غوطة دمشق شبه خالية من الخدمات... والأهالي: لسنا إرهابيين

معاناة يوميّة للحصول على أبسط مقوّمات الحياة

مناطق شاسعة في الغوطة استحالت ركاماً

غوطة دمشق شبه خالية من الخدمات... والأهالي: لسنا إرهابيين

دمشق: أمام صهريج لتعبئة المازوت تقف السيدة الستينية أم خالد (نادية الرفاعي)، تنتظر انسحاب الناس من حول الصهريج لتكلم الموّزع على انفراد، علّها تحصل على 5 أو 10 لترات بسعر الدولة الرسمي، انتظار وصل إلى ساعة تقريباً دون جدوى فموجودات الصهريج تبخرّت بفعل زحام المواطنين الحاملين لبطاقاتهم الذكية في سبيل الحصول على الـ 50 لترا من مؤونة الشتاء، التي لا تكفي لشهر واحد أمام برد الشتاء السوري القارس في ديسمبر (كانون الأول)، ويناير (كانون الثاني).

وقوف أم خالد يشبه إلى حد كبير وقوفها أمام صهريج المياه المخصص لتعبئة خزانها، ووقوفها على طوابير الخبز، والبلدية.. الوقفة الأخيرة ليست للحصول على خدمة ما بل لتقديم شكوى من شكاوى المواطنين الكثيرة حول تردي الواقع المعيشي في الغوطة الشرقية.

السيدة لا تملّ الانتظار ولا الشكاوى، ولا تترك فرصة إلا وتتحدث بها علّها تجد سبيلاً لما تعانيه من سوء الخدمات ما بعد النزاع المسلح، هي التي عانت أيام الحرب واشتداد المعارك منذ 2012 وحتى 2018، معلنةً أمام الملأ أنه ما أجمل أيام الحرب أمام هذه الأيام التعيسة المذلة، الأيام التي لا شيء فيها سوى انتظار الفَرج من السماء.

تقول أم خالد: بقيت وأولادي طيلة الحرب، كانت الأسعار مرتفعة، وكانت الخدمات معدومة آنذاك، ولكن لم تكن هناك حلول ولم تكن هناك جهات معنية لإجراء الإصلاحات أو تقديم الخدمات، لكن اليوم وبعد الانتهاء من كل ما مضى، «لماذا لا نرى حلولاً، ما ذنبنا نحن الذين صارعنا للبقاء على أرضنا؟».

كلام أم خالد لم يخلُ من صوت مرتفع ونظرة غاضبة، فهي لا تسأم الذهاب إلى البلدية أو الاتصال ببرامج الإذاعات الخدمية لتوصل صوتها إلى المعنيين، حتى وصل بها الحال، لطرح مقترحات ربما لو نفذت، قد تحمل حلاً لها ولغيرها من الناس.

تتابع أم خالد: «والله العظيم ثمّة أفكار كثيرة، أنا أستمع عبر التلفزيون والراديو إلى محللين يتكلمون وهنالك من يقدم مقترحات، وصرت أحفظها وأدونها عندي من أجل تقديمها لأي مسؤول عابر، يريد إطلاق وعوده لنا، فأسرع للكلام وننتهي من هذه المأساة».

تضحك السيدة نادية من قولها، وهي التي عرفت أن الحلول وإن وجدت أو دونت أو انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي فإن سماعها وتنفيذها ليس بالأمر السهل، لا سيما مع عدم النية في التنفيذ، معتبرة أن ما يحدث في الغوطة عقاب جماعي.

هنالك العديد من أبناء الريف الشرقي لدمشق بقوا في الغوطة طوال سنوات الأزمة ومنهم من عاد بعد نهاية الحرب لكن ضمن ظروف سيئة جداً؛ حيث الماء يشترى، والكهرباء تُباع بالكيلو.

محمد البقاعي أحد المزارعين من قرية «حتيتة التركمان» التابعة إدارياً لبلديّة المليحة عاد ليعمل في أرضه المجاورة لطريق مطار دمشق الدولي، بعد نهاية الأحداث ويبين لـ«المجلة» أنّه على الرغم من تحرير كافة المناطق في الغوطة الشرقية، إلا أنه ما زال يُنظَرإليهم كإرهابيين.

يقول محمد: «إن نُظر إلينا كإرهابيين أم لا، غير مهم، فالمفيد اليوم هو تأمين الاحتياجات الأساسية، كالماء والكهرباء والمواصلات والوقود لأنها مأساة حقيقية بالنسبة لنا، فمثلاً تأتي المياه ساعة واحدة.

 

المشروع الحكومي حول المياه

أطلقت الحكومة السورية مشروعًا في الغوطة الشرقية لمواجهة تغيرات المناخ ونقص المياه، بالتعاون مع منظمات تابعة للأمم المتحدة.

وبحسب التقرير الصادر بتاريخ 25 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري والمنشور على موقع رئاسة الحكومة، فإن مشروع مواجهة تغيرات المناخ ونقص المياه الذي أطلقته بالتعاون مع المنظمات يهدف لتعزيز قدرة المؤسسات الحكومية والمجتمعات المحلية والفئات الأكثر ضعفًا، لتقييم الموارد الطبيعية وتخصيصها وإدارتها، بطريقة فعالة ومستدامة.

وزير الإدارة المحلية والبيئة، حسين مخلوف، في كلمة له حول المشروع، اعتبر أن المشروع سيعزز من دور المؤسسات وقدرات المجتمع المحلي وإزالة التلوث عن المياه السطحية والجوفية، لافتًا إلى أن المشروع محطة أولى في المنطقة، وستكون هناك مشروعات مماثلة له في المحافظات الأخرى.

ومن المفترض أن يحدث المشروع تغيرات في حياة نحو 80 ألف شخص، إلى جانب تقديمه «أنشطة أكثر استدامة» في مجال المياه والصرف الصحي والأراضي والثروة الحيوانية.

 

السكان يحاولون التعايش مع واقعهم الأليم

 

من يسبق.. الكهرباء أم المياه؟

أما الكهرباء فهي نوعان داخل الغوطة، الأولى هي المناطق المأهولة بالسكان كمنطقة حمورية وعربين ودوما، نظامها الكهرباء عشوائي (10 ساعات قطع مقابل ساعة وصل)، ويلجأ السكان للاشتراك في مولدات كهرباء تعمل على الديزل لتوفير الكهرباء.

أما النوع الثاني فهو للمناطق الفقيرة والبلدات الصغيرة الأخرى مثل سقبا، قلّما يتوفر عدد كافٍ من المواطنين لتشغيل المولدات في ظل ارتفاع أسعار المازوت بشكل جنوني، وهناك جزء (مرتاح مادياً) على حسب تعبير محمد، لَجأ إلى تركيب الطاقة الشمسية ليعيش مرتاح البال بعيداً عن هاجس الكهرباء، وهذا الحل بعيد كل البعد عن غالبية السوريين سواء كانوا في الغوطة أو غيرها من المناطق.

شكاوى المواطنين تملأ الصندوق وفي كل يوم يتم تفريغه ليتكرر الأمر وهكذا دواليك، شكل يصف حالة انعدام الثقة الموجودة بين المسؤولين والمواطنين، فالأول ليس بيده حيلة لحلّ الأمور المستعصية بحجة العقوبات أحادية الجانب، والثاني، لا يكفّ عن تذمره ويستمر منصتاً إلى الحجج ويكتفي بها.

أقلّ القطاعات تضرراً في الغوطة هي شبكة الهواتف الأرضية، خدمة وحيدة بعيدة عن صندوق الشكاوى، خاصة وأنّ التجهيزات المتضررة تم إصلاحها بسرعة، توازياً مع قيام المواطنين بتسديد الضرائب والرسوم المترتبة عليهم، ما يدلّ على أن المواطنين جاهزون لدفع ما يترتب عليهم مقابل تأمين الخدمات لمناطقهم.

 

يفتقر سكان الغوطة الشرقية إلى أبسط مقومات الحياة

 

قطاعات المواصلات بحاجة إلى المواصلات!

عماد يوسف عامل في مول «التاون سنتر» على أوتوستراد صحنايا في ريف دمشق، يسكن في منزل متواضع مع زوجته وأطفاله في منطقة كفر بطنا، يضطر للانتظار طويلاً ليحصل على مقعد يقلّه إلى عمله.

يقول عماد: المواصلات صفر، ميكروباص واحد متوفر صباحاً، وفي حال حصل تأخير فإنني أضطر للمشي طويلاً حتى الشارع، أو أركب سيارة بالصدفة إن وجد فاعل خير وإن كان موجوداً في الأساس، وإن كنت متعباً فالحل الوحيد هو ركوب سيارة بيك آب سوزوكي بالمفهوم الشعبي للسيارات التي تنقل الأثاث.

خاصية السوزوكي انتشرت مع قلة وجود وسائط النقل العامة وأجرتها تصل بين 1000 و1500 ليرة سورية للراكب الواحد، مع خاصية يتمتع بها صاحب السوزوكي لإمكانيته في تحميل عدد غير محدود من الركاب.

ليس بمقدور عماد استخدام التاكسي وتحديداً أمام العقبات الاقتصادية المستعصية، فالأجرة قد تصل إلى أكثر من 5000 ليرة سورية ما يعادل 300 ألف ليرة سورية ذهاباً وإياباً في الشهر، وأكثر من ضعف راتبه في المول، وهنا الحديث فقط عن المواصلات دون الأمور الحياتية اليومية الأساسية منها والطارئة.

ويتابع عماد أن تلك المعوقات دفعته إلى المبيت في مكان العمل ليعود إلى منزله يومين في الأسبوع، فلا خيار لديه غير ذلك، كونه لا يستطيع دفع هذه الأجور.

ويتمنى في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، أن يجد عملاً قريباً من منزله كي يشعر بالراحة رغم تأكيده أنّ القناعة بالنسبة له شيء أساسي لا يفرط به حتى لو كان لا يؤمن كل حاجياته، «كله مقدر ومكتوب»، على حسب تعبيره.

عبد الرزاق الضميرية مدير المجالس المحلية في محافظة ريف دمشق، صرح فيما يخصّ الغوطة الشرقية، بأن العمل على الخدمات لا يزال مستمراً، إذ لا يمكن نسيان الدمار الذي لحق بالغوطة خلال سنوات الحرب العشر.

 ضميرية تساءل: «هل من الممكن ترميم الغوطة خلال عام واحد وإعادتها لما كانت عليه؟»
استفسار رد عليه بنفسه، بـ«لا»، وأشار إلى أن المؤسسات الخدمية لا تزال بحاجة إلى وقت أطول لإعادة الغوطة لما كانت عليه سابقاً، مع وجود محاولات قدر المستطاع وضمن الإمكانيات.

وعن الخطط المجهّزة للغوطة خلال العام القادم أشار ضميرية إلى أنه سيتم تعبيد الطرق وإنشاء شبكات الصرف الصحي واستكمال مشروع الإنارة الشمسية للطرقات، وبالتالي تحسّن في وضع الغوطة بشكل ملحوظ، مع تشديده على أنها لن تكون بحسب تطلعات السكان.

 

آخر الراحلين.. هي أشياء لا تشترى

المعلمة عناية محمد (اسم وهمي)، كانت تسكن في «سقبا» إحدى بلدات القطاع الأوسط في الغوطة الشرقية قبل أن تحزم أمتعتها وتسافر خارج البلاد، تصف حجم المعاناة التي كانت تواجهها في المنطقة قائلة: «الوضع سيئ جداً جداً جداً».

وتتابع: «موضوع لا يمكن تصوره، فإذا أردنا الحديث عن الماء فهو مرتبط بالكهرباء، والكهرباء لا تأتي إلا ساعة واحدة، وفي هذه الساعة الواحدة يتم قطعها 4 مرات على أقل تقدير، أما بالنسبة للمياه فيوجد بئر في كل حارة لكن ضخ المياه إلى الخزانات يحتاج إلى الكهرباء التي لا نراها إلا ساعة واحدة فقط»، تضحك عناية وتمسح دموعها دون معرفة إن كان من أثر الضحك أم محاولة لإطفاء نار المعاناة.

حلول كثيرة حاول سكان الغوطة استخدامها عوضاً عن المفقودات، بعض السكان اشتروا مولدات كهربائية بعد حصولهم على موافقة من الدولة، ويتم بيع الكهرباء إلى المواطنين بالكيلو، ويصل سعر الكيلو إلى 6000 ليرة سورية.

وطبعا المبلغ ليس بمقدور الناس سداده لا سيما وأن عبء تعبئة المياه أشد، فلا يمكن العيش بلا الأخيرة، خاصة أن مياه الآبار غير صالحة للشرب.

تعاود المعلمة الضحك مجدداً ما بين جملة وأخرى ثم تتنهد وتمسح ما سال على وجهها، ثم تقول: «قد يظن البعض أن الكلام في التعليم وعدم وجود عدد كافٍ من المعلمين أمر بسيط مقارنة مع حجم الضغوط في غياب الخدمات الأساسية، ولن أدخل في تفاصيل المدارس، سأكتفي بالمآسي الأساسية، من الضروري تأمين الأولويات لنركز على ما سيضيع إن بقي الإهمال.. عمرنا ضاع، الحسرة على الأولاد، وليس من المنصف أن أبقي أولادي منشغلين بالأساسيات وبعدها أتابع علناً تراجعهم الدراسي، لذلك قررت السفر، علّي أعود مجدداً، لأن كل ما سبق أشياء لا تشترى».

 

 

 

font change


مقالات ذات صلة