التخويف.. من السينما إلى الصحافة والواقع

التخويف.. من السينما إلى الصحافة والواقع

[caption id="attachment_55250641" align="aligncenter" width="620"]مشهد من فيلم الضغينة (The Grudge ) مشهد من فيلم الضغينة (The Grudge )[/caption]


أثار خبر "الطائرة الماليزية" تعليقات فورية من القارئ العربي، وأشهرها أن هذا الخبر «فيلم رعب»، ثم تعليق آخر تحدث عن أن «مثلث برمودا له علاقة بالمهدي المنتظر»، وتعليق أفاد من غرابة الخبر وغموضه، فرأى أنه «من علامات الساعة»! ولا شك لم تختف العقلانية من تعليقات المعلقين، فأشار البعض بضرورة استخدام العقل والتفكر بطبيعة الخبر وتفاصيله وسياقه.
أدق التعليقات وصفا، تلك القائلة إنه فيلم رعب. وكل المتابعين لتاريخ أفلام الرعب، يعرفون أن إيقاع المشاهد بالخوف، لم يعد أمرا سهلا. بسبب كثرة هذه الأفلام من ناحية، وشح الابتكار الذي يصدم منتجي تلك النوعية من الأفلام. إلى الدرجة التي بات فيها صانعو تلك الأفلام يلجأون إلى حيلة تتمثل بانتهاء الفيلم دون أن يرى المشاهد سبب الرعب الذي أحس به. وذلك لسبب بسيط للغاية، هو تعود المشاهد على المفاجآت سواء في شكل الشخصية المرعبة، أو في سبب جنوحها للعنف والإرهاب بلا حد. وكون التكرار الذي صاحب أفلام «الهالوين» المعروفة يصب في خانة أساسية تجمع بين مقدّس المناسبة، ودنس الجريمة، حيث تتحول تلك المناسبة إلى سياق ترتكب فيه جريمة منظمة يقوم بها شخص غير متوقع، أصبح «تخويف» القارئ أمرا صعبا يتطلب مزيدا من الابتكارات المدهشة غير المتوقعة. وربما يكون فيلم The Grudge من أبرع الأفلام التي تتحايل على حس التوقع عند المشاهد، فتأسره في الرعب لعجزه عن الربط بين التفاصيل وكذلك للغرابة الأعجوبة التي صمّمها المخرج لشكل الشخصية المرعِبة.


أفلام الويسترن




قام المخرج الياباني الكبير، تاكاشي شيميزو، وهو من مخرجي التيار الجديد في السينما اليابانية، والذي خرج من عقدة الصراع مع الأميركيين وانتقل إلى سرد القصة الأميركية نفسها، بتفاصيلها وبأبطالها، جريا على عادة المخرج الإيطالي الشهير سيرجيو ليون، الذي اقتحم عتبة فيلم «الويسترن» الذي يعتبر بضاعة أميركية خالصة قصةً وشخوصا وإخراجا وموسيقى، فبرع هناك بمجموعة من الأفلام هي درة أفلام الويسترن، وأشهرها «once Upon a time In the west» و«for a few dollars more» و«the good the bad and the ugly»، بل إن الفيلم الأول تحول إلى أزمة سياسية بسبب رسائله المضمنة للطبقات الفقيرة وحقوق العمال وارتباطها بأحداث 1968 في فرنسا واتهم ليون بميول شيوعية لذلك. المهم أن الياباني تاكاشي شيميزو، وضع نفسه وجها لوجه مع براعة الأميركيين في صناعة فيلم رعب. وكونه جاء مسكونا بكل تفاصيل هذه السينما، عرف أن التحدي شبه مستحيل، فأقدم على نحت شخصية تقض المضاجع لشدة إخافتها المشاهدين، وهي عبارة عن امرأة ذات ملامح آسيوية، شعرها أسود منسدل على إحدى العينين، ولا يظهر إلا نصف وجهها الآخر، وهي تزحف باتجاه ضحاياها في أغرب تصوير مرعب قد تقع عليه عين!

الأعجوبة التي قام بها شيميزو، هي أنه حوّل رمزا للجمال والإثارة متمثلا بالوجه المؤنث الآسيوي، إلى رمز للرعب الخارج من أبعد نقطة في الروح الإنسانية. وأبعد من ذلك، فإنه أفاد من القوة اللامنظورة للتكنولوجيا، فغيّرها هي الأخرى، وحطّم كبرياءها من خلال مقدرة تلك المرأة الآسيوية على الخروج والتسلل حتى من كاميرا الأمن التي تراقب المشهد، ثم صدم رجل الأمن وإخفاؤه. لا بل إن تلك الآسيوية استطاعت أن تحطم آخر دفاعات المشاهد الذي يتكئ على شخصية «ضابط التحقيق» الذي يفترض أن يحل المشكلة في النهاية ويزيل التهديد ويقضي على الآسيوية الزاحفة، إلا أن هذه البديهية لا تلبث أن تتحطم هي الأخرى عندما تصل المرأة بنصف وجهها وعينها حالكة السواد إلى ضابط الأمن والقضاء عليه! وتنتهي كل الحكاية ويبدأ وجه الآسيوية الزاحفة بالاستقرار في ذاكرة المشاهد.

هذا المخرج المبدع، لعب على تفاصيل الوجه الآسيوي لامرأة معينة. فأفاد من البشرة المشدودة لمنح انطباع بالآلية والقساوة. واستخدم العينين الصغيرتين اللتين تميزان الوجه الآسيوي بصفة عامة، لمنح انطباع بالشكل غير الإنساني. ثم الشعر الأسود الغامق الذي لا يذكر إلا بالحداد والموت القادم داخل الفيلم. وبعد كل هذا الاستثمار للوجه، تكون الآسيوية عاجزة عن المشي، وهي تزحف فقط، ورغم عجزها فهي قد تصل إلى الضحية بلحظة واحدة فقط. وهنا، تظهر الإضافة التي اجترحها المخرج، عبر استغنائه الكامل عن الشكل المشوّه للوجه، تلك التيمة التي باتت تميز عشرات الأفلام بحيث يجب أن يكون وجه الشخصية المرعبة مشوها قبيحا، لإحداث الرعب لدى المتلقي. إلا أن شيميزو آثر أن يقول: إن الرعب ليس نتاج تشوّه أو نقص أو من أحد لا يشبهنا بالضرورة، ، بل قد يأتي محصلة نهائية للاكتمال الإنساني، ونتيجة أحقاد قد تكون أشد سطوة من وجه مشوه أو شخصية قاتلة.


طائرة ماليزيا




يمكن فهم الرعب كنتيجة لممارسة رقابية يدركها الشخص المراقب الخاضع، والتي رأى ميشيل فوكو أنها ستؤدي إلى تحول الشخص المراقَب، في سجن مثلا، إلى هدف استعمالي بحيث لا يكون جزءا من أي عملية تواصلية على الإطلاق. وينتهي الفيلسوف الذي أرسى مصطلحاته في تاريخ الفكر المعاصر كما أرسى ماركس مصطلحاته وكذلك فرويد، ومن في طبقتهم، إلى أن الخاضع لسلطة رقابية وقد تشكل لديه وعي ما بوجودها الشامل حوله، سوف يصل إلى مرحلة يكون جزءا من تلك السلطة التي سيعبّر عنها تلقائيا كما لو أنه الخاضع للرقابة وممارس الرقابة في آن واحد معا. وإن كانت نماذج فوكو ذات طبيعة تطبيقية مباشرة من السجن أو مفهوم العقاب الذي أرساه في كتبه، فإن مفهوم الرعب سيظهر أيضا بصفته قبولا لدور العنف لدى المشاهد، بحيث يخاف من الشخصية المؤدية إلى الرعب، كما أنه يخاف من نفسه، لا من الغير. وهو بذلك يؤدي سلطتين في آن واحد معا، كمثال فوكو عن مراقبة السجن والنتيجة بقبول المراقب السطو على شخصية الآمر وتمثيلها إلى جوار شخصيته الأصلية التي كانت في الأساس مجرد موضوع خضوع وإكراه ومراقبة. هنا سيكون موضوع الرعب هو مقدرة المشاهد السرية على إخفاء دوافعه التي لا يعترف بها، وهو أمر ذكره دويستويفسكي عن جرائم قتل جرى ارتكابها داخل أشخاص لم يجرؤوا على فعلها في الواقع. وهي نفسها الجثة المخبّأة في حائط إدغار آلان بو، وعلى مقاسها عنف الفرنسي لوتريامون. ولذلك أظهر بودلير عنفا غير مسبوق على المرأة المحبوبة مصرحا بكراهيتها لها بقوله: «أيتها المهووسة التي أنا مهووسٌ بها، إني أكرهك قدر ما أهواكِ».

الرعب الذي كان سينمائيا، وتتداخل معه نظريات المعرفة، كالتحليل النفسي والفلسفة وعلم القانون، بمجرد خبر صحافي صغير، أصبح واقعا وخارج سياقه البحثي. طائرة ماليزية تقل 239 راكبا، ومنطلقة من كوالالمبور، وبعد ساعة من انطلاقها تختفي عن شاشات الرادار. وبعد اختفائها والتأكد من تحطمها في المحيط الهندي وعدم العثور على صندوقها الأسود بعد، تتحدث الأخبار عن ذوي الضحايا الذين يتصلون بأقاربهم في الطائرة المنكوبة ولا يزال هاتفهم يرنّ (!) ويتحدث البعض عن وجود الضحايا على بعض المواقع الاجتماعية أونلاين إلا أنه لا يرد على الرسائل (!) هل هناك قصة رعب تفوق هذه القصة إلغازا وتخويفا وحبكةً وإخراجا؟!
font change