العروبة ومفهوم الدولة الوطنية

العروبة ومفهوم الدولة الوطنية

«الطبيعة تكره الفراغ»، قول منسوب للفيلسوف اليوناني أرسطو، ينطبق اليوم على سوريا خصوصا، ودول المشرق العربي عموما.

فدول المشرق العربي تعيش منذ سقوط بغداد بحالة غياب شبه تام لمشاريع وطنية وعربية، ما ولّد حالة فراغ استفادت منها قوى إقليمية لطالما كان لها أطماعها في المنطقة.

ودون أن ننكر فشل الدولة الوطنية حتى ما قبل سقوط بغداد في العام 2003، بسبب الأنظمة الديكتاتورية التي حكمت خصوصا كلا من سوريا والعراق، والهزائم التي لحقت بنا، كل ذلك أدى إلى ظهور هويات ما دون الوطنية، فوجدت المشاريع الإقليمية فرصتها لتحقيق غاياتها التوسعية أو لفرض سيطرتها ونفوذها، مستغلة غياب أي مشروع وطني حقيقي يقف بوجهها، إضافة إلى غياب أي مشروع عربي، فتزاحمت ثلاثة مشاريع على دول المشرق العربي، وهي المشروع الفارسي، والإسرائيلي، والتركي.

وإن كان المشروع الإسرائيلي قد اتخذ منحى آخر والكلام فيه يحتاج لمناسبة أخرى، إلا أن الإشارة إليه والتذكير به لا يقلان أهمية عن ذكر المشروعين الآخرين.

وما تسبب في نجاح المشاريع الإقليمية على حساب الدولة الوطنية والمصلحة العربية المشتركة هو فقدان إرادة العمل المشترك رغم الإدراك التام للمخاطر التي تهدد واقعنا العربي. ولكن بدايةً لا بد من التوضيح: ما هو المعني بمفهوم العروبة؟ فالمقصود هنا هو العروبة كما ورد تعريفها في قمة الرياض في العام 2007 بما لا يتناقض مع مفهوم الدولة الوطنية، فمما جاء في إعلان الرياض: «إن العروبة ليست مفهوما عرقيا عنصريا بل هي هوية ثقافية موحدة تلعب اللغة العربية دور المعبر عنها والحافظ لتراثها، وهي إطار حضاري مشترك قائم على القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية، يثريه التنوع والتعدد والانفتاح على الثقافات الإنسانية الأخرى، ومواكبة التطورات العلمية والتقنية المتسارعة دون الذوبان أو التفتت أو فقدان التمايز».

لقد سمح فشل الدولة الوطنية وغياب التضامن العربي إلى المشاريع الفارسية والتركية بالتوسع أكثر في منطقة المشرق العربي، وإن كان المشروع التركي مرتبطا بالحزب الحاكم في تركيا، بينما لم نسمع من أحزاب أخرى عدا العدالة والتنمية في زمن الرئيس رجب طيب إردوغان أي نية أو طموح بالتوسع في دول المنطقة وإحلال الهوية الإسلامية عوضا عن الهوية الوطنية، إلا أن الحذر مطلوب أمام ضعف ما نعانيه من تعريف لانتمائنا الوطني. ولكن في المقابل فإن المشروع الفارسي لم يتوقف مهما تغير الرؤساء في طهران، فهو مشروع استراتيجي بدأ العمل عليه منذ وصول الولي الفقيه إلى الحكم، فكان شعار تصدير الثورة منطلقا لبدء مشروع فارس التوسعي، وصولا إلى استغلال قسم كبير من الشيعة العرب، إضافة إلى تحويل القضية الفلسطينية إلى شماعة ومادة قابلة للمتاجرة بحيث يستغلها النظام الفارسي لتجنيد أكبر عدد من الشباب العربي في أحزاب ومشاريع لا تخدم أحدا سوى المشروع الفارسي.

لقد ساهمت الخلافات العربية العربية في إفساح المجال أكثر أمام هذه القوى الإقليمية لفرض سيطرتها ونفوذها، حتى إن بعض الدول العربية عملت بالوكالة عن هذه المشاريع الإقليمية لإحداث خرق في الدول العربية وتمرير أجندات مختلفة.

واليوم لا يمكن الفصل بين ما تتعرض له سوريا من تدمير شبه تام لهويتها الوطنية، وما تعرض له العراق، وبشكل آخر لبنان، حتى بتنا طوائف وأحزابا كل ينتمي لجهة إقليمية نتنازع ونتصارع فيما بيننا دون إعطاء أي اعتبار لمصلحتنا الوطنية، وطبعا كان النظام السوري بمثابة حصان طروادة لهذه المشاريع ولا يزال.

لقد بتنا نسمع كل يوم عن افتتاح مركز فارسي في مدينة سورية أو معهد لتدريس اللغة الفارسية، هذا عدا حملات التشيع المستمرة منذ زمن الأسد، ومن يظن أن الأمر سينحصر في دولة دون غيرها، ما عليه سوى النظر إلى ما حصل في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وقد تكر السبحة.

لقد ذكر إعلان الرياض 2007، ضرورة «نشر ثقافة الاعتدال والتسامح والحوار والانفتاح ورفض كل أشكال الإرهاب والغلو والتطرف وجميع التوجهات العنصرية الإقصائية وحملات الكراهية والتشويه ومحاولات التشكيك في قيمنا الإنسانية أو المساس بالمعتقدات والمقدسات الدينية والتحذير من توظيف التعددية المذهبية والطائفية لأغراض سياسية تستهدف تجزئة الأمة وتقسيم دولها وشعوبها وإشعال الفتن والصراعات الأهلية المدمرة فيها»، ولكنه أكد في الوقت نفسه على «ترسيخ التضامن العربي الفاعل».

واليوم المطلوب أكثر من أي وقت مضى هو قيام مشروع تضامن عربي فاعل يراعي المصالح العربية المشتركة دون أن يتناقض مع مصلحة كل دولة على حدة، ويأخذ في الاعتبار ما تتعرض له المنطقة من هجمات وأطماع، خصوصا مع قرب العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني والذي لا يبدو أنه سيأخذ في الحسبان أيا من تعديات إيران وانتهاكاتها لسيادة الدول المجاورة.

font change