السعودية تبهر الزوار بمشاريع السياحة المستدامة

نحو التحول السياحي المؤسسي

قاعة حفلات «مرايا» في محافظة العلا (غيتي)

السعودية تبهر الزوار بمشاريع السياحة المستدامة

 

جدة: تخطو السعودية خطواتها الأولى نحو اكتشاف موارد جديدة للاقتصاد، لم تكن مطروقة سابقاً لاعتبارات عديدة، ولعل أهمها السياحة والترفيه. بشكل عام، فإن التغيير وطرح الأفكار الجديدة ليسا من الأمور السهلة، فكيف يكون الوضع مع إدخال أنماط جديدة للحياة وخيارات جديدة، تحمل معها نماذج جديدة للأعمال وتستدعي تغييرات اجتماعية واقتصادية وتعليمية وغيرها. 

وكشأن جميع البدايات، يعتبر التدخل أو الرعاية الحكومية ضرورة ملحة. لماذا؟ السبب يكمن في أن القطاع الخاص، الذي تعول عليه الحكومة السعودية في خلق المزيد من الوظائف وتحفيز النمو، لا يستطيع المضي قدماً لوحده في تنفيذ خطط عملاقة أو تحولات جوهرية في شؤون السياحة والترفيه؛ دون دعم ورقابة ومتابعة إلى أن يحين الوقت الذي يتولى فيه ذلك القطاع شؤون التنظيم والإنتاج بعد اكتسابه الخبرة اللازمة.

إن التحول الجاري حالياً في قطاعي السياحة والترفيه يمكن وصفه بأنه «تحول مؤسسي» برعاية وإشراف وتنظيم حكومي، تؤدي فيه دور الضامن، الذي يوحي بالثقة.

فكيف تعمل السعودية على تحقيق التحول السياحي بأسلوب مؤسسي؟ وماهي أدوات ذلك التحول؟ وكيف يعمل كل ذلك من أجل استدامة السياحة السعودية؟

حفل موسيقي لعازف الكمان الفرنسي رينو كابوكون خلال الكرنفال الموسيقي الأول «شتاء طنطورة» (غيتي)

السياحة في الماضي

استشعرت السعودية أهمية السياحة منذ عقدين تقريباً عبر إنشاء الهيئة العليا للسياحة عام 2000. بعدها بثلاثة أعوام، أضيفت إليها وكالة الآثار، لتصبح الهيئة مسؤولة عن ملف الآثار. وعام 2008، جرى تغيير المسمى لتصبح الهيئة العامة للسياحة والآثار. أما في عام 2015، فقد جرى تغيير اسم الهيئة لتصبح الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، وذلك قبل تحولها إلى وزارة مستقلة للسياحة في فبراير (شباط) 2020، فيما تولت وزارة الثقافة ملف الآثار. 

عملت هيئة السياحة خلال فترة عملها على إحداث تغييرات جوهرية، تتعلق بوحدات الإيواء السياحي كالفنادق والنزل والشقق المفروشة وغيرها، من حيث تصنيف تلك الوحدات ووضع حدود عليا للأسعار أثناء المواسم وباقي أيام السنة. كما جرى للمرة الأولى تطبيق العقوبات والغرامات على الوحدات المخالفة للوائح الأسعار أو اشتراطات النظافة وغيرها. ورعت تلك الهيئة نشاطات ومواسم سياحية متنوعة بالتعاون مع الفعاليات التجارية في مختلف مناطق المملكة. كما بدأت السعودية في عهد تلك الهيئة بالاهتمام بالآثار والحصول على تصنيف اليونسكو لمواقع التراث العالمي.

 

* جذب موسم الرياض من أكتوبر (تشرين الأول) 2019 حتى يناير (كانون الثاني) 2020 ما يقارب 11.5 مليون سائح بين داخلي وخارجي

أما ما قبل عام 2000، فإن المقصود بالسياحة، يتركز فيما يعرف بـ«السياحة الدينية» في المدن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، أي مواسم الحج والعمرة، إلى جانب بعض الوجهات داخل المملكة مثل الطائف وأبها، التي كان يتجه إليها بعض السياح الخليجيين، الذين كانوا يتمتعون- وإلى الآن- بحق الدخول إلى المملكة دون تأشيرة؛ بحكم اتفاقيات مجلس التعاون الخليجي.

سياح في صحراء العلا شمال غربي السعودية (أ.ف.ب)

رحلة التحول السياحي  

مع إطلاق رؤية المملكة 2030 عام 2016، بدأ قطاع السياحة والتراث الوطني في أخذ مكانته عبر اعتماده عنصراً أساسياً كأحد أبرز بدائل اقتصاد مرحلة ما بعد النفط.

كما ربط القطاع بأربعة أهداف استراتيجية مع تحفيز القطاع الخاص للاستثمار فيها:

  1. إنشاء وتطوير وجهات ومواقع وجزر سياحية ومدن ترفيهية متكاملة لجميع أفراد الأسرة 
  2. الحماية والتأهيل والتنمية والتوعية بمواقع التراث الوطني
  3. زيادة وتطوير فعاليات ومهرجانات سياحية جاذبة لمختلف فئات المجتمع
  4. زيادة وتطوير مرافق الضيافة والخدمات السياحية

كما أطلقت عشرات المبادرات لبرنامج التحول الوطني في مجال السياحة والتراث والوطني مثل الشركة السعودية للحرف والصناعات اليدوية وتطوير مدينة العلا، شمال غربي المملكة، وتطوير جزر فرسان، جنوب غربي المملكة.

ظلت تلك المبادرات التطويرية لقطاع السياحة تركز على الداخل السعودي في ظل إنفاق السعوديين لما يزيد على 20 مليار دولار سنوياً على السياحة الخارجية (قبل اندلاع أزمة كورونا)، وهي ثروة توازي الميزانيات السنوية لبعض الدول العربية! 

وشهد العامان 2019 و2020 حدثين رئيسيين، تمثل الأول في إصدار التأشيرة الإلكترونية للسياح الأجانب من 49 دولة حول العالم بقيمة 117 دولاراً. أما الثاني، فقد حصل في فبراير 2020 بتحول هيئة السياحة والتراث الوطني إلى وزارة السياحة، مما يعني اعترافاً صريحاً بالسياحة كقطاع سيادي، يحمل آفاقاً تنموية واقتصادية وثقافية وترفيهية متنوعة.

كما تزامن إطلاق التأشيرة السياحية الإلكترونية أواخر سبتمبر (أيلول) 2019 مع الإعلان عن مستهدفات القطاع السياحي في الوصول إلى 100 مليون زيارة بحلول عام 2030 (حققت المملكة 41 مليون زيارة غالبيتها العظمى من السياحة الدينية والسياحة من الدول المجاورة عام 2018)، وزيادة مساهمة قطاع السياحة والتراث الوطني في الناتج الإجمالي إلى 10 في المائة بدلاً من 3 في المائة مع خلق ما يزيد على 1.6 مليون وظيفة، والأهم من ذلك هو أن تصبح المملكة من أول 5 دول سياحية على مستوى العالم. 

وبالفعل، زار المملكة في وقت قصير قرابة نصف مليون سائح أجنبي منذ إطلاق التأشيرة السياحية وحتى إغلاق السفر بسبب أزمة كورونا في الربع الأول من 2020. كما تعزز الإنفاق السياحي الوافد إلى السعودية عام 2019 بالوصول إلى 27 مليار دولار.

باختصار، كانت السعودية صندوقاً سياحياً مغلقاً، لا يسمح بالدخول إليه لغير أغراض السياحة الدينية

مدائن صالح (غيتي)

ارتباط السياحة بالترفيه

السياحة والترفيه وجهان لعملة واحدة، وكل منهما سبب لازدهار الآخر في المملكة. فمثلاً، جذب موسم الرياض الذي أقامته هيئة الترفيه من أكتوبر (تشرين الأول) 2019 حتى يناير (كانون الثاني) 2020 ما يقارب 11.5 مليون سائح بين داخلي وخارجي، حيث استحضرت عشرات الفرق والفنانين في مجالات الموسيقى والغناء والسيرك والفنون الاستعراضية والمطاعم العالمية من مختلف دول العالم. وكانت إعلانات موسم الرياض حاضرة في عواصم دول الخليج للقدوم إلى المملكة. 

صحيح أن القطاع الخاص تولى مسؤوليات التنظيم والتحضير، لكن الضامن الحكومي الممثل في هيئة الترفيه هو الذي جعل هذا الموسم وغيره يكتسب الزخم المطلوب والمصداقية والجدية، إلى جانب الانتشار والسمعة والإعلان عن الفعاليات. وكان عدد الزوار الهائل، الذي يساوي ثلث سكان المملكة بأكملها، دليلاً على تحقيق الأهداف المطلوبة من الموسم وتجاوزها في سبيل تطوير صناعة ترفيهية- سياحية محلية. فالقادمون من بقية مدن السعودية، والسياح الآتون من الخارج، شكلوا دفعة قوية لمرافق الضيافة والتموين والتسوق، وكلها تمثل تجربة التسوق. 

* مع إطلاق رؤية المملكة 2030 عام 2016، بدأ قطاع السياحة والتراث في أخذ مكانته كأحد أبرز بدائل اقتصاد مرحلة ما بعد النفط

من جانبها، رعت هيئة السياحة، الذراع التنفيذية والجهة الناظمة لشؤون السياحة والتابعة أيضاً للوزارة، إطلاق المواسم السياحية مثلما فعلت هيئة الترفيه ضمن موقع روح السعودية visitsaudi.com، الذي يعرض باقات سياحية تبدأ بنشاط واحد أو جولة مفردة بقيمة لا تتجاوز 53 دولاراً للفرد، وصولاً إلى باقات بأيام متعددة بقيمة تتجاوز مئات الدولارات. فمثلاً يمكن حجز جلسة يوغا أو رحلة مشي بين الجبال أو حتى الذهاب في رحلة مليئة بالرياضات البحرية، فالجغرافيا السعودية غنية بتنوعها بين الشواطئ والجبال والصحاري والوديان. وعلى نسق هيئة الترفيه، فإن الضامن حكومي، يتمثل في هيئة السياحة، لكن التنفيذ لشركات سياحية من القطاع الخاص. ومن أمثلة مواسم السياحة الموسم السياحي الحالي لصيف 2021 «صيفنا على كيفك»، الذي يتضمن 11 وجهة (مدينة) و500 باقة سياحية و250 شريكاً سياحياً. 

إن هذا الضامن الحكومي هو من يتولى الترويج والإعلان والمراقبة والمتابعة لتنفيذ الباقات السياحية على الشكل المطلوب، والتي يجري حجزها عبر الموقع الإلكتروني.

السياحة الدينية في مكة (غيتي)

ضربة كورونا وآفاق الازدهار

مع إغلاق الاقتصاد السعودي بين مارس (آذار) ويونيو (حزيران) 2020، وما تبعه من تشديد الإجراءات الصحية وإغلاق المجال الجوي السعودي وإضافة مزيد من الدول التي يحظر السفر منها وإليها، تلقى قطاع السياحة المعتمدة على الخارج ضربة قاسية. كما تضرر قطاع السياحة الدينية مع توقف مواسم العمرة القادمة من الخارج وتحديد أعداد المعتمرين والحجاج المحليين. 

كما عطلت أزمة كورونا خططاً ومواسم ترفيهية وسياحية وفعاليات متنوعة، كان يمكنها أن تحدث فرقاً في المشهد السياحي السعودي، لكن العودة بدأت مع إطلاق موسم «الشتا حولك» بين أواخر 2020 وبداية 2021 للترويج للسياحة الشتوية، مما أنعش قطاعات السياحة والفندقة والنقل والتموين وغيرها. كما عادت الحفلات الموسيقية برعاية هيئة الترفيه ضمن اشتراطات الحد من زيادة الأعداد والتباعد الاجتماعي وغيرهما.

ومع تلقيح أكثر من ثلثي سكان المملكة حالياً بلقاحات كورونا وتسارع إعطاء جرعات اللقاح حول العالم، تتجه الأمور نحو الانفتاح المنضبط للأنشطة السياحية، إلا أن العودة إلى ما قبل مارس 2020، أي شهر إغلاق الاقتصاد والأجواء والنشاطات التجارية، تحتاج إلى مزيد من الوقت. ويبقى الثابت في معادلة السياحة والترفيه أن السعودية اكتشفت مورداً جديداً، يمكن أن يكون بمثابة نفط المستقبل لأجيالها المقبلة الذي سيحظى بالاستدامة، على عكس الموارد الهيدروكربونية الناضبة!

 

 

font change