بين إحياء واكتشاف وبناء مشروع «الدولة الحديثة»

بين إحياء واكتشاف وبناء مشروع «الدولة الحديثة»

[caption id="attachment_55251570" align="aligncenter" width="620"]مواطن مصري يرفع علم مصر أمام ميدان التحرير مواطن مصري يرفع علم مصر أمام ميدان التحرير[/caption]

من المحاولات الشائع استدعاؤها لبناء حدود (تبدو واضحة) لمفهوم الأمة التفرقة عند البعض بين مفهومي «الأمة» و«الشعب»، حيث يشير المفهوم الأول إلى حقيقة ثقافية في المقام الأول، ويشير إلى جماعة تربطها مشتركات عامة واضحة، بينما المفهوم الثاني يشير إلى جماعة سياسية في المقام الأول تربطها مصالح هي أكثر وضوحا من المشتركات العامة. وعلى امتداد التاريخ الحديث حظي كل من اللغة والعرق بالاهتمام الأكبر بين كل المشتركات الأخرى التي يمكن أن يبنى عليها «مفهوم الأمة».

وكما هو شأن معظم المفاهيم المؤسـسة لا يشكل المعنى اللغوي للمفهوم إلا جانبا واحدا من مبناه، حيث البحث اللغوي التقليدي رافد واحد للمفهوم، وفي مثل هذه الحالة غالبا ما يغلب اللفظ «المعنى الاصطلاحي» الذي ينشأ وينمو وتتحدد حدوده وملامحه خارج أسوار معاجم اللغة!
على أن تاريخ اللفظ، أحيانا، (خاصة في حالة مفهوم الأمة) يشكل زاوية نظر لا يمكن تجاهلها ولا طي صفحتها حتى لو توهم البعض ذلك، وبعض التجارب التاريخية التي تتخذ معيارا تغري بتضخم هذا الوهم. وفي الحالة المصرية فإن حقيقة مثل الاستخدام القرآني لهذا اللفظ أحد أهم روافد «المعنى»، وغني عن البيان هنا أن اللفظ ورد في القرآن الكريم أكثر من 40 مرة بمعان مختلفة، وأنه في تاريخ الثقافة الإسلامية الطويل خضع لنوع من «إعادة التعريف» في كتابات ذات مناح متباينة؛ دعوية، تاريخية، وسياسية.

ومما يصعب تجاهله أيضا، في الحالة نفسها، أن المفهوم ولد مرة أخرى في حلة جديدة على يد «نخبة الأفندية» التي ولدت في مصر في عهد خلفاء محمد علي ضمن مشروع «الدولة الحديثة» التي لا تزال في نظر كثيرين شكل التنظيم السياسي الذي قضى على «مفهوم الأمة الإسلامية»، حتى قبل أن تسقط الخلافة. ومن ناحية أخرى لعب «خطاب الحد الأقصى» عند بعض من نقلوا المفهوم الأوروبي ارتكبوا خطيئة توهم أن «الدولة - الأمة» التي يجري بناؤها ستكون نفيا لكل ما سبقها على طريقة «العام رقم صفر» في تجربة الثورة الفرنسية!
ولو تابع هؤلاء ما شهدته فرنسا نفسها في الذكرى المائتين للثورة الفرنسية، وهي مسقط رأس الدولة - الأمة في التقليد الغربي، لاختلف موقفهم وخطابهم. فقد شهد الاحتفال صدور أدبيات كثيرة تنتقد بحدة دور الدولة التي أنشأتها الثورة الفرنسية، وصولا إلى اتهامها بإبادة ما يقارب ربع المليون من معارضيها، في منطقة فاندي شمال البلاد لتحقق التناغم الذي كانت شروطه معدة مسبقا، ولأدركوا أن ما يبشر به بعضهم أصبح موضع إنكار واستنكار في مسقط رأسه!

ومن ثمار هذا التباين في الفهم - خاصة عند المقارنة بين خطاب الحد الأقصى في المعسكرين - بعض ما تشهده مصر من تدافعات كادت تصل إلى صراعات تهدد المستقبل. وقد مرت مصر بفترة تمتد من عام 1805 إلى عام 1953 تتحرك شيئا فشيئا نحو مفهوم جديد لـ«الأمة»، إلى الإعلان الرسمي القانوني عن ميلاد «الجمهورية» كثمرة قانونية لتغيرات اجتماعية وثقافية واقتصادية جرت وقائعها في الحقبة المشار إليها، وهي فترة أرجح أنها «فترة انتقالية»، طويلة بمعايير السياسية، لكنها قصيرة جدا في عمر الأمم!



الإحياء لا البناء





كانت هذه العملية في الحقيقة عملية «بناء» للأمة الجديدة وفق شروط مسبقة انحاز إليها مؤسس الدولة الحديثة «محمد علي باشا» وخلفاؤه. وقد كانت هذه الشروط المسبقة مستقاة في المقام الأول من تجربة الاجتماع السياسي الأوروبية خلال بناء الأوروبيين نموذج «الدولة - الأمة» تأسيسا على التحول المفصلي الذي دشنته الثورة الفرنسية. وخلال حكم هذه الدولة شكلت الثقافة الفرنسية المعين الذي نهلت منه النخبة الجديدة حتى التخمة، وكانت العلاقات الرسمية الوثيقة مع الدولة الفرنسية الوجه الآخر لهذه العملية، إذ لعبت العلاقات معها حجر الزاوية في بناء الدولة حتى الاحتلال البريطاني.

وهذه العلاقة بالتالي لا يجوز اختصارها في نقل التشريع الفرنسي، ولا يليق تقزيمها لتصبح مجرد ملابسات تاريخية، ليس وراءها اختيار ولا قرار!
وفي النموذج الفرنسي المشار إليه كان «البناء» يستهدف في المقام الأول تحقيق الاندماج بين المكونات الثقافية، بحيث تكون الثمرة بناء كيان سياسي جديد يتمايز عن الكيانات والجماعات المكونة له. لكن الأهم هنا أن الدولة هي مَنْ يعمل على توليد الشعور لدى أعضائها بكونها «مشتركا عاما» يقتضي الحفاظ على استمراريته بغية دوام المجتمع. وهنا، أصبحت العلاقة بين الدولة والمجتمع معكوسة، وتلك أحد أهم القضايا التي انتبه إليها بعض من ساهموا في ثورات الربيع العربي، وحاولوا الدفع باتجاه تقوية المجتمع (وأيضا الفرد في مواجهة الدولة).

ومن ناحية الممارسة التاريخية الفعلية، تواكب مع هذا التحول في مصر تحولات مماثلة في العالم العربي جعلت مفهوم الأمة يتحول ليصبح مفهوما متمحورا حول العروبة. وقد غلب على هذه التحولات التمركز حول اللغة أو الثقافة، وفي حالة استثنائية كانت عرقية بشكل أحمق كتجربة صدام حسين. لكن الأهم هنا أن الشيوع الواسع لمفهوم الأمة العربية منح مصر مكانة خاصة، ومكّـنها من لعب دور ربما لم ينافسها فيه شعب عربي آخر.
لكن مشروع بناء «الأمة الجديدة» كان في مواجهة شبه دائمة تفاوتت حدتها، مع مفهوم آخر، هو مفهوم «إحياء الأمة»، الذي تبناه الخطاب الإسلامي طوال القرنين الماضيين تقريبا، دون الانتباه إلى حقائق شديدة الأهمية؛ أولها أن تأسيس هذه الأمة المراد إحياؤها جرى في شروط تاريخية وجغرافية مغايرة تماما، وثانيها أن «وثيقة المدينة» التي كانت شهادة ميلاد هذه الأمة قامت على التراضي على الإملاء وليس القسر، وثالثها أن هذه الوثيقة المؤسـسة استندت إلى حقائق موضوعية لا الاكتفاء بقناعة طرف من أطراف التعاقد بأن مصدر المفهوم مقدس!
وفي هذه القناعة ما يستحق المراجعة العميقة!

وبالإضافة إلى حقيقة أن هذه الوثيقة تعاقد مدني طوعي وليس فعلا مقدسا، فإن إغفال حقيقة أن هذا التعاقد لم يجرِ تجديده بأي صيغة منذ سقوط الخلافة العثمانية، والقفز على حقيقة أن الاجتماع السياسي اختلفت أسسه جذريا بعد هذا المنعطف أحد أوجه الخلل الكبيرة في خطاب «إحياء الأمة».



الإحياء والاكتشاف





ومن الأمور اللافتة في واقع ما بعد الثورة، أن مسارا فرعيا جديدا طرأ بين المسارين الكبيرين يسعى أصحابه لطرح رؤية ثالثة للمفهوم يقوم على الاكتشاف لا البناء والإحياء. وأعني بذلك ظاهرة ليبرالية جديدة كشفت عنها السنوات الأخيرة وما زال حجمها أصغر من أن يحول الصراع إلى صراع ثلاثي الأطراف. واللاعب الجديد الذي لم يتبلور خطابه بعد يرفض منطقي «البناء» و«الإحياء» ويدعو إلى نوع من الاكتشاف نذهب فيه إلى التأسيس دون أجوبة جاهزة لا دينية ولا تنويرية، ويلخص هذا الموقف رفضا لفكرة الأمة في مجاليها؛ الأوسع (الإسلامي) والواسع (العربي)، ويرون ضرورة بناء الدولة الأمة انطلاقا من ضدين؛ المصرية وهي دائرة ضيقة قياسا بسابقتيها، والعالم وهو دائرة أوسع منهما!

واكتشاف الأمة يبدو أقرب - نوعا ما - إلى الإجابة الأنجلو - سكسونية على سؤال: ما الأمة؟ ففي هذه الإجابة تتراجع مرتكزات مثل: الدين والعـرق واللغة، لحساب منظومة قيم ذات أفق إنساني تؤسس لتعددية شاملة. وبينما يغترف دعاة الإحياء من نهر التراث الديني الفياض ويغترف دعاة البناء من بحر التراث الفكري الغربي الكلاسيكي (الفرنسي في المقام الأول) يجتهد دعاة الاكتشاف لتحويل القليل من الأدبيات الحديثة لثقافة حقوق الإنسان ومواثيقها ومشاريع العولمة، التي ما زالت هي نفسها في طور التشكل، لبناء إطار فضفاض لا تشكل الدائرتان الإسلامية والعربية إلا تعبيرا عن حنين عام مكانه عالم الوجدان لا عالم السياسة.



غواية التنظير في الفراغ





وإحدى الآفات الكبيرة للسجال (القائم على التنافي) بين المفاهيم المشار إليها للأمة أنها مغرقة في التنظير في الفراغ، فلا مفهوم «الأمة الإسلامية» تسانده الوقائع القانونية والسياسية والثقافية التي تجعله خيارا للمستقبل المنظور، ولا «الأمة العربية» كمفهوم يتجاوز حدود الدولة ويحمل بذور العدوان على سيادتها (بشكل مضمر أو ظاهر) يملك أسباب الحياة. هذا فضلا عن أن النطاق الجغرافي للمفهوم يضم مجموعات سكانية لا تمت إلى العروبة بصلة، سواء أشرنا هنا إلى الأكراد أو الأمازيغ أو البلوش أو الزنوج أو معظم النوبيين، بالإضافة إلى أقليات أخرى أصغر. والنقاش النظري هنا حول دور الأغلبية في حماية الأقلية، وإمكان قيام العلاقة بينهما على التعايش، تكذبه تجارب تاريخية قريبة في هذا البلد أو ذاك.

و«الأمة» في واقع مصر الآن مفهوم حدوده التاريخية أكثر وضوحا بكثير من حدوده الفكرية النظرية، وهذا مما يمكن البناء عليه، إذا شكلت اللحظة الراهنة لحظة التقاط أنفاس بين كل الأطراف. والتنافي الذي يصر البعض على الاحتكام إليه ليس الخيار الوحيد في العلاقة بين مفاهيم الأمة المشار إليها، ومصر المتصالحة مع ذاتها ليست حلما بعيد المنال، شريطة أن تصبح «الدولة - الأمة» دولة مواطنيها، لا دولة هذا التصور المسبق المعلب أيا كان.
وضبط العلاقة المضطربة - نظريا - بين الدولة والمجتمع في مصر، وقد أشرت إليها سلفا، قد تكون بداية بناء الجسور بين المسارات الثلاثة: البناء، الاكتشاف، الإحياء، بحيث يتبلور مشترك عام ليس من الصعب إنجازه، يستهدف في المقام الأول طي صفحة الدولة التي تصنع مجتمعها، لتفتح صفحة الدولة التي تترجم من خلال البنية والسلوك حقيقة ما هو قائم بالفعل في مجتمعها. وعندئذ ستكون «الدولة - الأمة» للمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث ثمرة التفاعل الاجتماعي الحقيقي، لا ثمرة أي نوع فوقي من الهندسة المفروضة من أعلى.
والفرض من أعلى إحدى النتائج التي تترتب حتما على التنظير في الفراغ سواء كانت نقطة انطلاق هذا التنظير دينية أو قومية، أو حتى وطنية.

والذي لا شك فيه عندي أن الحب السوي للأوطان، وكذلك الاقتداء الحقيقي بسنّة الرسول في تأسيس الاجتماع السياسي، والاستيعاب الحقيقي لسنن السابقين (وهو مما دعا إليه القرآن الكريم مرارا) يوجب على الأطراف كافة (أنصار بناء الدولة الأمة وأنصار اكتشاف الدولة وأنصار إحياء الدولة الأمة) أن يدركوا الواقع، كما هو لا كما يتمنى أي منهم، فالتفكير بالتمني فخ للأفراد.. وللأمم كذلك!

font change