مخاطر السوشيال ميديا: مراهقون تحوّلوا إلى مجرمين وأطفال نجوا في اللحظات الأخيرة

أُسَر متضررة تروي لـ «المجلة» معاناتها

مخاطر السوشيال ميديا: مراهقون تحوّلوا إلى مجرمين وأطفال نجوا في اللحظات الأخيرة

بيروت: لم تعلم زينة أنّ الهدية التي قدمتها لابنتها ليا في ذكرى ميلادها ستكتب قصة قاسية وأليمة. قصة انطلقت بتاريخ  20 يناير (كانون الثاني) 2020 حين أطفأت الطفلة البريئة شموعها الأربع عشرة. تاريخ لن تنساه زينة وعائلتها كما أفصحت لـ«المجلة». 

من هنا بدأت الحكاية، قالت: «كنا فرحين أن ابنتنا تخطو بداية مشوارها في فترة المراهقة، كانت متفوّقة ومطيعة ومفضلة لدى الأساتذة، وكان الكتاب رفيقها الدائم. قررنا أنا ووالدها أن نهديها هاتفاً خلوياً، خاصة أنّها كانت تستعير هاتفي لمتابعة كل جديد على «يوتيوب»، بعين نهمة لكل اكتشاف علمي». وبغصة تتابع زينة: «لكن منذ لحظة تسلّم ليا الهاتف وإنشائها حسابات على مواقع التواصل، بدأت المأساة».

ماذا حصل مع ليا؟ وكيف بدأت المأساة؟ سنغوص في تفاصيل القضية وشهادات أخرى خاصة بـ«المجلة» داخل التقرير كما سنتناول أهم الدراسات العالمية التي تناولت مخاطر وتأثيرات مواقع التواصل على المراهقين، وآراء أهل الاختصاص حول كيفية حماية المراهق في زمن التكنولوجيا.  

لمحة تاريخية عن انطلاقة وسائل التواصل الاجتماعي 

بدأت ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي في عام 1997، وكان موقع «Six Degrees.com» هو أول هذه المواقع التي أتاحت الفرصة للمستخدمين لإنشاء بروفايلات والتعليق على الأخبار وتبادل الرسائل مع المشاركين الآخرين. على الرغم من أن موقع «Six Degrees.com» هو رائد شبكات التواصل الاجتماعي، فقد فتح موقع «My Space.com» آفاقًا واسعة وحقق نجاحًا هائلاً منذ إنشائه عام 2003. بعد ذلك بدأ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي على التوالي، لكن المعلم البارز كان ظهور فيسبوك الذي مكّن المستخدمين من مشاركة المعلومات فيما بينهم، والسماح للأصدقاء بالوصول إلى ملفاتهم الشخصية. من هنا، أصبح استخدام وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة أمراً يشبه نمط الحياة كالمأكل والمشرب والملبس، بل ذهبت الأمور إلى أبعد من ذلك، ليخلق بعد ذلك تطبيق الصور «إنستغرام»، و«سناب شات»، و«تيك توك» الأبرز والأكثر استخداماً اليوم بين المراهقين خاصة. 

يعرّف بعض العلماء وسائل التواصل الاجتماعي على أنها أماكن افتراضية، يمكن أن يتم فيها الاتصال عبر وسائل الحوار والدردشة والتعليق والتصوير والتفاعل بين المستخدمين، دون حدود أو فواصل. لذلك، توصف الإنترنت بأنها مساحة افتراضية لأنها تعتبر مكانًا متحررًا لا يمتلكه أي طرف. وتُعرف وسائل التواصل الاجتماعي بأنها خدمات تم إنشاؤها وبرمجتها من قبل الشركات الكبرى لجمع أكبر عدد من المستخدمين والأصدقاء الذين يتشاركون الأنشطة والاهتمامات، ويبحثون عن المزيد من الصداقات واهتمامات وأنشطة الأشخاص الآخرين الذين يشاركونهم نفس الاهتمام. 

 

مراهقون ضحايا السوشال ميديا 

نعود إلى قصة «ليا»، التي أنشأت حساباً لها على «تيك توك» عام 2020. ابنة الأربعة عشر عاماً تعرّفت على أصدقاء جدد من خلال التطبيق، الذي عرّضها لمخاطر عدة. 

روت لنا «زينة» كيف بدأت ابنتها  تنعزل تدريجياً  بعد أشهر قليلة من إنشاء الحساب، ووصفت تصرفات  ليا «العدائية» مع أخيها ابن السبع سنوات. كما روت لنا كيف أصبحت الطفلة تردّد عبارات جديدة، مثل: «أكرهكم»، «لا أنتمي إلى هذه العائلة»، «أريد أن أغادر المنزل»، «لا أريد أن أعيش بعد الآن»... كما أصبحت تتغيّب عن المناسبات العائلية رافضة الانخراط خاصة مع من هم أكبر سناً منها. وبطبيعة الحال، فقدت أي اهتمام بمتابعة دراستها، وتراجعت بشكل دعا إدارة مدرستها للتدخل والسؤال: ماذا يحصل للطالبة المتفوقة؟ 

قضت ليا شهوراً منعزلة في غرفتها، حيث ممنوع على أحد الدخول؛ ثم تفاقمت حالتها بشكل مطرد حتى زادت عدائية، وباتت تستخدم كلمات بذيئة،  وتناقش مواضيع  غريبة كالتداول في معنى الحياة «الفارغ» وأهمية الموت، وضرورة «إنهاء الحياة». 

«هنا، كان علينا التحرّك»، قالت والدتها. بدأنا بمراقبة حساباتها، فوجدنا أنّها منخرطة في غروبات غريبة عن مجتمعنا، يتناقشون من خلالها عن ضرورة التخلّص من الحياة، وكيفية اكتشاف السعادة في الموت، وتفاصيل أخرى وصفتها «بالشيطانية». وقالت: «لسنا فخورين أننا تصفحنا هاتفها دون علمها، لكن كان علينا إنقاذها. كانت قد مضت شهور ونحن نراها تتداعى أمام أعيننا». وختمت الأم: «كابوس انتهى، وأنقذنا طفلتنا في اللحظات الأخيرة. اليوم، تخضع ليا لعلاج نفسي مكثف، محاطة باهتمام عائلي... نستعيدها اليوم، بعد أن كدنا نفقدها»؛ قالت زينة. 

قصة أخرى روتها عائلة لـ«المجلة» عن ابنهم المراهق (17 عاماً)، الذي حوّل «الواتس أب» الخاص به إلى مخزن لصور زميلاته في الدراسة بمشاهد خادشة للحياء. وصفت العائلة كيف كان رامي يستدرج بنات جيله لإرسال صورهن، ثم يقوم بتهديدهن وطلب المزيد. يقول الوالد: «تحوّل ابني لمجرم في عمر صغير». ويتابع: «أردت أن أخبر قصته كنوع من التوعية لجميع الأهالي على ضرورة مراقبة حسابات أولادهم. الإنترنت تقتل أطفالنا». وقال: «لا أستطيع أن أصف الخيبة عندما تلقيت اتصالاً من جهات رسمية أنّ ابني يهدّد فتيات». 

* استخدام وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة أصبح ضرورة من ضرورات الحياة كالمأكل والمشرب والملبس

تحدثنا إلى رامي، الذي وصف تجربته «بالمخيفة، لدى اكتشاف أهلي للأمر». وقال: «كنت أريد أن أفرض ذكوريتي ربما. لكني أخطأت وأعترف أنّي تماهيت في استخدام السوشيال ميديا بطريقة خطيرة. لقد آذيت مشاعر كثيرين، وكنت مصدر رعب لزميلاتي. واليوم أعتذر، لم أعِ  حينها خطورة الأمر».

المعالجة النفسية والأستاذة الجامعية المتخصصة في الصحة النفسية للمراهقين، كارول سعادة

دراسات وآراء خبراء عن تأثير مواقع التواصل على المراهقين

من بين الدراسات الوافرة التي تبحث في تداعيات السوشيال ميديا وتأثيراثها على المراهقين، اخترنا الأكثر حداثة، بينها بحث أجرته جامعة كوينزلاند في أستراليا في أغسطس (آب) 2021، الذي يقضي بتحديد الوقت المصروف على الإنترنت، نظراً لتأثير ذلك على الصحة النفسية على المراهقين. وربط الباحثون الآثار الضارة على الصحة العقلية للمراهقين بوقت الشاشة الذي يتجاوز ساعتين في اليوم للفتيات وأربع ساعات في اليوم للفتيان. الدراسة العالمية بحثت في بيانات أكثر من 577 ألف مراهق تتراوح أعمارهم بين 13 و15 عامًا في 42 دولة ذات دخل مرتفع.

وقال البروفسور أسد خان، مسؤول البحث، في كلية الصحة وعلوم إعادة التأهيل بجامعة كوينزلاند: «وجدنا أن هناك بعض الفوائد خلال الساعة الأولى من الاستخدام اليومي للشاشة، ولكن الآثار الضارة لاستخدام الشاشة الترفيهية على الصحة العقلية تبدأ بعد 75 دقيقة للفتيات و105 دقائق عند الأولاد».

في دراسة أخرى، أجريت في أبريل (نيسان) 2021، كشفت بيانات منشورة من قبل مركز بيو للأبحاث في واشنطن، أنّ 84 في المائة من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا نشيطون على «يوتيوب»، و«إنستغرام»، و«فيسبوك»، أو أي موقع وسائط اجتماعية آخر. وكشفت الدراسة أنّه حتى هذه الفئة العمرية تتعرّض لتاثيرات مفرطة لناحية الاكتئاب والسمنة والنظام الغذائي غير الصحي، وانخفاض القدرات البدنية والمعرفية. 

خلال جائحة «كوفيد-19»، وما نتج عنها من حجر منزلي، قدمت وسائل التواصل الاجتماعي منفذاً للناس للتواصل مع العائلة والأصدقاء، كما تقول الطبيبة النفسية باتريس هاريس، دكتوراه في الطب، ورئيسة الجمعية الطبية الأميركية سابقاً.

* «إنستغرام»، و«سناب شات»، و«تيك توك» الأبرز والأكثر استخداماً اليوم بين المراهقين خاصة

«لكن في سن المراهقة، قد يكون من الصعب التراجع وإدراك أن معظم الأشياء التي يتم نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي ليست سوى النقاط البارزة في حياة الآخرين، ولا تشمل كل ما يحدث وراء الكواليس. وهذا يمكن أن يؤثر على شعور المراهقين والشباب  لناحية تحديد الهوية وتقدير الذات والانتماء». وتوضح قائلة: «يمكن بالتأكيد أن يزيد ذلك من القلق ومشاعر عدم الأمان أثناء اكتشافهم من هم». 

وأكدت هاريس أنّه ينقصنا الكثير لمعرفة كيفية تأثير استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على حياة المراهقين والشباب على المدى الطويل، لكن بعض الأبحاث الناشئة تشير إلى أنها تسبب ضررًا لصحتهم العقلية ورفاهيتهم. وتابعت: «يقول خبراء الصحة العقلية إنهم قلقون بشأن الضغوط التي تفرضها وسائل التواصل الاجتماعي على هذه الفئة العمرية».

وفي حديث أجرته «المجلة» مع المعالجة النفسية والأستاذة الجامعية المتخصصة في الصحة النفسية للمراهقين، كارول سعادة، ركزت الأخيرة على ضرورة مراقبة الأهل لأولادهم على مواقع التواصل لحمايتهم من مخاطرها، إذ إنّ التطبيقات مثل «تيك توك»، و«إنستغرام»، و«سناب شات» (الأكثر استخداماً بين المراهقين)، لا تحمي خصوصيتهم، وتجعلهم عرضة للتواصل مع الغير بطريقة مباشرة قد تهدّد صحتهم النفسية، لناحية تعرضهم للتحرّش الجنسي، أو التنمر أو الابتزاز الإلكتروني؛ بالنسبة لتطبيق «تيك توك»، تقول سعادة إنّه تم حظره في كثير من البلدان بسبب التحديات الخطرة التي هددت حياة الأطفال، حيث يُطلب من المراهقين والأطفال، القيام بتضحيات خطيرة، أو تصوير فيديوهات إيحائية.

وترى أنّ الخطورة تكمن في مدى تأثر الطفل أو المراهق بكمية التفاعل على صفحته، بهدف تشكيل نادٍ لمعجبيه مثلاً؛ «ما يعني أنه يبني صورته بشكل خاطئ، وكذلك شخصيته»؛ إذ تصبح صورة الذات والثقة بالنفس مرتبطة بحسب التفاعل الذي يلقاه على هذه التطبيقات. 

وترى سعاده أنّ هذه الصورة وهمية، وليست مبينة على حقيقة، بل على مثاليات، كاتجاه (تريند) منتشر على التطبيقات، كالوزن النحيف بشكل مطرد، والظهور بشكل مغرٍ.. «وهنا تظهر مشاكل وأمراض البوليميا وغيرها من الأمراض المشابهة، كما تظهر عوارض اضطرابات القلق والاكتئاب، وهذه لها آثارها المخيفة على المدى البعيد».

وعن تحديد المراهق لهويته، تعتبر المعالجة النفسية أنّ المراهق قد يعاني بالأساس من عدم القدرة على تحديد هويته الصحيحة، الرافض لصورة الطفل داخله، ويحاول تحديد شخصيته متماهياً بها كي يبني صورته الذاتية، محذرة من مخاطر تكوين الصورة على خلفيات وهمية لا تشبه الصورة على أرض الواقع.  

وتصف مدى خطورة عدم التركيز على «الأنا» وحب الذات، محذرة من عواقب قد تؤدي إلى سلوك انتحاري أو إدمان على المخدرات أو الإنترنت، ثم إلى فوبيا اجتماعية خطيرة ومؤذية. كما ترى أنّه لا عمر صحي لانخراط الطفل في عالم التواصل الاجتماعي، بل من الضروري تجنيب الأطفال الدخول على الإنترنت دون مراقبة دائمة.

أمّا بحال المراهقين، فتشدد سعادة على ضرورة متابعة الأهل لحسابات أولادهم، واكتشاف الجهة التي يتواصلون معها؛ كما تجدر تهيئة الطفل لهذا العالم، وتوعيته حول جسده وتكوين صورته قبل دخوله مرحلة المراهقة. 

وعن حالات الابتزاز التي ارتفع منسوبها في الآونة الأخيرة، توضح سعادة أنّ «الابتزاز سببه اختراق الخصوصية التي لا تحميها التطبيقات، كما تلفت إلى غياب دور الأهل وإهمالهم للمخاطر، التي تعود في كثير من الأحيان لقلة إدراكهم مدى خطورة الأمر؛ إذ إن عالم الإنترنت هو الطريقة الأسهل، بل الوحيدة للوصول إلى الضحية». 

وفي المقابل، ترى سعادة في عالم التواصل إيجابيات عديدة، في حال حضور الأهل ومراقبتهم الدائمة، مع تحديد وقت معيّن للانخراط بهذا النشاط، تجنباً للإدمان؛ «من حسنات التطبيقات، التسلية والضحك، كما هي وسيلة لاكتشاف آخر التطورات في العالم، وتحديث المعلومات، كما تفعيل تحديات مفيدة كالرياضة، وتقديم إرشادات حول الغذاء الصحي، في حال الامثتال بمؤثرين صالحين».

التكنولوجيا سيف ذو حدين، حدّ يطلق المرء نحو القرية الكونية، يوسّع آفاقه ويحدّث معلوماته، في مكتبة متنقلة؛ وحد يرديه ضحية تعقيدات لها آثارها الخطيرة. المراهقة هي أكثر المراحل دقة، حيث التوجيه والإرشاد والمراقبة، دون التوبيخ، هي مفاتيح التوصّل لمجتمع سوي ومتوازن. حتى في أكثر الدول تطوّراً، برزت دراسات تشدّد على ضرورة مراقبة حسابات المراهقين على مواقع التواصل. لا تخجل من مراقبة حساب طفلك، ولا تعتبره تعدياً على خصوصيته، بل إن هذا الفعل حتماً سيكون لحمايته من عالم محفوف بالمخاطر. 

 

font change