الفوضى ولبنان

الفوضى ولبنان

يغرق لبنان في الفوضى والتي ليست بغريبة على تاريخه، وقد عرف مثيلها مؤخرا خلال أعوام حربه الأهلية وذلك على كل الأصعدة سواء كانت اقتصادية أم سياسية أم اجتماعية أم أمنية أم حتى بيئية. فوضى ولكنها تبدو منظمة نوعا ما حتى اللحظة، ومسيطرا عليها من قبل قوى الأمر الواقع أي حزب الله بالدرجة الأولى وحلفاءه. هذا لا يمنع بعضا من اضطرابات ومظاهرات احتجاجية. ولكن لا اكثر.

فإذا ما أخذنا موضوع رفع الدعم عن المحروقات مثالا، فرفع الدعم عن تلك المواد أدّى إلى ارتفاع كبير في أسعار المنتجات التي يدخل فيها عامل أساسي كالخبز، وهذا من دون أن يكون هناك ردة فعل شعبية تتناسب مع هذه القرارات العشوائية التي لا تتبع أي خطة واضحة ترسم مسارا لاستعادة لبنان بعضا من عافيته. هناك من يجبر اللبنانيين على التأقلم مع الفوضى وكل ما ينتج عنها.

من الواضح أن ليس  هناك نية في الإصلاح لدى المسؤولين، لأن  هذا الأمر يتطلب الاعتراف بالواقع الذي وصل إليه البلد، وهذا ما لا يحصل.

فما زال  حاكم مصرف لبنان يقول إن المودع لم يخسر أمواله الموجودة في المصارف مع العلم أن أكثرية المصارف  بحكم المفلسة، يقول أيضا إن الأمور ستتحسن من الآن فصاعدا. حسنا. كيف؟ لا أحد يعلم أو يستطيع أن يقدر في ظل الغموض الذي يلف الأرقام التي ينشرها حاكم المصرف المركزي اللبناني أو جمعية المصارف. ما يعني أن من دون معرفة الأرقام بدقة ومن دون مواجهة الحقيقة والاعتراف بالواقع مهما كان صعبا لا يوجد أمل للخلاص أو وضع البلد على سكة التعافي. لا أعتقد أن أحدا سيعرف حقيقة موازنات المصرف المركزي وحقيقة موازنات الدولة وحجم الهدر الذي ساهم في إيصال الوضع إلى ما هو عليه.

الأمر نفسه ينطبق على الموضوع السياسي، فهناك من يطرح إجراء انتخابات نيابية كحل للمأساة اللبنانية كون تغيير الأكثرية اللبنانية في المجلس سيكون له تأثير على شكل الحكومة وهوية الرئيس الذي سيخلف عون في بعبدا. هذا الطرح لا يأخذ بعين الاعتبار فشل النظام واستحالة أن يكون الحل في لبنان بمجرد تغيير الوجوه في المجلس النيابي أو الحكومة أو رئاسة الجمهورية.

* من ينادي بالانتخابات النيابية  في ظل هذا النظام التوافقي، يكون متعامياً عن الوقائع التي تتحكم في البلد وتجعل منه طليعياً في مصاف الدول الفاشلة، ويكون جلّ ما يريده أن يكسب تمثيل الأكثرية عند طائفته وأن يكون مفوضاً عنها لدى النظام.

هذا الطرح يفترض أن تكون طبيعة السياسة في لبنان يتحكم فيها مبدأ الأكثرية والأقلية ولبنان لا يعتمد إلا بالتسويات بين زعماء الطوائف الذين سيتمثلون حكما في المجلس النيابي. فلنفترض أن حزب ما أصبح يمثل أكثرية طائفته في المجلس بدل آخر فأي مشروع يُطرح يجب أن يتم التوافق عليه من قبل بقية الطوائف وإلا يعتبر غير ميثاقي. وهذا الشيء ينسحب على جميع القرارات في البلد وكل الطوائف تستعمل سلاح الميثاقية في حال لم تكن موافقة عليه. الأمثلة كثيرة طبعا.

عندما تبنى جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية، انتخاب عون، طلب من الحريري السني عدم الوقوف بوجه الإجماع المسيحي. وهكذا صار. إذن من ينادي بالانتخابات النيابية  في ظل هذا النظام- أي النظام التوافقي- يكون متعاميا عن الوقائع التي تتحكم في البلد وتجعل منه طليعيا في مصاف الدول الفاشلة، ويكون جلّ ما يريده أن يكسب تمثيل الأكثرية عند طائفته وأن يكون مفوضا عنها لدى النظام.

هل يستطيع لبنان الاستمرار بنفس روحية النظام الطائفي؟ على ما يبدو ليس هناك من إشارات جدية لدى الأكثرية في التغيير الجذري على كل الأصعدة، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم حتى اجتماعية.

هناك رغبة في تعديل موازين القوى، بين حزب الله الذي يمتلك المال والسلاح وأصبح البوصلة التي تقرر وجهة لبنان السياسية والاقتصادية أيضا، وبين معارضيه الذين يريدون مشاركته في صناعة القرار على أساس التسويات والتفاهمات. لذا يستطيع لبنان الاستمرار على هذا المنوال طبعا مع الثمن الذي سيدفعه ثمنا لاستمرارية هذا النظام، أي هجرة الأدمغة والخبرات وخسارة الموقع الريادي في المنطقة.

* كاتب ومحلل سياسي وباحث أكاديمي لبناني

font change