طرابلس بين المواجهات العسكرية والمبادرات السياسية

طرابلس بين المواجهات العسكرية والمبادرات السياسية

[caption id="attachment_55251498" align="aligncenter" width="620"] المخاوف تتصاعد في تونس ومصر والجزائر من مضاعفات اندلاع العنف والقتال  بين أنصار  حفتر وخصومه  المخاوف تتصاعد في تونس ومصر والجزائر من مضاعفات اندلاع «مواجهات عسكرية شاملة» بين أنصار اللواء خليفة حفتر وخصومه المخاوف تتصاعد في تونس ومصر والجزائر من مضاعفات اندلاع العنف والقتال بين أنصار حفتر وخصومه [/caption]

تباينت المواقف من تحرك أنصار اللواء خليفة حفتر ورفاقه؛ فقد ساندته قوات من سلاح الجو والبر وعارضته بقوة الحكومة المركزية ورئاسة البرلمان الانتقالي والقيادة العليا للجيش في طرابلس وميليشيات «غرف ثوار ليبيا» التي تعتبر القوة المسلحة الأقوى في غالبية المدن الليبية، وخاصة في العاصمة طرابلس وفي «العاصمة التجارية» مصراتة و«عاصمة المنطقة الشرقية» بنغازي.
فهل تعني هذه المستجدات مزيدا من تدهور الأوضاع الأمنية والعسكرية في ليبيا بعد نحو ثلاثة أعوام من «حرب التحرير».. أي ثورة الإطاحة بنظام معمر القذافي والحرب التي شاركت فيها قوات الحلف الأطلسي؟

ألم تبدأ القوى المتصارعة في ليبيا إعادة إنتاج «السيناريو العراقي».. مع ما يعنيه من سيناريوهات تقسيم البلد بين «مافيات» وعشائر وميليشيات متناحرة ودويلات متنافرة.. مع تهديد الدول المجاورة بحمى العمليات الإرهابية والتفجيرات والاغتيالات السياسية؟
وقد عاد الحديث عن حل «التقسيم» لأن غالبية زعامات التمرد من المنطقة الشرقية بما في ذلك زعيم التمرد اللواء خليفة حفتر من مدينة «البيضاء» شرق «بنغازي» والناطق باسم المتمردين العقيد محمد الحجازي.. فيما تبدو بوادر «الانفلات الأمني» أخطر بكثير في مدن غير بعيدة عن الحدود الغربية لمصر مثل «درنة» و«طبرق».. ومنطقة «الجبل الأخضر» التي يحتمي بها كثير من المسلحين العائدين من أفغانستان وباكستان وسوريا والعراق ومالي.. بينهم نشطاء من «أنصار الشريعة» وأعضاء «الجماعة الإسلامية المقاتلة» الذين لم يتخلوا عن السلاح قبل سبعة أعوام.. خلال «المراجعات العقائدية والفكرية والسياسية التي قامت بها زعامتهم مع سيف الإسلام القذافي بقيادة عبد الحكيم بالحاج زعيم حزب الوطن حاليا..»، على حد تعبير المحلل السياسي والناشط الحقوقي الليبي عماد الكوني.


الحل الفيدرالي




تصريحات كبار السياسيين وزعماء «مجالس ثوار ليبيا» بأجنحتهم العسكرية والسياسية تؤكد على رفض سنياريوهات التقسيم وعلى أن «كل الليبيين إخوة».. لكن كثيرا منهم لا يخفون أنهم مع «الحل الفيدرالي»، أي تقسيم البلاد إلى ثلاث دويلات على غرار ما كان عليه الوضع في عهد الاحتلال البريطاني - الفرنسي لليبيا بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية عام 1942: دولتان في الشمال، الأولى غربا وعاصمتها طرابلس، والثانية شرقا وعاصمتها بنغازي (أو برقة)، والثالثة في الجنوب الصحراوي المطل على تشاد والنيجر في منطقة «فزان» وعاصمتها «سبها».

ومن بين ما يعقد الأوضاع ميدانيا وسياسيا في العاصمة طرابلس وعدد من المدن الكبرى الموالية «للسلطات الشرعية» وكذلك في «عاصمة التمرد» بنغازي، بروز أشكال جديدة من العنف والعمليات الإرهابية، من بينها «التفجيرات» والهجمات بالصواريخ على منشآت عسكرية حكومية.. على غرار الهجوم بصواريخ «غراد» الذي شنه «إرهابيون» على المطار العسكري الذي انطلقت منه طائرات «زعيم التمرد» اللواء خليفة حفتر في هجماته على أهداف تابعة «للجماعات المسلحة المتطرفة» التابعة إلى «جماعة 17 فبراير» و«أنصار الشريعة» في بنغازي.. حسب تعليق للمحلل السياسي والجامعي الليبي حمودة علي الورشفاني.



استنفار في تونس والجزائر ومصر




ورغم تصريحات وزير خارجية تونس المنجي الحامدي التي أورد فيها أن اتصالاته بنظرائه الجزائري والفرنسي والأميركي كشفت أن سيناريو «التدخل الأطلسي في النزاع غير وارد حاليا»، فقد أكد أن تونس تتابع مع هيئات اللاجئين الأممية فرضية الحرب وإمكانية فرار أفواج جديدة من المدنيين الليبيين إلى تونس.. قد يكون بينهم بعض الإرهابيين.
وفي الوقت الذي تتعاقب فيه «مبادرات الساسة الليبيين والوسطاء الدبلوماسيين العرب والأجانب ضمن جهود (تطويق الأزمة الأمنية الليبية) فقد أعلنت القيادات السياسية والعسكرية في مصر والجزائر وتونس أنها رفعت مستوى الاستنفار في المناطق الحدودية تحسبا لتدفق أفواج من الإرهابيين أو من بين المدنيين الفارين من الاقتتال في صورة توسع رقعة المواجهات العسكرية».
السلطات الجزائرية التي لديها تجربة طويلة في الصراع مع التنظيمات المسلحة والجماعات الإرهابية والحركات الدينية المتشددة أعلنت أنها استنفرت 40 ألف عسكري على حدودها مع ليبيا.. والتي تقدر بنحو ألف كيلومتر.




[caption id="attachment_55251499" align="alignleft" width="300"]أعضاء جماعة الإخوان في ليبيا خلال مؤتمر صحافي عقد في بنغازي - مايو 2013 أعضاء جماعة الإخوان في ليبيا خلال مؤتمر صحافي عقد في بنغازي - مايو 2013[/caption]

وفي مصر أعلن عن غلق «البوابة» الحدودية مع ليبيا وعن ترفيع مستوى التعبئة العسكرية حماية لحدود مصر الشرقية.. وتحسبا لتجدد مواجهات مسلحة على غرار تلك التي سجلت مرارا خلال الأعوام الماضية.. بعد أن اتهمت القيادة المصرية من قبل ميليشيات مسلحة ليبية وقيادات تنظيمات متمركزة في «طبرق» و«درنة» وبنغازي بالوقوف وراء «المحاولات الانقلابية الفاشلة».. التي يتزعمها اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر وأنصاره وأطلقوا عليها تسمية «عملية الكرامة».
وفي تونس جرت اتصالات مكثفة بين رئيسي الجمهورية المنصف المرزوقي والحكومة المهدي جمعة ووزير الخارجية منجي الحامدي مع الرسميين الليبيين ومع نظرائهم في الجزائر والمغرب ومصر بهدف تنسيق المواقف والتحركات «الوقائية» استعدادا لسيناريو «توسع أعمال العنف والإرهاب والصراعات المسلحة التي قد تتسبب في فرار مزيد من المدنيين إلى الدول المجاورة التي فر إليها منذ سقوط القذافي ثلث الشعب الليبي»، حسب تصريح السفير التونسي بطرابلس رضا بوكادي.


غلق السفارات.. تهريب السلاح




وقد تصاعدت التخوفات في تونس ومصر والجزائر من مضاعفات اندلاع «مواجهات عسكرية شاملة» بين أنصار اللواء خليفة حفتر وخصومه أقدمت عدة عواصم على غلق سفاراتها وقنصلياتها في طرابلس وبنغازي.. بما في ذلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والجزائر.
في نفس الوقت فرضت السفارات الغربية إجراءات أمنية إضافية على دبلوماسييها ورعاياها بعد تعاقب عمليات اختطاف الأجانب والدبلوماسيين، بينهم دبلوماسيان تونسيان لا يزالان مخطوفين منذ شهر مارس (آذار) الماضي.

وقد فسرت المصادر الجزائرية إعلان حالة الاستنفار العسكري على الحدود مع ليبيا بالمعلومات الأمنية «غير المطمئنة» التي وصلت الجزائر بعد تقارير أمنية حذرت من احتمال تعرض القوات الجزائرية الموجودة في الحدود مع ليبيا لهجمات تنفذها جماعات متطرفة مسلحة مرتبطة بتنظيم القاعدة، حسب الإعلامية الجزائرية أنيسة السلطاني.
وكانت الحدود الصحراوية الشاسعة بين ليبيا والجزائر من أبرز «الطرقات» التي استخدمها مهربو السلاح والمخدرات والمهاجرون غير القانونيين من ليبيا خلال الأعوام الماضية؛ لأن الأمر يتعلق بمنطقة صحراوية غير آهلة بالسكان.. رغم تركيز نحو 80 «نقطة أمنية ثابتة» بها.


الجيش المصري الحر




وفي مصر المنشغلة بأوضاعها السياسية والأمنية الداخلية بعد الانتخابات الرئاسية كثف الجانب المصري رقابته على حدوده تحسبا «لتسلل إرهابيين مصريين وليبيين وعرب من مخيمات الميليشيات المسلحة المتطرفة في شرق ليبيا، في محاولة (للتشويش) على النظام المصري »، على حد تعبير وزير الدولة التونسي السابق للخارجية صلاح الدين الجمالي.
وأوردت مصادر رسمية وشبه رسمية في القاهرة أن بعض الأوساط الأمنية والاستخباراتية المصرية متخوفة من المعلومات التي تحدثت عن تأسيس «جيش مصري حر» داخل الأراضي الليبية (على غرار «الجيش الحر» في سوريا) تكون مهمته زعزعة الأوضاع الأمنية والعسكرية في مصر «بدعم من أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين المصرية التي يحاكم قادتها هذه الأيام في مصر بتهم كثيرة بينها الضلوع في عمليات إرهابية وأعمال عنف».
لكن مصادر ليبية رسمية نفت وجود مثل هذا التنظيم على أراضيها، كما نفى الناشط السلفي د. طارق الزمر الذي قيل إنه زعيم هذا «الجيش المصري الحر» وجوده في ليبيا، وأكد أنه موجود في العاصمة القطرية الدوحة. ووصف من اتهمه بتشكيل مثل هذا التنظيم بـ«افتعال أكذوبة سخيفة»!

وقد كشفت مصادر مسؤولة في تونس أن السلطات الأمنية في مصر والجزائر وتونس أبرمت اتفاقا أمنيا «سريا» جديدا لترفيع التنسيق للتصدي للجماعات الإرهابية التي قد تتسلل إلى الأراضي الليبية.. في ظل معلومات مؤكدة عن «مغادرة آلاف المقاتلين العرب لسوريا في اتجاه مواطنهم».
وفي الوقت الذي يتواصل فيه التنسيق بين تونس والجزائر ومصر والعواصم الغربية والعربية المعنية بمستقبل الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في ليبيا.. تنوعت المبادرات السياسية «التوفيقية» داخل الأراضي الليبية وخارجها، وبينها تونس التي يتوافد عليها منذ مدة عدد من زعماء القبائل والأحزاب الليبية.. من مختلف التيارات.. ومن ممثلي «المهجرين» أو «النازحين» الليبيين الذين قدر عددهم في تونس وحدها بأكثر من مليون، نسبة كبيرة منهم من بين أفراد عائلات المسؤولين السياسيين والعسكريين السابقين في عهد القذافي.

لكن من بين ما يشغل الساسة في ليبيا وخارجها أن بعض العسكريين والأمنيين والساسة في ليبيا أعلنوا تعاطفهم مع تحرك اللواء خليفة حفتر وأنصاره في «الجيش الوطني الليبي» في وقت تبدو فيه قيادات «الإخوان المسلمين» الليبية وحلفاؤها مترددين في تبني شعاري «القضاء على الميليشيات الإرهابية المسلحة» ومحاربة «التنظيمات الدينية المورطة في القتل وحمل السلاح» مثل تنظيمي «أنصار الشريعة» و«الجماعة المقاتلة».


تنسيق مع «قوات الحدود مع مصر»




في هذا السياق أعلن «الناطق باسم الجيش الوطني الليبي» العقيد محمد الحجازي: «إن عملية الكرامة التي يقوم بها (الجيش الوطني) ضد الجماعات (التكفيرية) في ليبيا مفتوحة حتى يتم القضاء على كل الجماعات الأصولية الظلامية، التي سيطرت على ليبيا وأهانت شعبها».
ونسب إلى «الحجازي» تصريح أورد فيه أن «قوات حفتر نجحت في القضاء على مخازن الذخيرة التي تملكها تلك الجماعات الإرهابية».
واللافت للنظر في التصريح المنسوب إلى «الحجازي» كون «الجيش الوطني الليبي» توجه بنداء إلى القوات المصرية بالتدخل شرق ليبيا و«بمد يد العون للحفاظ على الحدود المصرية الليبية مستقرة»، وأورد التصريح أن «الجيش المصري صمام الأمان للأمة العربية بأكملها ونعول عليه الكثير ونمد اليد إليه لحماية الحدود الليبية المصرية».


مبادرات دولية




وفي انتظار نتائج جهود المصالحة الداخلية وتحركات «الكواليس» في طرابلس تحركت الدبلوماسية العربية والدولية؛ فقد عينت واشنطن السفير والخبير الأمني الأميركي السابق ديفيد ساترفيلد مبعوثا خاصا للحوار لدى ليبيا، بينما عين السفير الفلسطيني السابق ناصر القدوة مندوبا عن الأمين العام لجامعة الدول العربية لمتابعة الملف الليبي.. «ودعم خيار الحوار السياسي».
في الأثناء تكثفت في تونس جهود الوساطة بين الأطراف الليبية المتنازعة بدعم من ممثل الأمم المتحدة لدى ليبيا طراق متري.

وتشرف على هذه المبادرات «الصلحية» شخصيات إسلامية وليبرالية بزعامة رئيس حزب النهضة الإسلامي راشد الغنوشي ووزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام من جهة، ورئيس الجمهورية المنصف المرزوقي وقياديين من حزبه من جهة ثانية، والباجي قائد السبسي رئيس الحكومة السابق وزعيم حزب «نداء تونس» من جهة ثالثة.

وتأكد توافد ممثلين عن قبائل «الزنتان» و«ورفلة» و«ورشفان».. وزعامات عن «مجالس الثوار» القريبين من رئيس الحكومة الأسبق محمود جبريل وعن زعامات تمثل «الأغلبية» في الحكومة والمؤتمر الوطني العام بزعامة تيار «العدالة والبناء» بقيادة محمد صوان وتيار الإخوان المسلمين و«حزب الوطن» بقيادة عبد الحكيم بالحاج.
وقد نوه السفير الليبي الجديد بتونس محمد علولو بأن «السفارة الليبية لدى تونس تسعى إلى التعاون مع كل الأطراف التي تحاول تحقيق المصالحة بين الليبيين وضمان عودة عائلات النازحين إلى تونس ومصر والجزائر في أقرب وقت».


[caption id="attachment_55251500" align="alignright" width="300"]ليبية تحمل صورة اللواء خليفة حفتر خلال مظاهرة داعمة لتحركاته المناهضة للحكومة والبرلمان الليبيين ليبية تحمل صورة اللواء خليفة حفتر خلال مظاهرة داعمة لتحركاته المناهضة للحكومة والبرلمان الليبيين[/caption]


وقد أكد السفير التونسي في طرابلس رضا بوكادي أن «تونس تسعى إلى إنجاح جهود حوار سياسي شامل بين الأطراف المتنازعة.. وفق الخيارات التي يرتئيها الأشقاء الليبيون، وحسب ما يرونه صالحا لمستقبل بلدهم وعلاقاته الثنائية مع جيرانه حاضرا ومستقبلا».
وإذ تتواصل الحرب النفسية هنا وهناك نفت مصادر رسمية في ليبيا وتونس ما أشيع عن فرار رئيس الأركان الليبي اللواء الركن عبد السلام جاد الله العبيدي الذي كان على رأس منتقدي «تحرك اللواء المتقاعد خليفة حفتر» ووصفه بـ«التمرد على السلطات الشرعية وعلى القيادة العليا للجيش الوطني الليبي في طرابلس».
في هذه الأثناء يتواصل الجدل في ليبيا حول مصير «المؤتمر الوطني العام» (البرلمان والسلطة التنفيذية المنتخبين في 7 يوليو/ تموز 2012) واسم رئيس الحكومة الجديدة.. وتتنوع المبادرات السياسية.
وقد كشف الجامعي الليبي إبراهيم النقاص أن الحكومة المؤقتة تقدمت «بمبادرة إلى المؤتمر الوطني العام لحل الأزمة الراهنة التي تمر بها البلاد».

ومن بين أبرز ما في هذه المبادرة «دخول المؤتمر الوطني في إجازة برلمانية حتى انتخاب البرلمان المقبل وتسليمه السلطة.. على أن تتقدم الحكومة المؤقتة باستقالتها في أول جلسة للبرلمان الجديد، وكذلك التمسك بالإعلان الدستوري المؤقت وشرعية الهيئات والمؤسسات المنبثقةعنه».ودعت المبادرة إلى تشكيل لجنة وزارية للتواصل مع كل التشكيلات المسلحة بهدف الوصول إلى توافق وطني يرفض الاحتكام للسلاح... على أن تكلف «قوات المنطقة الوسطى» (أي منطقة مصراتة.. وهي الأقوى حاليا بعد قوات طرابلس والمنطقة الغربية) بحماية العاصمة ومؤسسات الدولة والمركزية.
هل تنجح هذه المبادرة السياسية أم يقع إجهاضها مجددا وتكون الكلمة الأخيرة للسلاح ولأنصار «التقسيم» أو «الدولة الفيدرالية»؟


ثلاث دويلات




وبعد مرور أسابيع على «الوساطات التونسية والأممية والعربية» بين الفرقاء السياسيين في ليبيا.. وبعد أشهر على «مؤتمر أصدقاء ليبيا» في روما بمشاركة وزراء خارجية الدول العظمى ودول عربية تتصاعد الدعوات لتقسيم البلاد إلى دويلات وأقاليم بالنسبة للبعض.. أو إلى بناء «اتحاد فيدرالي» بين أقاليم تتمتع بـ«حكم ذاتي» يسمح لمنطقتي الشرق والجنوب بوضع حد «لاحتكار المنطقة الغربية والوسطى بزعامة طرابلس ومصراتة ثروات البلاد وطاقاتها».
ولعل من أبرز القضايا الخلافية حول مستقبل ليبيا منذ 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 تاريخ اغتيال الزعيم الليبي السابق معمر القذافي وإعلان نهاية نظامه - مشروع تقسيم ليبيا إلى ثلاث دويلات.. بحجة إحياء «الاتحاد الفيدرالي» الذي كانت عليه ليبيا ما بين 1951 وعام 1964 عندما كانت ليبيا مقسمة إلى ثلاثة أقاليم: إقليم طرابلس غربا وإقليم برقة (ويشمل بنغازي والبيضاء ودرنة...) شرقا وإقليم فزان (وعاصمته سبها جنوبا).

وتؤكد مصادر مطلعة أن من بين أبرز أسباب اغتيال السفير الأميركي كريس ستيفنز في سبتمبر (أيلول) 2012 وحالات الاغتيال والعنف السياسي في بنغازي والجنوب تضاعف دعاة «الانفصال» في مناطق النفط الغنية شرقا وجنوبا.. أو أنصار تشكيل اتحاد «فيدرالي» يعوض الدولة المركزية «القديمة».
فهل من الوارد أن تقسم فعلا إلى ثلاث دويلات أو أكثر خاصة بعد أن وقعت محاولات رسمية في هذا الاتجاه في أكتوبر الماضي عند إعلان بعض ساسة المشرق عن «تأسيس دولة مستقلة في إقليم برقة» شرقا؟
من خلال ما تبثه وسائل الإعلام الليبية المسموعة والمرئية والمكتوبة يتضح أن «اقتراح» تقسيم ليبيا إلى ما لا يقل عن ثلاث دويلات لم يعد مجرد إشاعة، بل إن بعض كبار زعامات القبائل والكتائب المسلحة و«المعارضة السياسية»، وخاصة «التحالف»، باتت تعلن بوضوح دعمها لتشكيل «اتحاد فيدرالي» بين دولة في المشرق عاصمتها بنغازي ودولة في الجنوب عاصمتها سبها وثالثة في الغرب عاصمتها طرابلس.
ويؤكد خبراء مستقلون أن هذا المشروع «الخلافي» كان من بين أسباب استفحال العنف في الجنوب من قبل موالين لنظام القذافي وفي الشرق من قبل أنصار اللواء المتقاعد خليفة حفتر وبعض المعارضين للنظام الليبي الحالي الموجودين في عواصم خليجية وعربية كثيرة.
وحسب مراقبين مستقلين فإن من بين أسباب اغتيال السفير الأميركي السابق في ليبيا كريس ستيفنز في بنغازي يوم 11 سبتمبر 2012 اتصالاته المكثفة بالسياسيين الليبيين وقادة القبائل شرق ليبيا لإقناعهم بالخيار «الفيدرالي».

وإذ لا يؤكد زعيم المعارضة الليبية الليبرالية ورئيس الحكومة الأسبق محمود جبريل بوضوح هذه المعلومة فإنه أكد في تصريحات صحافية أنه خلال رئاسته للحكومة المؤقتة اتصل بهيلاري كلينتون وزيرة الخارجية ليحتج على تحركات سفيرها الداعية وسط قبائل ليبيا وساستها لإقناعهم بـ«الفيدرالية» فأعلمته أنه يقوم بذلك بصفته «الشخصية». واستغرب جبريل إجابتها وتساءل: «كيف يمكن لسفير الولايات المتحدة أن يقوم بتحركات سياسية من هذا النوع ضمن (مبادرة شخصية) لم تكلفه بها سلطات بلده؟».
ويؤكد محمود جبريل في هذا السياق وجود «دعوات ليس إلى إحياء الفيدرالية فقط كنظام إداري للدولة، بل هناك محاولات لاستغلال هذه الدعوات لنقلها من مرحلة المطالبة بالفيدرالية كنظام إداري إلى مرحلة التقسيم».
والأخطر من هذا هو أن زعيم «التحالف» المعارض ورئيس الحكومة الأسبق أورد أن «فرنسا أيضا تتحرك في الجنوب، تحديدا مع قبائل التبو». والجنوب يعني الكثير بالنسبة لفرنسا لأنه يذكر بدويلة فزان التي كانت تابعة لها منذ هزيمة الإيطاليين خلال الحرب العالمية الثانية وتقاسم ليبيا من قبل فرنسا (التي كانت حصتها الإقليم الجنوبي) وبريطانيا التي سيطرت على إقليمي طرابلس (الغرب) وبرقة (الشرق).. وتحدهما مدينة إجدابيا.

وحسب الجامعي الليبي بلقاسم عبد الله فإن «دعاة التقسيم ينطلقون من التنوع العرقي الإثني والثقافي واللغوي في ليبيا: الأمازيغ (أقل من عشرة في المائة)، والطوارق، والتبو.. وهي قبائل ليبية جاء بعضها من أصول أفريقية في جنوب البلاد، وبعضها له امتدادات داخل تشاد والنيجر.. والقبيلة موزعة أحيانا بين الأرضين، بما يفتح شهية بعض (الاستعماريين الجدد) للعب ورقة (حروب الاستنزاف الحدودية) التي يلعبونها منذ 60 عاما في أفريقيا.. خاصة في المناطق الغنية بثرواتها الطبيعية مثل جنوب ليبيا وشرقها، مثلما سعوا إلى تقسيم العراق عمليا إلى ثلاث دويلات: واحدة غنية بالنفط في كردستان، والثانية شيعية جنوب العراق، والثالثة سنية فقيرة في بغداد ووسط البلاد».
في نفس الوقت الذي يربط فيه كثير من الساسة في ليبيا وخارجها بين «الفلتان الأمني والعسكري» وإقالة رؤساء الحكومات والوزراء والمسؤولين عن الشركات الوطنية و«فضيحة سرقة النفط وتهريبه على متن بواخر كورية وأجنبية»، وهيمنة «عصابات مسلحة» على موانئ تصدير النفط شرقا، إحداها بزعامة إبراهيم جضران، لا يخفي كثير من الزعماء الأمنيين والعسكريين والسياسيين من منطقة الشرق أن «بنغازي عروس ثورة 2011» يمكن أن تنفصل مع مدن الشرق عن طرابلس إذا تواصل «تهميشها بعد الثورة مثلما همشت في عهد القذافي».

ولعل بين نقاط القوة عند «الغاضبين» في بنغازي وأنصار اللواء المتمرد خليفة حفتر ومنظمي مظاهرات «العصيان المدني» قبل أسابيع، أن ثلثي نفط ليبيا وموانئ تصديره موجودة شرقا، أي في الجزء الذي يضم ثلث سكان ليبيا فقط.
كما تنتمي عائلة ملوك السنوسية، التي قادت الحركة الوطنية ضد الاستعمار ولها إشعاع ديني صوفي كبير في كامل ليبيا، إلى المشرق.. ورغم عدم وجود مطالب واضحة بإرجاع الملكية فإن غالبية ساسة ليبيا ينوهون منذ ثورة 2011 بالملك إدريس السنوسي، الذي أطاح به انقلاب 1969، وبعائلته ورموزها الدينية والسياسية.. لذلك أصدرت السلطة المركزية في طرابلس في فبراير (شباط) الماضي قرار «إعادة الاعتبار إليها».

ورغم تأكيد قيادات الأحزاب الفاعلة في «المؤتمر الوطني العام» (البرلمان ورئاسة الدولة) على «وحدة ليبيا» فإن الأشهر الماضية شهدت «تحركات انفصالية» كثيرة في شرق البلاد وجنوبها.. وإن تسببت الاغتيالات وعمليات اعتقال الساعدي القذافي ومديري المخابرات السابقين (عبد الله السنوسي وعبد الله منصور) في تخفيف حدتها.
وكان عبد ربه عبد الحميد البرعصي رئيس المكتب التنفيذي لحكومة «إقليم برقة» أعلن في أكتوبر الماضي عن «دولة مستقلة» شرق ليبيا تضم أربع محافظات هي إجدابيا وبنغازي والجبل الأخضر وطبرق... وأورد أن تشكيل هذه «الحكومة الإقليمية» جرى بالاستناد إلى «دستور ليبيا الذي أقر عقب استقلاها في عام 1951 إبان فترة حكم ملك ليبيا الراحل إدريس السنوسي».


ميليشيات تسيطر على موانئ النفط




ولئن «أجهضت» تلك المحاولة «الانفصالية» فإن رئيس «المكتب السياسي لإقليم برقة» إبراهيم الجضران ساند هذا التمشي «الفيدرالي».. ونشر قواته حول موانئ تصدير النفط باعتباره «الرئيس السابق لإحدى وحدات حرس المنشآت النفطية».
ورغم التشكيك في وطنية «جضران» من قبل خصومه الإسلاميين والليبراليين «المتمسكين بوحدة ليبيا» فقد نجح في أن يسيطر مع أفراد الميليشيا المسلحة التي يتزعمها على منشآت تنتج «نحو 60 في المائة من الثروة النفطية للبلاد في المناطق الصحراوية النائية المنتجة للنفط»، على تعبير مصادر حكومية في طرابلس، الذي أقر بكون صادرات ليبيا من النفط نزلت من مليون ونصف المليون من البراميل يوميا إلى أقل من 300 ألف برميل، بينما يفترض أن ترتفع بسرعة إلى أكثر من عشرة ملايين برميل «لو يتوفر الأمن ودولة مركزية قوية».
في هذا المناخ العام تظل الأوضاع في ليبيا مرشحة إلى كل السيناريوهات، في وقت تأكد فيه أن غالبية العواصم العربية والدولية لديها أطماع في ثروات هذا البلد الذي لا يتجاوز عدد سكانه ستة ملايين، بينما يمكن أن يصبح من بين المصدرين السبعة الأوائل للغاز والنفط إذا استقرت أوضاعه السياسية والأمنية.
لعل «التوافق السياسي» الجديد يتحقق بعد اقتناع كل الأطراف «بالخطر الذي سيهدد الجميع» في صورة استمرار الاقتتال - عامل إضافي يمكن أن يوحد «الإخوة الأعداء» في ليبيا.. وأصدقاؤها في الدول التي أنفقت مليارات الدولارات من أجل الإطاحة بنظام القذافي، وتريد أن تجني ثمر «استثمارها».



font change