نجار لـ«المجلة»: تجميد «التشكيلات» أساء لسمعة القضاء اللبناني

أكد فقدان الثقة في المصارف بعد أن تصرّفت مع المودعين بطريقة تثير الريبة

نجار لـ«المجلة»: تجميد «التشكيلات» أساء لسمعة القضاء اللبناني

بيروت: خلال الحرب العالمية الثانية كانت العاصمة البريطانية لندن تتعرض للقصف الجوي ليلاً ونهاراً من قبل الطائرات الألمانية، يومها بدأت بعض الهيئات تطالب بالسعي لوقف هذه الغارات لإنقاذ ما تبقى من العاصمة من الدمار، وحين توجه البعض إلى رئيس الحكومة البريطانية آنذاك السير ونستون تشرشل وطالبته بالقيام بأي عمل لوقف عملية الدمار. فالتفت إليهم تشرشل وسألهم: كيف حال القضاء عندنا؟ فأجابوه: قوي ونظيف. فقال لهم: ما دام القضاء في بلدنا قويا ونظيفا فلن نستسلم وسنقاتل حتى ننتصر.

تشرشل راهن على قوة القضاء ونزاهته لإكمال الحرب ضد الحزب النازي ولشد همم البريطانيين للصمود والقتال للانتصار في الحرب.

* من مفارقات هذا الزمن الرديء عدم وجود أي فاسد وراء القضبان

في لبنان «استقلاليّة القضاء» كلمتان تختزلان الواقع والنقاش بعد كل جريمة أو ملف فساد، فمن جهة يطالب اللبنانيّون بالاستقلاليّة من أجل بناء وطن ديمقراطي عادل، ومن جهة أخرى أصبحت «استقلاليّة القضاء» الشمّاعة والحجّة لتأجيل وتعليق كل القضايا، لا سيمّا الأساسيّة منها، وكثيرون ممّن يطالبون بها من مسؤولين وسياسيّين هم الجهات التي صادرت استقلاليّة القضاء وجرّدته بشكل عام من سلطته ويكفي أن نذكر أن التشكيلات القضائية التي أقرها مجلس القضاء الأعلى والتي لا تزال نائمة في قصر بعبدا لأنها لم تأت على مزاج الرئيس «القوي» وفريقه السياسي الذي يريد استغلال القضاء لمحاربة خصومه عن طريق فتح الملفات الكيدية معتمدا على بعض القضاة أمثال القاضية المتمردة غادة عون.

لقد أقدمت غادة عون على فتح قضاء «قطاع خاص»، أو قضاء على «حسابها»، وتمردت على قرار مجلس القضاء الأعلى بكف يدها وسحب الملفات القضائية منها ومنعها من إعطاء إشارات أمنية، ولم تكتف القاضية عون بذلك، بل مارست عملها بشكل طبيعي ضاربة كل قرارات مجلس القضاء الأعلى بعرض الحائط، واقتحمت مع مرافقيها مكاتب إحدى شركات المالية، لتنتقل بعد ذلك إلى ممارسة «شعبوية» لا تليق بالقضاء من إلقاء الخطب الحماسية من على الشرفات، ورفع يديها لتحية الجماهير المتضامنة معها، وتأكيدها أمامهم بأنها مستمرة في كشف الفاسدين ومحاربتهم وكأنها قاضية «مقطوعة من شجرة» ليس لها مرجعية ونظام وقانون لتحديد عملها وعمل كل قاض.

* لم أعرف السند القانوني لعملية مداهمة القاضية غادة عون للمؤسسات المالية

طالبت الدول الداعمة والمؤسسات المالية الدولية الدولة اللبنانية القيام بإصلاحات أساسية لتقديم الدعم ومن ضمنها ضرورة استقلال القضاء، لكن السلطة الحاكمة تجاهلت كل هذه المطالب وهذا ما انعكس سلباً على الاوضاع عامة في البلاد.

«المجلة» تحدثت إلى وزير العدل السابق البروفسور إبراهيم نجار حول دور القضاء اللبناني في مكافحة الفساد والأضرار التي لحقت بالجسم القضائي، جراء التصرفات غير المسؤولة من الطبقة الحاكمة.

وإلى نص الحوار:

 

* ما هو التبرير القانوني لتجميد التشكيلات القضائية رغم توقيعها من قبل رئيس الحكومة ووزيرة العدل. ألا تعتقد أن تجميد التشكيلات القضائية قد ارتد سلبا على الجسم القضائي في كثير من القضايا؟

- من دون أي شك، هذا أساء إلى سمعة القضاء اللبناني وإلى مبدأ فصل السلطات في لبنان، لأن رئيس الجمهورية ليس مخيّرا في مسألة إصدار التشكيلات، فالإصدار هو معاملة إجرائية إلزامية ينص عليها القانون. وصلاحية كل من وزير العدل، ورئيس الحكومة، ووزير المال، ووزير الدفاع، ورئيس الجمهورية هي صلاحية مقيدة؛ أي إنها تلزم هؤلاء الأشخاص بطبيعة وظيفتهم الحكومية بإصدار مرسوم تشكيلات طالما أصر عليه مجلس القضاء الأعلى وفقا للآلية التي ينص عليها قانون القضاء العدلي وبالتالي ما من مبرر يمكن أن يتذرع به أحد من أجل عدم إصدار تلك التشكيلات.

 

* الكل يطالب بمكافحة الفساد وإجراء الإصلاحات.. من هي الجهة المخولة بالقيام بهذه العملية والشلل يضرب الجسم القضائي؟

- مكافحة الفساد منصوص عليها في قوانين متعددة، منها قوانين خاصة ترشد هيئات متخصصة مرتبطة بمصرف لبنان، كما أن هناك قانون العقوبات وقوانين خاصة أخرى أصدرها مجلس النواب مؤخرا. الجهات المخوّلة قانونا بصورة عامة هي جهات قضائية ومصرفية تحت إشراف مصرف لبنان ولكن بصورة عامة لدينا في لبنان ما يسمى النيابة العامة المالية بالإضافة إلى النيابات العامة الأخرى، وكلها تخضع تسلسليا للنائب العام التمييزي وبالتالي من الواضح أن مكافحة الفساد هي من صلاحية القضاء لذلك كان يتعين معالجة موضوع التشكيلات القضائية بطريقة تتيح لدولة القانون لأن تأخذ مجراها. أنا شخصيا من الذين يعتقدون أن عدد القضاة في النيابة العامة المالية وفي النيابات العامة لا يكفي، كما أن هناك خبرات ومواضيع ربما تحتاج لمهمات تذهب إلى أبعد بكثير مما هو متوفر اليوم لدى القضاء اللبناني، لذلك أعتقد شخصيا أنه ما من شيء يمنع لبنان من اللجوء إلى اتفاقات دولية ومهارات أممية يمكن أن تسهم إلى حد بعيد في كشف كل تلك العمليات الفاسدة التي تمثلت في تهريب وتبييض الأموال والتهرب الضريبي بشكل غير مسبوق.

إذن لدينا مروحة كبيرة من النصوص القانونية ولدينا قضاة لديهم الكفاءة حتى لو لم يكن عددهم كافيا فلدينا بالمبدأ ما يتيح للبنان مكافحة الفساد. عوضا عن ذلك نجد أن جهات دولية أوروبية فرنسية سويسرية بريطانية أميركية كلها تهتم بموضوع الفساد، وأكبر دليل على ذلك كل ما يرد في الأخبار من اتهامات وعقوبات تطال سياسيين ومتعاونين مع الفاسدين وعددهم يبدو كثيرا. لذلك تجد أن المفارقة اليوم أن المعلومات كثيرة والنصوص متوفرة والمهارات موجودة ومع هذا كله لم نجد أحدا من الفاسدين الكبار وراء القضبان، إنها فعلا من مفارقات هذا الزمن الرديء.

 

* الكتاب الذي وجهه رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب بشأن تكليف الرئيس سعد الحريري هل له صيغة دستورية؟

- يستطيع رئيس الجمهورية أن يوجه كتابا إلى مجلس النواب وهذا منصوص عليه في الدستور ولكنه في الحقيقة لم يكن منتجا. آخر كتاب هو في صلب صلاحيات رئيس الجمهورية ولكن أعتقد أن هذا الكتاب لم يكن منتجا ويقال إن دولة الرئيس نبيه بري حاول إقناع رئيس الجمهورية بعدم إرسال مثل هذا الكتاب خوفا من تطورات ومناقشات نحن في غنى عنها. إلا أن رئيس الجمهورية بعد أن أبدى تجاوبا مع دولة الرئيس نبيه بري يبدو أنه عاد وأصر على إرسال الكتاب مما جعل الرد على الكتاب من قبل الرئيس الحريري نوعا من الضربة المقابلة أو الهجمة المقابلة وبالتالي تراجع رئيس التيار الوطني الحر عن مواقفه السابقة ورضخ لتكليف الرئيس الحريري وبالتالي هذا الكتاب وما أدى إليه من ردود كان بمثابة ضربة سيف في المياه ويمكن اعتباره بحكم «اللاحدث».

 

* مر نحو تسعة أشهر على صدور حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان كيف تفسر موقف الدولة اللبنانية بشأن تسليم المتهم بجريمة تفجير موكب الرئيس الشهيد رفيق الحريري وهل هناك إجراء آخر يمكن للمحكمة اتخاذه على هذا الصعيد؟

- بحسب الاتفاقات الدولية ونظام المحكمة وكل مذكرات التفاهم الموقعة بين لبنان والمحكمة، الأحكام الصادرة عن المحكمة الخاصة في لبنان تكلف لبنان بتنفيذ العقوبة أي القيام بكل ما يمكن القيام به من أجل جلب والقبض على المحكوم عليه، لكن لبنان على ما يبدو غير قادر على فرض حكم القانون هذا على من يعتبر أنه بحماية حزب الله، وبالتالي أعتقد أن المحكمة الخاصة في لبنان ستقوم بما يجيز لها القانون القيام به أي تعميم مذكرة التوقيف والحكم الصادر على الحدود وإبقاء الحكم على المحكوم عليه قائما. ويتعيّن على لبنان التجاوب مع هذه المذكرة ولكن دون أن يكون لدينا أمل حقيقي في التنفيذ. أما إذا قارنا هذا الشيء بما حدث في بلاد يوغسلافيا السابقة والقرارات الصادرة عن المحكمة الخاصة بدول يوغسلافيا السابقة نجد أن الحلفاء أرسلوا قوى عسكرية جلبت بالقوة من كان محكوما عليهم ومن كان أنزل بهم أحكام بالحبس وجلبته والبعض منهم لا يزالون وراء القضبان لكن الوضع مختلف كليا في لبنان.

 

* هل هناك سلطة تخول القاضي اقتحام الأملاك الخاصة بواسطة الكسر والخلع وهي الطريقة التي استعملتها القاضية غادة عون للدخول إلى مؤسسة مكتف المالية. وكيف تنظر كرجل قانون إلى ظاهرة القاضية عون؟

- هذا الموضوع ينقسم إلى قسمين. القسم القانوني الذي يرعى علاقات النيابة العامة أي غادة عون مع المؤسسات، والقسم الآخر يتعلق بصلاحية القاضية غادة عون. كما نعلم أن الصلاحية هي مسألة قائمة وإشكالية موجودة في علاقات القاضية مع رؤسائها، ومن بين هؤلاء مدعي عام التمييز، ومجلس القضاء الأعلى، والتفتيش القضائي، ومن الواضح أنها لم ترضخ للأوامر التي صدرت بحقها من قبل رؤسائها. ولكن هذا الموضوع مسلكي محض أما من ناحية صلاحية النيابة العامة في اقتحام الأماكن العامة والخاصة فهذا يمكن التسليم به قانونا وهذا يدخل ضمن صلاحيات النيابات العامة عندما تكون لها الصلاحية التي لا تنزع عنها صفة النيابة العامة.

لسوء الحظ في موضوع مؤسسة مكتّف وغيرها، أن ما شاب صلاحيات القاضية غادة عون من أوامر من قبل رؤسائها لأجل إعادة توزيع الأعمال وعدم صلاحيتها للتحقيق أرخى بظلاله على جدية هذه الملاحقة. أنا شخصيا كرجل قانون لم أفهم ما هو السند القانوني لإجراء تلك الملاحقات ولا السند القانوني لتلك المداهمات. إذا كانت تسعى القاضية غادة عون باتجاه تحديد هوية من يشحن الأموال من وإلى لبنان، فإن أمر شحن الأموال ليس خارج نطاق القانون، على العكس إنها مؤسسات مرخصة قانونا من قبل المصرف المركزي وبالتالي طالما لبنان لم يقر قانون الكابيتول كونترول، وحتى لو أقر مبدأ الكابيتول كونترول، يبقى موضوع شحن الأموال من وإلى لبنان في صلب عمليات الصيرفة في لبنان.

يضاف إلى ذلك، أن كل الأموال النقدية التي تشحن من لبنان أو تأتي إلى لبنان تخرج أو تدخل عبر الجمارك والجمارك اللبنانية تدوّن وتعرف تمام المعرفة من هي الجهة التي تشحن ولصالح من ولا يوجد أي سرية مصرفية في هذا الموضوع. كذلك الأمر بالنسبة للإدارة المركزية في مصرف لبنان، كل هوية الذين يشحنون النقد من وإلى لبنان هويتهم معروفة ومدوّنة ولا توجد سرية مصرفية عليها، وبالتالي السؤال المطروح: لماذا تمت المداهمة في حين أنه لا سرية على الموضوع؟ وأنا شخصيا طرحت هذا السؤال على القاضية عون فأجابتني أنه خرج من لبنان بين 15 أبريل (نيسان) و15 مايو (أيار) 2021 ما يقارب 160 مليون دولار نقدا، وقالت لي إن مؤسسة مكتف شحنت فقط 12 مليونا، وأن مؤسسات أخرى شحنت المبالغ الأخرى، لذا كل شيء بات معروفا، ويبقى السؤال: أين هي الكمبيوترات والمواد التي تم نقلها من تلك المؤسسات؟ وما نتيجة التحقيق؟ ومن الذين خالفوا القوانين؟ ولماذا لا يفصح عن اسمائهم؟ وهل هم من الفاسدين الرسميين؟ ومن هم؟ لكل ذلك أعتقد شخصيا أن المصلحة العامة تقتضي أن نعرف جميعا لماذا تم الشحن من وإلى لبنان؟ علما أنني أعرف أن الأموال النقدية التي تدخل إلى لبنان تزيد على الأموال النقدية الخارجة منه بعشرات الأضعاف. كما أنني من الذين يعتقدون أن في المنازل والمصارف وفي أماكن متعددة في لبنان هناك أموال نقدية كثيرة والموضوع هو فقدان الثقة في المصارف بعد أن تصرّفت مع المودعين بطريقة تدعو إلى التشكيك في إمكانية تحصيل الودائع.

=======================

الصور

----------

 

الصورة رقم ١:

وزير العدل السابق البروفسور إبراهيم نجار

 

الصورة رقم ٣:

القاضية غادة عون

 

font change