مسافر زاده الخيال

مسافر زاده الخيال

لم يخطئ كثيرا إيريك بلير الشهير بجورج اوريل في تنبؤاته التي أطلقها في كتابه الأشهر «1984» والذي نشره عام 1948 وأطلق لخياله العنان فتنبأ بعبودية الإنسان في الأنظمة الشمولية لدرجة معرفة هذه الأنظمة بما تسول له النفس البشرية حتى من قبل أن تتحول هذه الأمنيات إلى ما يشبه الإرهاصات. وبالقطع فرح الحلف الغربي بهذا الكتاب لأنه فسر على أنه ضد الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة وساعدهم في ذلك موت المؤلف مبكرا بعد صراعه مع مرض السل فبات كتابه هو ورواية دكتور زيفاجو أدوات للغمز واللمز لمحاربة الكتلة الشيوعية وتم إنتاج كثير من الأفلام لتوطيد الصورة النمطية لمدى تحكم الأنظمة الشمولية في عقول مواطنيها لا سيما أن الكتلة الشيوعية أختبأت خلف ستارها الحديدي متجسداً على شكل سور برلين.

وللأسف اقتصرت معلومات رجل الشارع على هذه الإيحاءات التي ساعدت الدول الغربية على التحكم في مواطنيها، ولكن عن بعد، في منظومة ظاهرها الرحمة وباطنها سوء العذاب، وفلسفتها أنت حر في كيفيه دفع ضرائبك سواء بشيك بنكي أو كريدت كارد والكاش مقبول أيضا لكنك حتما لن تفلت من قبضة الدولة، وبناء عليه ستنعم بحرية الصياح ولكن النتيجة واحدة في الغرب أو الشرق. وهي الانصياع التام لما يراه الأخ الكبير(الدولة/ الحزب/ الصفوة).

وهذا هو ما حدث مع تنبؤات جورج أوريل الذي لو كان عاش عصرنا الآن لعرف أن الإنسان تم التحكم فيه  تماماً عن طريق القضاء الافتراضي (الأخ الكبيرالجديد) فأصبحنا جميعا نحمل التسكرين (الآلة التي تخيلها جورج أوريل عام 1948 في جيوبنا وبهذه الآلة أصبحنا بكبسة زر نأكل ونحب وننام ونعمل ونوقع عقودا بل تتم زيجات وطلاقات وليس هذا هو الأخطر بل أصبح الإنسان رقما في منظومة العولمة من شركات ومؤسسات وأجهزة سيادية وجماعات إرهابية وبنوك وقراصنة وبالرغم من ثبوت خطورة هذا بما لا يدع مجالا للشك.

ففي أكثر من مناسبة توقف العالم وتعطلت مصالح الناس وتم بالفعل ابتزاز مؤسسات اقتصادية لصالح عصابات منظمة تحصل على ما تريد بكبسة زر، فما بالنا بقدرة بعض الدول على تخريب حياة الملايين عندما تتوافق مصالحها على ذلك.

فالحروب الافتراضية حررت الإنسان من وخز الضمير، مع أنها تقتل وتدمر أضعاف ما كان يعرفه العالم الواقعي ويبقى كل هذا  شبه مفهوم أو على الأقل شبه مقبول، ولكن ماذا عن التصميم على تحويل الإنسان إلى حيوان استهلاكي باستخدام العالم الافتراضي وشركاتها العملاقة مجهولة الهوية معلومة الهدف الذي يتلخص في كيفية الحصول على آخر فلس في جيب المستهلك بشرط أن يبتسم ابتسامة بلهاء تعرب عن امتنانه على اكتشاف عادات استهلاكية جديدة لبضائع هامشية ناتجة عن اقتصاديات هامشية لا تسمن ولا تغني من جوع.

وأسوأ هذه العادات إدمان وسائل الاتصال الافتراضية من فيسبوك وبقية عائلته غير المقدسة ليخرج علينا متبنيهم مارك زوكربيرغ ببشرى تغيير اسم شركته مع قائمه جديدة لخدمات ستكون بلا شك أسوأ تاثيرا على الإنسان من سابقتها لأنها ستحبك الطوق حول عنقه لصالح المجتمع الاستهلاكي بالرغم من أننا كبشر تميزنا عن الحيوان بعلاقاتنا الاجتماعية الحقيقية وحتمية معيشة الإنسان في مجتمعات  عمرانية تتمتع بالحد الأدني من الحب والتوافق المجتمعي. حتي الأديان عالجت حاجه الإنسان لأخيه الإنسان ونظمت العلاقات الإنسانية، فأبدع الإنسان بالعلوم الإنسانية قبل العلوم التطبيقية فكانت النتيجة التقدم العلمي الباهر عبر القرون الماضية مغلفة بتكنولوجيا جبارة أطلقت الذرة من قمقمها ووصلت بالإنسان إلى المريخ.

ولكن ظل ذلك كله في إطار من القيم والتواصل الاجتماعي الفعلي فحافظ الإنسان على توازنه النفسي وانتعشت مؤسسة الأسرة التي هي أساس المجتمع والوطن واستمر ذلك حتى داهمتنا  وسائل التواصل الافتراضي فأصبحت الماده والسلوك الاستهلاكي هما أساس المجتمع وتضاءلت أفكار كارل ماركس في التفسير المادي للتاريخ ليحل محلها التفسير الافتراضي للتاريخ. وصارت الأسرة افتراضية والحب افتراضي وتربية الأولاد عن طريق السيد المربي الفاضل «غوغل» وعجز بعض رجال الدين عن مقاومة هذا الطارق لأبواب البشرية وحاولت قله منهم التماشي مع هذا العالم الافتراضي بينما خلدت الغالبية منهم للكسل مع التأكيد على أننا في نهاية الزمان ولم يعد يبقى غير ظهور الأعور الدجال. وبين هذا وذاك وقف علماء الاجتماع موقف المتفرج أو المتقيئ للحكمة بأثر رجعي وأصبح الإنسان بالفعل في كبد وتعطلت أوصال الأسرة وذهبت الأخوة الإنسانية مع الريح وأصبح عقل الإنسان مدجنا ومعدا لاستقبال ما يفرضه عليه العالم الافتراضي حتى السفر بين الأماكن أصبح افتراضيا ولو سمع به فرويد لشخص الحالة بهذيان يستوجب الإحالة إلى أقرب مستشفى أمراض عقلية ومع ذاك يتدافع الناس إلى المزيد من الفضاء الافتراضي ليتحقق  قول الشاعر محمود حسن إسماعيل: «مسافر زاده الخيال».

 

 

font change
مقالات ذات صلة