مجلات العقود الخوالي.. متاحة للباحثين

مجلات العقود الخوالي.. متاحة للباحثين

لا يعرف قيمة أَرْشيف «صخر» للمجلات العربية إلا مَن صرف الوقت والجهد للبحث عن مقالٍ نُشر في مجلة صدرت في القرن الـ19، أو بداية القرن الـ20 كـ«المقتطف»، و«المشرق»، و«لغة العرب»، مقال طواه النسيان وطوى كاتبه البين، وما هو حجم معاناة التفتيش بين تلال من المجلات في دهاليز مكتبات لم تصدر فهارس كاشفة لمحتوياتها من الدوريات، فيذهب الوقت والباحث أو المهتم لم يصل إلى ضالته. لذا؛ كم كان شاقا عمل المؤرخين والموثقين، قبل وجود علم الأرشفة، ثم كم كان العمل شاقا قبل ظهور نعمة البحث في المواقع الإلكترونية، وسيدها، حتى هذه اللحظة «غوغل». فطوبى للباحثين الذين استهلكت الأوراق الصّفر عيونهم.
اتصل بي الصديق الباحث ناصر الحُّزيمي ينبهني بأن موقعا إلكترونيا تحت عنوان «أّرشيف المجلات الأدبية والثقافية العربية» متاحا على الإنترنت. وجدته حوى على معظم المجلات القديمة، التي أُسدلت عليها ستائر النسيان، شمل الأرشيف مجلات تسعة عشر بلدا: مصر، العراق، لبنان، المغرب، تونس، الكويت، سوريا، قطر، السعودية، الجزائر، اليمن، ليبيا، البحرين، فلسطين، الأُردن، أميركا، إنجلترا، الهند، ألمانيا.

أتذكر قبل أكثر من عشرة أعوام حدثني الأديب الكويتي محمد الشارخ صاحب مؤسسة «صخر» المعروفة، أنه بصدد أرشفة المجلات العربية القديمة، ونشرها في الإنترنت، ففي وقتها استعظمتُ الفكرة، وكأنه يطلب المستحيل؛ لذا كنت أظن أنه يقصد أرشفة عناوين المجلات وفهارسها، لكنه أوضح الفكرة بأنه عازم على تصوير صفحات المجلات، ونشرها مثلما نشرت ورقا، على برنامج «البي دي إف»، وسألني عن عناوين بعضها، وذهب معي إلى مكتبة جامعة لندن (سوس)؛ كي يطلع على ما حفظتها من تلك المجلات. وفي حينها استعار مني مجلة «لغة العرب»، وترددتُ، من دون أن أشعره، بإعارتها؛ وذلك لقلقي عليها فقد توقفت عن الصدور عام 1931. وبالفعل أعرتها له مع شدة تخوفي على ضياعها في البريد أو إيذاء صفحاتها القديمة خلال تصويرها. لكنني بعد الحظوة بالأرشيف، والنظر في الإنجاز الهائل، للمتُ نفسي لوما قاسيا لو لم أعرها له.

يحتوي أرشيف «صخر» على مائة وتسعة وسبعين مجلة، بأحد عشر ألف وتسعمائة وثمانية وثلاثين عددًا، تضمنت مائتين وسبعة وثلاثين ألف وتسعمائة وخمسة وثلاثين مقالة وبحثا، أحيت أسماء خمسة عشر ألف تسعة وسبعين باحثا وكاتبا، وجملة الصفحات عددها: مليون وخمسمائة وثلاثة عشر ألفا وأربعمائة وتسع وسبعين صفحة.

أتذكر كيف أجّلت بحثا يحتاج إلى مجلة صدرت في نهاية القرن التاسع عشر، ولم أحصل عليها لا في مواقع الإنترنت ولا في المكتبات، التي وصلتها يدي، فإذا بي أجدها متاحة أمامي في هذا الأرشيف. فكم يُنظر بتقدير واعتزاز بهذا العمل الثقافي، الذي لا يقل عن تأسيس مكتبة عامة.

لم يكن صاحب «صخر» أغنى أغنياء المنطقة، كي يصرف على مثل هذا المشروع، فكم من الأثرياء، مَن لا تعد ولا تحُصى ثرواتهم، لم يقدموا شيئا ملموسا للفكر والثقافة؛ لأنهم في جانب وهذا المجال في جانب آخر. إلا أن الأديب محمد الشارخ - صدرت له قصص عدة - يعي أهمية مثل هذا الإنجاز، وبطبيعة الحال لا ننكر فضلا لمَن أسس مكتبة أو مركزا بحثيا، أو ساهم في إنجاز مشروع ثقافي خيري، مِن تأسيس جامعة أو معهد، خالٍ مِن مصلحة سياسية أو حزبية.
ليس قيمة هذا المشروع فقط في إخراج هذه المجلات مِن كهوف الخزن إلى عالم الضوء؛ وتحويل صفحاتها إلى صفحات إلكترونية، لا تطولها عوامل التعرية ولا يغيرها تقادم الزّمن، إنما تكمن أهميتها أيضا في فضح ظلامية عصرنا الحالي، فعندما نقرأ ما كُتب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لكُتاب مجلة «المقتطف» مثلا سنجد عصرنا في تدهور.

كذلك يكشف الأرشيف أمرا آخر، ألا وهو ما يتعلق بأسلوب الكُتَّاب وأمانة البحث، والحرص على المظان، فمثلا نقرأ بحثا لا يتعدى ثلاث صفحات للباحث والمحقق العراقي ميخائيل عواد (ت1992) بلغت مظانه نحو صفحتين. يفضح هذا الأرشيف الثري الكثير مِن كُتَّاب اليوم، الذين اتخذوا الكتابة حِرفة بلا تقاليد، خالية من القلق وترقب النَقد، تلك الحرفة التي قال تعظيما لها عمرو بن بحر الجاحظ (ت255هـ): «ينبغي لمَنْ يكتب كتابًا ألا يكتبه إلا على أن الناس كلُّهم له أعداء، وكلُّهم عالم بالأمور، وكلُّهم متفرِّغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غُفْلاً، ولا يرضى بالرأَي الفطير، فإنَّ لابتداء الكتاب فتنة وعُجبا، فإذا سكنت الطبيعة، وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النَّفس وافرة، أعاد النَّظر فيه، فيتوقَّف عند فصوله، توقَّف مَنْ يكون وزن طَمَعُه في السلامة أنقص من وزنه خوفه مِن العيب» (كتاب الحيوان). يغلب على الظّن أن ما مِن باحث ولا كاتب تكرر اسمه في هذه المجلات إلا وقد وطبَّق، بشكل مِن الأشكال، وصية الجاحظ تلك.
أقول: مِن حق مُنجز هذا المشروع الثَّقافي البحت، والسَّهل الاستعمال، علينا تقديم الشُّكر الجزيل، فقد خفف مِن معاناتنا في البحث عن المظان، التي من دونها تصبح الكتابة على طريقة كُتَّاب «لواصق غوغل».
font change