اهتمام مصر بالهيروغليفية... هل يتعارض مع توجهها العربي الإسلامي؟

استنهاض عزيمة المصريين وخدمة الاقتصاد باستعادة تاريخ الفراعنة

- في مشهد تاريخي مهيب انطلق موكب المومياوات الملكية من المتحف المصري في ميدان التحرير، بوسط العاصمة المصرية القاهرة، إلى المتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط جنوب العاصمة. (رويترز)

اهتمام مصر بالهيروغليفية... هل يتعارض مع توجهها العربي الإسلامي؟

القاهرة: تجد مصر حاليًا في تاريخها الفرعوني وسيلة لاستنهاض الشعب وإثارة حماسته نحو المشروعات القومية الكبرى التي تدشنها الدولة حاليا في غالبية المجالات، حتى أصبحت اللغات القديمة حاضرة بقوة في تفاصيل الاحتفالات والإنجازات المحلية.

في معرض الصناعات العسكرية «أيديكس 2021»، الذي اختتم أعماله بالقاهرة أخيرًا، كشفت مصر الستار عن «نوت» أول طائرة مراقبة مصرية بدون طيار، والتي تم تصميمها على أعلى مستوى من التكنولوجيا، وتعني باللغة الهيروغليفية «ملكة السماء» في اعتقاد المصري القديم.

وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أعلنت وزارة قطاع الأعمال العام عن إنشاء شركة للتسويق والبيع لمنتجات الغزل والنسيج، بخبرات من القطاع الخاص، واختارت لها علامة تجارية جديدة باسم «نيت» الذي يحمل صورة مادية تشبه إله النسيج في عرف القدماء المصريين.

قررت وزارة التربية والتعليم بمصر أيضًا تدريس اللغة الهيروغليفية لطلاب المدارس وتكثيف الموضوعات المتعلقة بالحضارة المصرية ورموزها بمناهج الطلاب بدًءا من رياض الأطفال، بينما بدأت بعض المراكز الثقافية في تعليم قواعد اللغة القديمة بشكل أعمق من تراكيب الجملة الاسمية وأشكالها المختلفة ذات الخبر الظرفي والوصفي والاسمي وملحقات الجملة الاسمية والفعلية.

الهيروغليفية لغة صوتية وكتابية لم يتم اكتشافها حتى فك رموز حجر رشيد المصنوع من الديوريت الذي يرجع عمره لعام 196 قبل الميلاد واكتشفه الفرنسي فرنسوا شامبليون القرن قبل الماضي، وتتضمن تلك اللغة 4 ملايين كلمة، ويتحدث المصريون بكلمات كثيرة منها في حياتهم اليومية، دون أن يلاحظوا ذلك.

نظمت مصر حدثين سياحيين كبيرين في فترة قصيرة يعتمدان في المقام الأول على أناشيد ومقاطع من اللغة الفرعونية، أولهما حفل نقل المومياوات الملكية من متحف التحرير بوسط القاهرة إلى متحف الحضارة بمنطقة الفسطاط العاصمة المصرية القديمة التي بناها عمرو بن العاص عقب فتح مصر، وتتضمن جامعه الذي يحمل اسمه حتى اليوم.

قبل أيام، أعادت الدولة الكرة في حفل إعادة افتتاح طريق الكباش، بالأقصر بجنوب البلاد الذي تضمن إعادة تجسيد عيد الأوبت عن قدماء المصريين الذي يتم فيه الاحتفال بذكرى تتويج الملك، بحفل مهيب نقلته 50 فضائية، وتضمن مسيرة لقرابة 400 شخص يغنون الأغاني الفرعونية حاملين 3 مراكب ضخمة للآلهة القديمة وفق معتقدات المصريين «آمون وموت وابنهما خونسو».

الاهتمام المصري بالفرعونية يحمل هدفًا اقتصاديًا بإعادة تسويق السياحة بمصر، وقد نجحت فيه تمامًا بعدما أصبح متحف الفسطاط ملتقى لجميع السائحين والجاليات الأجنبية في مصر خاصة الدبلوماسيين، كما امتلأت فنادق الأقصر عن بكرة ابيها بالزائرين بعد يوم واحد من حفل افتتاح طريق الكباش الذي يضم على جانبيه 1057 تمثالا على شكل أبو الهول بثلاث هيئات، الأولى بجسم أسد ورأس كبش، والثانية في شكل كبش كامل، والثالثة على شكل جسم أسد، ورأس إنسان.

 

حفل افتتاح طريق الكباش في مصر. (غيتي)

 

هدف اقتصادي

يقول الخبير الاقتصادي نادي عزام إن السياحة تعتبر أحد أهم مصادر الدخل القومي لمصر، وتمثل حوالي 12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وحققت مصر في 2019- قبل جائحة كورونا- رقما قياسيا في عائدات السياحة بلغ 13 مليار دولار، حيث زارها أكثر من 13 مليون سائح في ذلك العام.

ويضيف عزام، لـ«المجلة»، أن مصر تعرف جيدًا أن المنافسة السياحية باتت صعبة جدا في ظل توجه دول المنطقة نحو الاهتمام بالقطاع السياحي، ما دفعها للتركيز على الجوانب التي تتميز فيها ولن يستطيع أحد منافستها فيها، وهي السياحة الفرعونية بجانب الأنماط الأخرى من السياحة. 

منذ بدأ الولع الغربي بالآثار المصرية مع قدوم الحملة الفرنسية ونشر مجلدات متعاقبة من كتاب «وصف مصر» الذى خلق اهتمامًا عالميًا بمصر وآثارها القديمة، تشكل السياحة الفرعونية المصدر الأساسي لجذب السائحين من الخارج، فمصر لا تزال في عرف العالم كله بلد الأهرامات الثلاثة وأبو الهول، وتوت عنخ آمون.

 

افتتاح طريق الكباش يعكس اهتمام الدولة المصرية بالحضارة الفرعونية

 

يمثل «توت عنخ آمون» أكبر دليل على الولع الغربي بالفراعنة بعدما قضى رحلة في أميركا وأوروبا دامت 30 شهرًا في عام 2018 واستطاع معرضه بلوس أنجليس الأميركية جذب عدد كبير من الزوار لمشاهدة مقتنيات الملك الفرعوني، أما في فرنسا فاستطاع معرضه جذب 1.4 مليون زائر في 6 أشهر، واستطاع جذب أنظار البريطانيين محققا مئات الآلاف من الزيارات خلال فترة عرضه قبل أن تظهر جائحة كورونا التي عطلت نشاط السياحة عالميًا.

انطلاقًا من تلك الرؤية بدأت مصر التوسع في إنشاء المتاحف من أجل إخراج آلاف القطع المركونة في المخازن وعرضها أمام السائحين، فمجموعة مثل توت عنخ آمون كانت منتشرة في عدد من المتاحف على مستوى الجمهورية، بجانب قطع أخرى كانت موجودة في المخازن قبل أن يتم تجميعها في مكان واحد في المتحف المصري الكبير المجاور للأهرامات والذي سيتم افتتاحه قريبا. كما أن مخازن المتحف المصري في التحرير كانت تمتلئ بمومياوات لا يمكن عرضها لعدم وجود مساحة كافية من العرض المتحفي.

للمرة الأولى، وضعت الحكومة المصرية برنامجًا للإصلاح الهيكلي لتطوير قطاع السياحة اشتمل على الإصلاح المؤسسي، والإصلاح التشريعي، والتنشيط والترويج، والبنية التحتية والاستثمار، ومواكبة الاتجاهات الحديثة، وارتكز على تحقيق تنمية سياحية مستدامة من خلال صياغة وتنفيذ إصلاحات هيكلية تهدف إلى رفع القدرة التنافسية لقطاع السياحة المصري وتتماشى مع الاتجاهات العالمية.

وحققت مصر رابع أعلى نمو في الأداء عالميًا في مؤشر تنافسية السفر والسياحة، وفقا لتقرير منتدى الاقتصاد العالمي للتنافسية في السفر والسياحة لعام 2019، كما تقدمت مصر من المركز 60 إلى المركز 5 في استراتيجية الترويج والتسويق السياحي، كما جاءت مصر بموقع الصدارة على مستوى أفريقيا في تقرير مؤسسة «بلوم للاستشارات» المتخصصة في تحليل وتقييم وتصنيف أداء الترويج السياحي للدول (العلامة التجارية للدول) سبتمبر (أيلول) 2019 حيث احتلت مصر المركز الأول.

وتعد الأقصر وأسوان الوجهة السياحية المفضلة لدى ملايين السياح حول العالم خاصة فرنسا، وإٕيطاليا، والنمسا والهند واليابان وتتميز بأن متوسط أسعار الفنادق الـ4 نجوم نحو 150 دولار في الليلة والـ3 نجوم 90 دولارا في الليلة، حسب مواقع الحجز الإلكتروني، وهو مبلغ كبير أعلى بكثير مما يدفعه السائح بمدن جنوب سيناء فبعض السائحين الروسيين يحجزون برنامجا كاملاً في فنادق 5 نجوم لمدة 4 أيام شاملا وجبتين بنحو 100 دولار فقط.

ويربط طريق الكباش الذي أحيته مصر بين معلمين شديدي الجذب أولهما «الكرنك» وهو مجمع معابد يبلغ عددها 11 معبداً، ويعود تاريخها لأكثر من 4500 عام؛ لتكون أقدم دور عبادة عرفها التاريخ، وكذلك معبد الأقصر الذي يعد من أبرز معابد البر الشرقي، ويقع بالقرب من معبد الكرنك، يعود تاريخ بنائه لعصر الدولة الوسطى، بإيعاز من الملك امنحوتب الثالث.

 

اهتمام كبير

لا يحمل الاهتمام المصري بالفرعونية وتاريخها القديم جورا على بعدها العربي والإسلامي فهويات مصر كلها تداخلت مع الإطار العربي الكبير الذي ليس مجرد بعد توجيهي ولكنه خامة الجسم وكيان الجوهر كله في ذاته، بحسب قول الكاتب جمال حمدان في كتابه شخصية مصر.

لمصر طوال تاريخها أربعة أبعاد تحدد توجهاتها، في مقدمتها الآسيوي والأفريقي على مستوى القارات والنيلي والمتوسطي على المستوى الإقليم، فمصر جزء من جسم أفريقيا وهو يتفق في معظمه مع المجال العربي وليس هناك تناقض بين الوحدة العربية والوحدة الأفريقية فليس المقصود بالوحدة الأفريقية إلا وحدة عمل.

بحسب كتاب «شخصية مصر»، فإن الوحدة العربية بالنسبة لمصر كيان ومصير، وهو اختلاف في النوع لا الدرجة ومن ثم لا تعارض بينهما، أما البعد النيلي فهو أصيل جوهري ازداد عمقًا على مر العصور وهو أساس الوجود المصري كله، أما البعد المتوسطي فهو من أبعاد التوجه المصري وهو حضاري أكثر من كونه طبيعيا واقتصاديا أكثر منه بشريا. وهو تكميلي لا يرقى إلى مستوى البعد الآسيوي أو العربي.

يقول الدكتور يسري عبد الغني، الباحث التاريخي والإسلامي، إن مصر حاليًا لديها توجه لرفع الروح الوطنية لدى المواطنين وإشعارهم بقدرتهم على البناء وتحقيق الإنجازات الضخمة مثلما فعل أجدادهم، وهو هدف قومي بحد ذاته يتم العمل عليه بإعادة التركيز على الماضي القديم والعصر الحديث في الوقت ذاته. 

يؤكد الباحثون أن الأهرامات كانت مشروع مصر القومي عند الفراعنة حتى إن العائلات أرسلت أبناءها للمشاركة في إتمام المشروعات بينما قدم الأغنياء الطعام واللحوم لمساعدة السلطة المركزية في إنجاز مشروعاتها. وفي مقابل ذلك كان يتم إعفاؤهم من دفع الضرائب.

يؤكد عبد الغني، لـ«المجلة»، أن مصر لها العديد من الدوائر التي تكونها أهمها المكون العربي والإسلامي الذي يتكامل مع باقي المكونات، فحتى العاصمة الإدارية الجديدة التي يتم بناؤها حاليا تعتمد على أشكال بناء هجينة بين الفرعونية والإسلامية والنجمة الثمانية التي تعتبر رمزًا للعمارة الإسلامية حاضرة بقوة في جميع المباني الحكومية.

لم يعد من السهل التفريق بين اللغة العامية في مصر والفرعونية بعدما امتزجا معًا على مدار ألف وخمسمائة عام، فكلمة «حاتي» التي تطلق على مطاعم اللحوم، ذات أصل فرعوني من «حات» وتعني اللحم، وحتى الأمثال الشعبية الدارجة في مصر تتضمن مزاوجات بين اللغتين مثل «نزل على الأكل حتتك بتتك» أي إنه هجم على الطعام بنهم فلم يفرق بين اللحم والعظم، و«بتتك» تعني في اللغة القديمة العظام.

يصعب كثيرًا رصد الكلمات الفرعونية التي يستخدمها المصريون حتى في طريقة تعاملهم مع الأطفال الصغار فكثير من الكلمات التي يعبر بها الصغار عن حاجاتهم الأساسية ذات أصل فرعوني، وحتى الفول المدمس، وجبة الإفطار اليومية للملايين مشتقة من الكلمة الفرعونية (متمس)، والبيصارة التي لا تخلو من موائدهم تحمل ذات الأصل اشتقاقاً من «بيصورو» التي تعني الفول المطبوخ،  حتى كلمة «ياما» التي تعني الكثير أصلها «أما» بالمفهوم ذاته قديمًا، و«صهد» التي يستخدمها المزارعون للتعبير عن ارتفاع الحرارة أصلها من الهيروغليفية تعني اللهب.

تؤكد الشواهد أن الاهتمام المصري بالمرحلة الفرعونية يحمل مآرب متعددة بين الاقتصاد وخدمة السياحة وإعادة مشاعر الفخر للمصريين بماضيهم بعدما بات يتسرب داخلهم بعض الإحباط من مقارنة أنفسهم بما فعله أجدادهم.. والوصول إلى حقيقة تريد الدولة غرسها داخلها بأنهم قادرون على البناء مثلما فعل أجدادهم.

 

 

font change

مقالات ذات صلة