسات علمية لمواقع المؤسسات الإدارية والاقتصادية والتجارية والترفيهية، وتطبيق مبدأ مركزية التخطيط لا مركزية الإدارة بجانب وضع ضوابط قانونية للتحكم في العمران بما يضمن عدم حياد مخطط العاصمة الجديدة عن المسار المحدد له، والعمل على توفير فرص العمل ومستوى الدخول والأجور لمعرفة مدى تأثيرها على جذب السكان إليها، ومدى توافر الخدمات وتلبية احتياجات السكان منها.

وشهد العالم خلال الستين عاما الماضية، نجاح بعض الدول في استحداث عواصم جديدة خلقت معها انتقالا للسكان والتنمية، مثل البرازيل التي قررت نقل عاصمتها من ريو دى جانيرو إلى برازيليا، وكازاخستان من مدينة ألماتي إلى الأستانة، وباكستان من كراتشى إلى إسلام آباد، وتركيا من إسطنبول التاريخية إلى أنقرة، ونيجيريا من لاجوس إلى أبوجا، لكن في الوقت ذاته لم تؤت التجربة ثمارها في تنزانيا التي ظلت عاصمتها دودوما على الورق فقط مع استئثار القديمة دار السلام بالثقل الاقتصادي، وكذلك كوت ديفوار التي لم تستطع عاصمتها ياموسوكرو أن تسحب البساط من مدينة أبيدجان.

ويقول الدكتور وليد جاب الله، الخبير الاقتصادي وعضو الجمعية المصرية للإحصاء والاقتصاد والتشريع، إن التوسع في إنشاء المدن الجديدة توجه عالمي لمواجهة زيادة الكثافات السكانية، ويحمل أبعادًا اقتصادية بتوليد فرص عمل ودفع النمو الاقتصادي، كما تتضمن العديد من الأبعاد الاجتماعية والأمنية.

ويضيف جاب الله لـ«المجلة»، أن تجارب العواصم الجديدة لا تقاس بالتكاليف المالية على المدى القصير، ولكن ما تحققه على مدار عقود قادمة، وتجربة البرازيل خير مثال، حينما أنفقت مبالغ ضخمة على العاصمة الجديدة والتي تحولت حاليا إلى مركز الثقل الاقتصادي في البلاد وحققت مستهدفاتها، مضيفا أن الحكومة المصرية شرعت ببناء العاصمة الجديدة مع بدء برنامج الإصلاح الاقتصادي والذي نجح حاليًا في تغيير كامل لوضع الاقتصاد.

ويقول جاب الله إن العراق لن يواجه مشكلة في التمويل في ظل امتلاكه موارد نفطية كبيرة واستقرارا في الأسعار حاليا عند مستوى 65 دولاراً للبرميل، مما يجعل العديد من شركات التطوير العقاري العملاقة تقبل على التنفيذ، ومن بينها الشركات المصرية التي أبدت استعدادها القوي للمشاركة في جهود إعادة الإعمار ولديها خبرة تراكمية قوية نفذتها على مدار السنوات الماضية.

وبحسب لجنة الاقتصاد والاستثمار النيابية في العراق، تحققت وفرة مالية للبلاد تتراوح بين 20 و50 مليار دولار بسبب ارتفاع أسعار النفط، مما يسمح بإعداد موازنة تكميلية كبيرة، ومن الممكن تحويلها للمشاريع المستمرة والجديدة ومن بينها قطاع الإسكان.

ويعاني العراق أزمة متفاقمة في الإسكان بفجوة سكنية تناهز نحو 3 ملايين وحدة تتفاقم باستمرار مع وجود طلب يتمثل في 850 ألف زيجة جديدة سنويًا، كما يحتاج إلى محطات تحلية المياه، بعدما أصبح يعاني أزمة في مياه الشرب بسبب بناء مجموعة من السدود على نهري دجلة والفرات، بجانب أزمة في الكهرباء بانخفاض الطاقة الإنتاجية إلى 3300 ميغاواط مقابل طلب يناهز 7500 ميغاواط بعد تدمير شبكة النقل وتوزيع الطاقة ذات الجهد المرتفع والمتوسط والمنخفض، أثناء سيطرة تنظيم داعش على أجزاء من أراضيه.

مشروع مدينة الرفيل يعد أحد المشاريع التي تعول عليها الحكومة بتنشيط القطاع الخاص

مجتمعات متكاملة

يتطلب نجاح المدن الجديدة عدم تحويلها لمنتجعات خاصة لطبقة محددة من أثرياء المجتمع، لخلق مجتمعات يسودها نوع من تعدد الطبقات حتى لا تتكرر تجربة مدينة «لافاسا»الهندية التي تتراوح فيها أسعار أرخص الشقق السكنية بين 26.5 ألف دولار تعادل 1.9 مليون روبية هندية، تفوق غالبية دخول المواطنين.

وفي العراق، يصل متوسط سعر الوحدة السكنية في العقارات القائمة نحو 100 ألف دولار بما لا يتناسب مع دخل العائلات المتوسطة والفقيرة، خاصة فئة الموظفين الذين تدور رواتبهم في فلك الـ 700 دولار، بجانب ارتفاع معدلات الفقر لتبلغ 31.7 في المائة، وفقا للبيانات الرسمية.

ويمثل تكامل شبكة النقل أحد العناصر الأساسية لنجاح العواصم الجديدة، بجانب خلق نظام بيئي لتحييد الكربون وزراعة مساحة خضراء وهو ما تحقق للعاصمة الإدارية الجديدة بمصر التي تضم متنزهات خضراء تعادل ضعفي مساحة سنترال بارك بمدينة نيويورك الأميركية، ويسعى العراق لتكراره أيضًا بالاعتماد على الطاقة الخضراء وتخصيص شق زراعي في العاصمة الجديدة يعادل 15 في المائة من مساحتها.

واستطاعت العاصمة الإدارية بمصر تحريك السوق العقارية والاقتصاد المحلي بعد تأسيس عشرات الشركات الصغيرة العاملة بالمقاولات ليبلغ عدد العمال النشطين فيها حاليًا ما يزيد على المليون، بجانب تحريك العقارات نحو 100 صناعة أخرى بشكل مباشر أو غير مباشر، كإنتاج الطلاء والزجاج والأثاث المنزلي وغيرها، وهو ما تراهن عليه الحكومة العراقية حاليا لامتصاص جزء من البطالة التي تناهز نحو 40 في المائة، وفقًا لبيانات رسمية، وكأحد تداعيات الحرب على تنظيم داعش الإرهابي.

ويقول فتح الله فوزي، رئيس الجمعية المصرية اللبنانية لرجال الأعمال ونائب رئيس جمعية رجال الأعمال المصريين، إن نجاح تجربة العاصمة الإدارية بمصر بحجم الإقبال الجماهيري الكبير على شراء وحداتها، سيمثل وازعًا للعديد من دول المنطقة التي تعاني عواصمها اختناقا سكانًيا في استحداث عواصم جديدة، خاصة مع الارتفاع الكبير لمعدل السكان بالمنطقة العربية.

وتشير التوقعات المستقبلية للأممالمتحدة، إلى ارتفاع كبير في عدد سكان المنطقة العربية بحلول 2050، لتبلغ مصر 160 مليون نسمة، والسودان 81 مليون نسمة، والعراق 70 مليون نسمة، والمغرب 46 مليونا و165 ألف نسمة، والجزائر 60 مليون نسمة.

ويضيف فوزي، لـ«المجلة»، أن الشركات المصرية لديها القدرة على المساهمة في بناء العاصمة العراقية الجديدة، فعلى مدار السنوات السبع الماضية اكتسب خبرات كبيرة مع اعتماد الحكومة المصرية في جميع مشروعات البنية التحتية والإسكان على المشروعات المحلية، وأصبح في مصر حاليًا عدد كبير من الشركات العقارية العملاقة بعدما كان عددها لا يتجاوز الخمس قبل عقد واحد.

وتستهدف الخطة الخمسيةلوزارةالتخطيط العراقيةتخصيص 50 في المائة من جهودها ومواردها لدعم الاستثمار الخاص لبناء المجمعات السكنية، و50 في المائة لدعم الجهود الحكومية لبناء الوحدات السكنية، من أجل تقليل أزمة السكن الحاصلة في البلاد، بجانب التوسع في تجربة السكن العمودي كما هو الحال في مصر بامتلاك المواطنين وحدات في عقارات وأبراج ضخمة بدلاً من المنزل المستقل المكون من طابق أو اثنين.

 

خطة موازية

واستنسخت الحكومة العراقية أيضًا تجربة مصر المتعلقة بطروحات الأراضي على المواطنين مقيمة لفئات متباينة من الدخل، عبر مشروع وطني لتوزيع قطع الأراضي على المواطنين من الفئات المستحقة، ومن المقرر توزيع أكثر من نصف مليون قطعة أرض سكنية في المرحلة الأولى.

ويقول أحمد حسام عوض، رئيس شركة هوجر للإنشاءات والتعمير وعضو لجنة التشييد والبناء بجمعية رجال الأعمال المصريين، إن الكثير من الأسباب تجعل العاصمة المصرية الإدارية المصرية محل اهتمام العراق، وفي مقدمتها حملات التشكيك التي تعرض لها المشروع المصري في بدايته والذي تبدد بحجم الإنشاءات القياسي، والاستعداد لنقل الموظفين أخيرًا.

ويضيف عوض، لـ«المجلة»أن التجربة المصرية أثبتت الرهان على قدرة القطاع العقاري على دفع معدلات النمو الاقتصادي، بعدما ولد فرص عمل لشركات المقاولات المصرية وفتح المجال أمام مطورين عقاريين جدد، كما أصبح قطاع العقارات والإنشاءات مساهمًا في نحو 92 صناعة، وتعاظم ليمثل 20 في المائة من الدخل القومي في الوقت الحالي.

ومن المقرر أن تجتذب مشروعات الإسكان العراقية العديد من الشركات الصينية، في ضوء  الاتفاق الإطاري للتعاون بين بغداد وبكين الذي يمتد لعشرين عاما ويقوم على مبدأ النفط مقابل الإعمار بالبني التحتية، ووقعت شركة صينية عقد بناء بقيمة 1.395 مليار دولار يشمل مشاريع الهندسة المدنية ودعم البنية التحتية في جنوب العراق.

لكن عوض يؤكد أن الشركات المصرية ستكون مفضلة للجانب العراقي في ظل الخبرة التي شكلتها في العاصمة الإدارية والتي امتدت حاليا لعدة دول أفريقية، خاصة في ظل التقارب بين الشعبين ووفرة العمالة المدربة بمصر التي كان لها حضور كبير في العراق خلال السنوات الماضية.

ويظل الهدف الرئيسي من إنشاء العواصم الجديدة هو تلافي السلبيات وسوء التخطيط وتحسين إدارة المرافق والخدمات وميكنة تطوير الأداء الحكومي والقضاء على البيروقراطية والتي تتطلب بنية تحتية متطورة للمباني والمرافق والشوارع والخدمات، بجانب جذب الاستثمارات الأجنبية، التي تبحث عن مقرات في مجمعات ذكية، بعدما أثبتت جائحة كورنا أهمية التكنولوجيا في النشاط الاقتصادي.

font change