سباق غربي لدعم الاقتصاد في أفريقيا

القارة السمراء أرض خصبة للمستثمرين الأجانب

تظهر الصورة التي نشرها المكتب الإعلامي للرئيس التركي إردوغان (وسط) ورئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسكيدي (يسار)، والرئيس الحالي لمفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي محمد (يمين)، خلال مؤتمرٍ صحافي على هامش القمة الثالثة للشراكة التركيةـ الأفريقية في إسطنبول، تركيا، في 18 ديسمبر 2021 (إ.ب.أ- المكتب الإعلامي للرئيس التركي)

سباق غربي لدعم الاقتصاد في أفريقيا

أفريقيا: تحولت الأرض الخصبة في أفريقيا خلال العقد الأخير إلى البقعة الأكثر جاذبية لكبار المستثمرين من جميع أنحاء العالم. وتستعر المنافسة يوما بعد يوم بين لاعبين كبار في المجتمع الدولي وقوى إقليمية في الشرق الأوسط على الفرص الكثيرة التي توفرها السوق الأفريقية الهائلة. ولكنّ الفجوة بين ما يريده المستثمرون وما يريده الشعب الأفريقي تتوسّع مع مرور الوقت. فبينما يعمل جميع المستثمرين الأجانب وبشكلٍ قانوني على تحقيق أعلى نسب الأرباح من استثماراتهم في أفريقيا، يُعنى القليل منهم فقط بتأمين المكاسب للقارّة السمراء.

 

 

 

من يتحكّم باقتصاد أفريقيا؟

تشير البيانات المذكورة في تقرير بعنوان «العلاقات التجارية الراهنة بين أفريقيا وسويسرا- 2021» الذي يستعرض الاستثمارات الأجنبية في أفريقيا خلال العقد الماضي (2010 - 2019) إلى أنّ أبرز خمس دول مستثمرة في القارّة بالترتيب من الأكبر إلى الأصغر هي: الصين والولايات المتّحدة وفرنسا وتركيا والمملكة المتّحدة. ولكنّ الفجوة بين الصين والولايات المتّحدة وسائر الدول الواردة على لائحة أكبر عشرة مستثمرين في القارة كبيرة جدا بفعل توفيرهما لـ11 ألف فرصة عمل. وفي الوقت عينه، تفصل بين الصين كأكبر مستثمر في أفريقيا، والولايات المتّحدة التي حلّت في المرتبة الثانية، فجوة كبيرة أيضا لأن الصين وحدها استطاعت خلق ستّة آلاف وظيفة جديدة. ويعود هذا الأمر على الأرجح لوضع الصين أفريقيا في سلّم أولوياتها الاستثمارية وتركيزها 27 في المائة من مجمل استثماراتها الخارجية في القارّة السمراء خلال العقد الماضي.

ويُظهر التقرير أيضا أنّ الإمارات العربية المتّحدة هي الدولة العربية الوحيدة التي استطاعت حجز مكانة لها على لائحة أكبر 10 دول مستثمرة في أفريقيا على المستوى الإقليمي خلال الفترة نفسها، إذ حلّت الأخيرة في المرتبة التاسعة بسبب خلق ما يقارب 2968 فرصة عمل جديدة، متفوّقة بذلك على مستثمرين غربيين بارزين كسويسرا وإسبانيا وكندا. واعتمدت الاستراتيجية الاستثمارية التي تبنّتها الإمارات في أفريقيا خلال الفترة المذكورة على توسعات سنوية لمشاريعها القائمة، الأمر الذي ساهم في زيادة تدريجية ومستدامة لعدد الوظائف الناشئة في السوق الأفريقية.

ويبدو جليا أنّ الإمارات العربية المتحدة عازمة على الاستمرار في تطوير استثماراتها هناك وخصوصا في دول الشرق والجنوب خلال العقد المقبل. وتشير ورقة بيضاء أعدتها وحدة الاستخبارات الاقتصادية بطلب من غرفة دبي للتجارة إلى أنّ الإمارات نفّذت 88 في المائة (1.2 مليار دولار) من مجمل استثمارات دول الخليج العربي في الصحراء الأفريقية الكبرى في الفترة الواقعة بين يناير (كانون الثاني) 2016 ويوليو (تموز) 2021.

ومن المتوقّع أن ينعكس التقارب الأخير بين الإمارات وتركيا- بعد سنوات من المنافسة المرّة في أفريقيا وأماكن أخرى- على استراتيجياتهما الاستثمارية المستقبلية في القارة السمراء. وإذا حقّق تعاونهما الاقتصادي النجاح المرجو، قد تدرس الدولتان التعاون في إطلاق مشاريع جديدة في أفريقيا، ولا سيّما في الدول التي تملك تركيا فيها نفوذا اقتصاديا وسياسيا واسعاً.

 

الاستخفاف بقوّة تركيا الاقتصادية في أفريقيا

تُعدّ تركيا رابع أكبر مستثمر في أفريقيا بعد الصين والولايات المتّحدة وفرنسا، ولا يفصلها كقوّة استثمارية في الصحراء الأفريقية الكبرى عن فرنسا وألمانيا (أكبر مستثمرين أوروبيين في القارّة) إلّا بضع مئات الوظائف الجديدة التي تم خلقها في السنوات العشر الماضية. وتتمتّع تركيا بنفوذ اقتصادي وسياسي كبير يتفوّق على أي قوة إقليمية أو عالمية أخرى في أفريقيا، وليس فقط لأنّ الرئيس رجب طيّب إردوغان وضع القارّة السمراء في صلب اهتمامات سياسته الخارجية منذ تولّيه مقاليد الحكم عام 2002، بل لأنّ القوّات المسلّحة التركية تبرع في توظيف أدواتها العسكرية والدبلوماسية في حشد موالين في مناطق غير متوقّعة.

عمال من السنغال والصين يشاهدون احتفالا في موقع بناء المسرح الوطني الذي تموله الصين في 14 فبراير 2009 في داكار، خلال زيارة الرئيس الصيني هو جين تاو والرئيس السنغالي عبد الله واد (غيتي)

 

ففي عام 2020. وصل حجم التجارة بين تركيا وأفريقيا إلى 25.3 مليار دولار، مقارنة بـ20 مليار دولار للتجارة بين القارة السمراء والدول الأوروبية مجتمعة. وتستورد أفريقيا من تركيا الأقمشة والأثاث والأجهزة الإلكترونية والحديد والإسمنت. ونفذت تركيا استثمارات مباشرة بقيمة 6.5 مليار دولار في قطاع البناء.

علاوة على ذلك، يتعاظم النفوذ الاقتصادي والسياسي والعسكري الذي تتمتّع به تركيا في القارّة السمراء بسرعة أكبر من نفوذ الدول الأوروبية أو أي طرف أوروبي يملك مصالح في المنطقة، خصوصا أن حجم تجارة أنقرة في معظم دول شمال أفريقيا- ومنها مصر- يتفوّق على حجم تجارة أي شريك أوروربي هناك.

وتحافظ مصر على مكانتها كواحدة من أكبر ثلاث وجهات للصادرات التركية رغم التوتر الذي يخيّم على العلاقات بين قيادتي البلدين منذ 2013. إذ سجّل حجم التجارة بينهما 11.14 مليار دولار في عام 2020 مقارنة بـ4.42 مليار في 2007. أي قبل الربيع العربي وتوتر العلاقات السياسية الثنائية.

تُظهر هذه الصورة التي نشرها مكتب الرئاسة التركي في 18 ديسمبر2020 الرئيس التركي رجب طيب إردوغان (وسط) وهو يلقي خطابا أثناء حضوره الجلسة الافتتاحية الرسمية لقمة الشراكة التركية الأفريقية الثالثة في إسطنبول (تصوير مراد جيتين محردار- وكالة الصحافة التركية الرئاسية- وكالة الصحافة الفرنسية)

 

ولاحظ المجلس الأوروبي خلال السنتين الماضيتين نفوذ تركيا المتنامي في القارّة السمراء لا سيّما في منطقة شمال أفريقيا- جنوبي البحر المتوسّط، ما دفعه إلى وضع ما سماه «استراتيجية أفريقيا- الاتحاد الأوروبي»، و«الأجندة الجديدة لمنطقة المتوسّط»، خلال النصف الأول من 2021. بالإضافة إلى تخصيص ميزانية ضخمة بقيمة سبعة مليارات يورو للاستثمار في دول شمال أفريقيا بين عامي 2021 و2027. ولكنّ المقاربة الأوروربية للاستثمارات في أفريقيا لا تزال تعتمد على نموذج «المتبرّع والمتلقّي» مما دفع الكثير من الدول الأفريقية خصوصا الشمالية منها إلى البحث عن البديل في تركيا.

وضعت تركيا نموذجا ذكيا للشراكة مع الدول في أفريقيا ومناطق أخرى يهدف إلى إنشاء رابطٍ أمني واقتصادي قوي. وفي هذا الإطار، تلعب القوة العسكرية التركية ممثّلة بوزارة الدفاع الوطني وهيئة الصناعات الدفاعية التركية التابعة لرئاسة الجمهورية، دورا أساسيا في اتفاقيات أنقرة الخارجية. ونجح هذا النموذج سابقا في تمكين تركيا من إنشاء علاقات مع دولٍ في آسيا وأوراسيا في أواخر التسعينات، ووظفت تركيا في العقد الفائت نموذج الشراكة الفعّال نفسه للتقرّب من دولٍ أفريقية كثيرة، خصوصا تلك الواقعة في بقع جغرافية ذات أهميّة استراتيجية لتركيا.

 

الاستخفاف بقوّة تركيا العسكرية في أفريقيا

مع تنامي قوّة الصناعة الدفاعية التركية المحليّة واقترابها من الاكتفاء الذاتي بنسبة 80 في المائة بحلول نهاية 2022. تعتزم أنقرة استغلال هذه الفرصة الذهبية لبيع أسلحتها وذخيرتها لأسواق متعطّشة لها في أفريقيا، حتّى إنّها بدأت بتصدير أسلحة من صناعتها إلى المغرب والجزائر وتونس والسودان وإثيوبيا والصومال وكينيا وغيرها من الدول الأفريقية المهتمّة بالطائرات المسيرة (طائرات من دون طيّار) والطوافات التركية بشكلٍ خاص، بالإضافة إلى الأنظمة الحربية الإلكترونية المتقدّمة تقنيا التي تنتجها بكلفة أقلّ من أنظمة مشابهة تبيعها الولايات المتحدة وروسيا والصين.

وفي أعقاب زيارته الأخيرة في أكتوبر (تشرين الأول) إلى أفريقيا، قال إردوغان في حديثٍ صحافي إنّ الجميع في أفريقيا يسأل عن طائرات تركيا المسيرة لأنّ برنامج طائراتها يضعها بين أول أربع دول في العالم في هذا المجال إلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل والصين.

وفي ديسمبر (كانون الأول) 2020، وقّعت تركيا وتونس خمسة عقود تسليح وصلت قيمتها إلى 150 مليون دولار وتضمّنت بيع طائرات مسيرة متطوّرة. وفي يوليو، وقّع المغرب عقد تسليح بقيمة 50 مليون دولار مع شركة «أسيلسان» التركية لشراء نظام الحرب الإلكتروني التركي «كورال- إي دبليو». وفي يناير، استثمرت كينيا 73 مليون دولار لشراء 118 عربة مدرّعة من تركيا. كما التقى وزير الدفاع التركي خلوصي أكار مع عددٍ من القادة الأفريقيين في أكتوبر لبحث صفقات محتملة لبيع طائرات مسيرة. ومن المتوقّع أنّ تعمد أنغولا ونيجيريا إلى توقيع اتفاقات لشراء هذه الطائرات مع أنقرة في 2022، بعد أن وقّعت دول أخرى منها توغو وبوركينا فاسو وليبيريا اتفاقات مع تركيا للتعاون في مجال الأمن ومكافحة الإرهاب.

وتشير تقارير حديثة إلى أنّ تركيا توصّلت إلى اتفاقات مع المغرب وإثيوبيا بداية هذا العام لتجهيزهما بطائرات مسلّحة من دون طيار، وعلى الرغم من أنّ هذه الصفقات لم يعلن عنها رسمياً، فقد ظهرت طائرات الدرون التركية في الحرب الأهلية المستمرّة بين الحكومة الإثيوبية وإقليم تيغراي. كما أوردت صحيفة «نيويورك تايمز» في تقرير نشرته أخيرا تصريحات لدبلوماسيين غربيين أكّدوا أنّ «الإمارات العربية المتحدة وتركيا وإيران قد زودوا خلال الأشهر الأربعة الماضية رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بأحدث أنواع الطائرات الآلية، بينما كانت الولايات المتحدة والحكومات الأفريقية تسعى للتوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار والبدء بمحادثات سلام». ويبدو أنّ طائرات الدرون هذه لعبت دورا مؤثرا في تمكين حكومة آبي أحمد من قلب مسار الحرب لصالحها.

وبالتالي، فإن الوجود العسكري التركي في أفريقيا توسع بشكلٍ كبير خلال السنتين الماضيتين، وتحديدا في 2019. عندما ضمنت أنقرة وجودها العسكري في بقعة حسّاسة في منطقة المتوسّط وشرق أفريقيا من خلال نشر آلاف الجنود والخبراء العسكريين التقنيين والمرتزقة في الحرب الأهلية في ليبيا لدعم حكومة طرابلس. كما تدير تركيا قاعدة عسكرية وكليّة دفاعية في الصومال وفي منطقة بالغة الأهميّة في القرن الأفريقي، ويُشاع أنّها تسعى لبناء قاعدة عسكرية أخرى في جزيرة سواكن في السودان، على البحر الأحمر، بموجب اتفاقية التطوير الثقافي التي وقّعتها مع نظام عمر البشير عام 2017.

 

ما الذي تريده أفريقيا حقاً؟

يمثّل السباق المتسارع للقوى العالمية للاستثمار في أفريقيا سيفا ذا حدّين. فمن جهة، ساهم نموّ الاستثمار الخارجي في أفريقيا إلى تظهير الثروات السكانية والجيو- اقتصادية التي تنعم بها القارة، وفي خلق المزيد من فرص العمل التي ساعدت في تمكين الفقراء من الشباب والنساء. ولكن من جهة أخرى، تصاحب هذه الاستثمارات كلفة باهظة تغذي المشاكل المزمنة في القارة بدل حلّها لأنّها تعزّز الوضع القائم المظلم الذي يخدم مصالح المستثمرين.

وتتضمن هذه المشاكل البنية التحتية المهترئة والمشهد السياسي غير المستقرّ الذي يخلّف أنظمة حوكمة خاطئة وغياب الأمن الناتج عن انتشار الميليشيات القبلية والمنظّمات الإرهابية والصراعات المسلّحة الدائمة والحروب الأهلية. ولسوء الحظ، تدعم الاستثمارات الخارجية البارزة في أفريقيا بمعظمها مناطق الصراعات عبر تزويد الأطراف المتحاربة بالأسلحة المتطوّرة التي تفاقم الصراعات القائمة بدل إنهائها.

وبناء عليه، تحتاج القارّة السمراء وبشكلٍ عاجل، إلى تحديد أولوياتها وإعادة رسم تحالفاتها المستقبلية مع القوى الإقليمية والدولية بما يخدم حاجات وطموحات الشعب الأفريقي وليس تحقيق أهداف المستثمرين الأجانب. ولتحقيق هذه الغاية، يمكن الانطلاق من تطبيق «الخطّة الاستراتيجية متوسطة المدى 2021-2025» التي تم الإعلان عنها في القاهرة في نوفمبر (تشرين الثاني) خلال قمّة دول تجمّع شرق وجنوب أفريقيا (الكوميسا). وتهدف هذه الخطّة إلى تأسيس تكامل قارّي يعزّز فرص التجارة والاستثمارات المتبادلة بين الدول الأفريقية في شمال أفريقيا والصحراء الكبرى، لا سيّما في مجالات الطاقة والاتصالات والنقل وتكنولوجيا المعلومات.

 

 

 

 

 

font change

مقالات ذات صلة