ارتفاعات قياسية في أسعار القهوة عالمياً... ونقص حاد في المخزونات

اليمن يحاول العودة والسعودية تقود خطة لزراعة أشجار البن

المزارع اليمني محسن علي يعلم حفيده كيفية معرفة مدى نضوج حبوب القهوة (صورة من سابكوميد)

ارتفاعات قياسية في أسعار القهوة عالمياً... ونقص حاد في المخزونات

القاهرة: وصلت تداعيات المناخ وأزمة الشحن العالمية إلى محطة ثاني المشروبات استهلاكًا حول العالم، بعدما تجاوزت أسعار البن أعلى مستوى في 11 عامًا، وسط توقعات بنقص المعروض عالميا حتى عام 2023.


وقفزت العقود الآجلة للبن في بورصة إنتركونتيننتال بنيويورك إلى 2.46 دولار للرطل (يعادل 450 غرامًا تقريبا) مسجلة أعلى سعر منذ 2011، حينما تجاوزت 3 دولارات للرطل، بزيادة تناهز 85 في المائة عن العام السابق مع انخفاض المخزون بسبب ارتفاع تكاليف الشحن التي أجبرت الدول على استنزاف مخزوناتها، والطقس السيئ وأزمات الأسمدة التي قلّصت الإنتاج في البرازيل أكبر منتج ومصدِّر في العالم.


 أولي سلوث هانسن، رئيس استراتيجية السلع في ساكسو بنك، يقول إن البرازيل شهدت انخفاضًا في درجات الحرارة هو الأعلى منذ أجيال، ووصل إلى درجة الصقيع، بجانب فترات جفاف تسببت في عدم استقرار كميات محصول 2022 وربما يمتد التأثير للعام المقبل.

يعتبر البن الذي يزرع في جازان من أجود أنواع القهوة عالمياً (واس)


تشبه المبررات لارتفاع الأسعار حاليًا السياقات ذاتها التي حدثت عام 2011 حينما وصلت لمستوى 3 دولارات للرطل عام 2011، وارتبط الأمر حينها أيضًا بمشكلات إنتاجية في البرازيل تتعلق بسوء المناخ مما  أضر بحبوب البن.


ماكسيليان كوبستاك، المدير التنفيذي لمبيعات القهوة الأوروبية في سلسلة ماركس وسبنسر، يقول إن القهوة دخلت في سباق أسعار ضخم مدفوع في الغالب باضطرابات الشحن، فعلى مدى السنوات الثماني الماضية يتركز العرض في اثنين من منتجي القهوة الكبار هما البرازيل وفيتنام والأخيرة المُصدر الأول لبن روبوستا، وحال حدوث مشكلة في أي منهما تصبح السوق مجنونة. 


تتصدر البرازيل إنتاج البن بنسبة 37.4 في المائة من إمداداته عالميًا ما يتجاوز 3 ملايين طن، وتأتي فيتنام ثانية  بنسبة 17.1 في المائة من القهوة بوجه عام، لكنها تمثل في الوقت ذاته 40 في المائة من «الروبوستا» التي تحتوي حبوبا على ضعف كمية الكافايين الموجودة في حبوب آرابيكا ما يمنحها مذاقاً أكثر مرارة.

نقل خاص 
يحتاج شحن البن إلى حاويات 20 قدمًا تتضمن نظاما للتهوية بفتحات جانبية تسمح بتدفق الهواء بشكل دوري، لتوفير درجة حرارة ثابتة وظروف مستقرة، عبر طرد الهواء الساخن وإدخال النقي بدلاً منه مما يمنع تغيرات التكثيف والرطوبة التي قد تتسبب في تلفه أو تغيير نكهته.


عانى الاقتصاد العالمي من نقص الحاويات وارتفاع أسعار الشحن بنسبة تتراوح بين 150 في المائة و500 في المائة، مقارنة بالأسعار السائدة قبل جائحة كورونا والتي عرقلت شحن ملايين الأكياس بجانب النقص الحاد في الأسمدة التي ارتفعت أسعار الأمونيا بنسبة 255 في المائة العام الماضي بسبب توقف الإنتاج في أوقات الإغلاق وارتفاع أسعار الطاقة.


شركة ستون إكس فايننشيال الأميركية تؤكد أن البيانات الفنية للبن عالميا تتوقع حال اختراق الأسعار مستوى 2.25 دولار لبن آرابيكا فقد ترتفع إلى مستوى 3 دولارات ويعقب ذلك بالطبع ارتفاع الأسعار في المقاهي ومحلات البقالة، فعندما يرتفع السعر يتم سحب كل كيس قهوة متوفر في المخازن للبيع لاستغلال الأسعار الممتازة، مما يقلل الكميات الموجودة في المستودعات بوتيرة متسارعة. 


وتعاني كولومبيا ثاني مورد لبن آرابيكا بسبب هطول أمطار غزيرة رفعت مخاطر الإصابة بأمراض النبات وتعفن الجذور، وتستحوذ كولومبيا على إنتاج 8.4 في المائة من الإنتاج العالمي بما يعادل 858 ألف طن، وحال إضافة البرازيل إليها يمثلان معا نحو 75 في المائة من إنتاج «آرابيكا» عالميًا.


ووفقاً لمنظمة القهوة الدولية، التي تأسست في لندن عام 1963، فإن عام 2020 شهد إنتاج 169.6 مليون كيس من القهوة زنة الواحد منها 60 كغم في جميع أنحاء العالم، واستحوذت أكبر 10 دول منتجة للبن على 87 في المائة من الحصة السوقية للسلعة خلال الفترة ذاتها من أصل 70 دولة تنتج القهوة حول العالم.


تمثل إندونيسيا مرتبة متقدمة بنسبة 7 في المائة في إنتاج القهوة لكنها من النوع غير التجاري بسبب أسعارها المرتفعة، أما إثيوبيا فتستحوذ على 4.3 في المائة من الإنتاج العالمي عام 2020 بما يعادل 438 ألف طن، واستفادت من فورة الأسعار لتصدر 248 ألف طن من القهوة بقيمة 907 ملايين دولار خلال العام المالي المنتهي في يونيو (حزيران) 2021. 

ارتفاع كبير 
أزمات البن ليست مؤقتة في ظل التغيرات المناخية التي تهدد كبار المنتجين وفي مقدمتها ارتفاع درجات الحرارة العالمية التي تقلص النوعيات الجيدة، ما يتطلب دخول هندسة وراثية لإنتاج أصناف أكثر تحملاً، خاصة بعد اكتشاف أنواع من البن البري تنمو قبالة سواحل كوت ديفوار وسيراليون، والتي يمكن أن تكون الحل لمشكلات إنتاج البن.


موجة التضخم العالمي في الأسعار ضربت المنطقة العربية خاصة مصر التي تعتمد بقوة على الاستيراد لمحصولي الشاي والقهوة الأكثر استهلاكا بقوة في السوق المحلية، ورفعت  المصانع المحلية الأسعار بمستويات 30 في المائة  حسب النوع.

مصاطب القهوة في منطقة حراز بمحافظة صنعاء. (صورة من ميناء المخا)


«أبو عوف» أحد أكبر العلامات المحلية المصرية افتتحت مصنعا جديدا لإنتاج القهوة بطاقة 20 ألف طن سنويا هو الأكبر على مستوى العالم في أغسطس (آب) الماضي، وتصدر منتجاتها لعدد من الدول الأوروبية مثل إنجلترا وبلجيكا إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية والكويت والإمارات، فضلا عن ليبيا وفلسطين.


ارتفعت أسعار منتجات الشركة التي تمتلك أكثر من 180 فرعا بمصر وأكثر من 1000 مستودع، العبوة زنة 100 غرام الأكثر رواجا في السوق المحلية من مستوى 17 جنيهًا  إلى 23 جنيها في التجزئة خلال فترة زمنية قصيرة، وتكرر الأمر ذاته مع سلسلة عبد المعبود التي تمتلك مئات الفروع محليا سواء لبيع البن أو القهوة التي رفعت السعر من مستوى 17 إلى 22 جنيها للعبوة زنة 100 غرام من البن المحوج. 


يقول محمد علي، صاحب محمصة بن بوسط القاهرة، إن الارتفاعات مستمرة في القهوة من مختلف الأصناف حتى الدرجات الشعبية الأقل وهو ما قابله الزبائن بخفض كميات الاستهلاك.

علي يقول، لـ«المجلة»، إن الخلطات المحلية التي تتم إضافتها للقهوة مثل الحبهان (الهيل) المستكة (المُصطكاء) وجوز الطيب، قفزت هي الأخرى لمستويات قياسية بسبب تكاليف الشحن العالمية المرتفعة، حتى إن سعر الكيلو الواحد من الهيل تجاوز 900 جنيه مصري.

اليمن
حسن فوزي، رئيس شعبة البن بغرفة القاهرة التجارية، يقول إن أسعار بيع البن ارتفعت بنحو 30 في المائة خلال 2021 بسبب ارتفاع أسعاره في البورصات العالمية، متوقعا تحقيق البن المطحون مزيدا من الارتفاعات خلال الربع الأول من 2022 ليسجل 6.3 دولار للكيلوغرام في مارس (آذار) 2022.


وكشف، لـ«المجلة»، عن ارتفاع استهلاك مصر من البن خلال السنوات الأخيرة، فبعدما كان الشاي المشروب الرئيسي تزاحمه القهوة حاليًا سواء التقليدية أو سريعة التحضير حتى باتت مصر تحتل المرتبة الخامسة بين الدول العربية، كأكبر الدول المستهلكة للقهوة، بحجم 38.82 ألف طن خلال العام المالي 2019/2020 مقابل 38.58 ألف طن خلال 2018/2019.


ومن المقرر أن تنعكس مشكلات البن على السوق العالمية لآلات القهوة الأوتوماتيكية بالكامل الذي كان يتوقع ارتفاعه إلى 5.2 مليار دولار بحلول عام 2026 مقابل 4.1 مليار دولار عام 2020، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 3.9 في المائة. 

اليمن يحاول العودة 
تعتبر اليمن أشهر الدول العربية إنتاجا للبن، ومنذ 2009 تراجعت المساحات المزروعة من 33 ألفا و500 هكتار إلى 27 ألف هكتار، بحسب بيانات لوزارة الزراعة والري في الحكومة اليمنية، وهي نسبة ضئيلة مقارنةً بما كان ينتجه اليمنيون قبل نحو 200 عام حينما كان اليمنيون يصدرون البن محمصًا لمنع زراعته في الدول المستوردة له.


ويحيي اليمنيون في 3 مارس «عيد موكا» أو اليوم الوطني لتشجيع زراعة البن، ولا يزال ذلك الاسم دارجًا بجميع المقاهي العالمية ومنسوب إلى ميناء المخا التاريخي الذي كان المسؤول عن تصدير البن اليمني، لكن توجد أنواع أخرى شهيرة كل منها تتم تسميته وفق المنطقة التي تزرعه وفي مقدمتها اليافعي الذي ينمو على الجبال اليمنية. 


وتوجد محاولات يمنية حاليًا لزيادة مساحة البن التي تضررت على مدار عقود بسبب زراعة القات بديلاً منه رغم أن أسعار البن ذات مردود اقتصادي أكبر منه بنحو 5 أضعاف، خاصة أن البن اليمن له سمعة عالمية في الجودة تضعه في المقدمة. 


 يقول الدكتور مجد جرعتلي، الخبير في العلوم الزراعية والتقنية الحيوية، في دراسة له، إن إكثار وزراعة أشجار القهوة العربية تتم بالطرق الشائعة المتبعة منذ أجيال ولا تتعدى الإكثار الجنسي عن طريق زراعة البذور أو بالإكثار الخضري عن طريق زراعة العُقل، والطريقتان لا تتناسبان مع التغير المناخي العالمي وزيادة مقاومة الآفات والحشرات التي تصيب تلك الأشجار، حتى إن دراسات حديثة حذرت من أن شجرة القهوة العربية معُرضة للانقراض خلال 70 عاما جراء ارتفاع درجة الحرارة بسبب التغير المناخي.


وأضافت الدراسة أن هناك العديد من الأصناف النباتية للقهوة العربية انقرضت والبعض منها أوشك على الانقراض ولا يمكنها التكاثر بالشكل الطبيعي مما يتطلب إكثارها نسيجيا للحصول على الأعداد الكبيرة والكافية وإعادة استزراعها من جديد في موطنها الأصلي والاستفادة منها.
ودعت إلى إنتاج الأصناف البرية من أشجار وشجيرات القهوة العربية ذات القيمة الوراثية الغنية، وحفظ جميع أنواع وأصناف القهوة العربية بطرق الحفظ الوراثي الخليوي، وإنتاج الأصناف النباتية النادرة والصعبة التكاثر من أنواع وأصناف «القهوة العربية» عبر الإكثار النسيجي المخبري الذي يعتبر من أفضل الحلول لإكثار الأصناف النباتية النادرة والصعبة التكاثر.


وطالبت بإنتاج أصناف جديدة من القهوة العربية مقاومة لارتفاع درجات الحرارة عبر التقنية الحيوية النباتية في مختبرات زراعة الخلايا والأنسجة النباتية بواسطة إحداث الطفرات الصناعية الموجهة وبرامج الهندسة الوراثية النباتية والتي تهدف إلى إنتاج أصناف جديدة ذات مواصفات خاصة فمنها ما يتحمل ارتفاع درجات الحرارة والظروف البيئية القاهرة ومنها أنواع ذات مناعة ضد الأمراض الفطرية والآفات والحشرات.

المستقبل للسعودية 
السعودية كانت لها رؤية مستقبلية ثاقبة في الاهتمام بمحصول البن، وسجلت قفزة نوعية في زراعة أشجار البُن بزراعة 250 ألف شجرة إضافية منذ 2017، لتبلغ 400 ألف شجرة بنهاية العام الماضي، بحسب وزارة البيئة والمياه والزراعة.


حتى عام 2017، لم يكن عدد أشجار البن في جازان، وعسير، والباحة يتجاوز 150 ألف شجرة، وقفزت إلى ربع مليون شجرة في المناطق الثلاث بين عامي 2018 و2020، وذلك بفضل دعم الحكومة عبر عدة برامج ومبادرات شملت: مبادرة تأهيل المدرجات الزراعية، وتطبيق تقنيات حصاد مياه الأمطار.


تمتلك السعودية نوعا نادرا من البن (الخولاني) الذي يعود تاريخ زراعته لنحو 800 عام وهو من أندر وأغلى أنواع البن في العالم، خاصة منطقة الداير التي تحتوي عشرات الآلاف من الأشجار تسقى عبر الأمطار.

مزارع برازيلي يعرض محصول البن في ولاية ميناس غيرايس (فرانس برس)


ودعمت الحكومة إنتاج البن عبر عدة مشروعات في مقدمتها تأهيل المدرجات الزراعية في 158 موقعاً، وإنشاء مصنع للبن وتحويل 60 مزرعة بن نموذجية مصحوبة بتمكين الكوادر الوطنية المؤهلة، مع دخول البن ضمن مشاريع الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد) كأول مشاريع الصندوق في المملكة.


كما دشنت أيضًا وحدة أبحاث للبن، بمركز الأبحاث الزراعية في جازان، وتعد الأولى من نوعها، ووقعت عقد استثمار أول مدينة للبن بالمملكة لمدة 15 عاماً، مع الجمعية التعاونية الزراعية في بلجرشي التابعة لمنطقة الباحة (جنوب غربي المملكة) لزراعة 300 ألف شتلة بُن عربي.
وأصدر اتحاد الغرف السعودية، أخيرًا، تعميمًا لجميع الجهات المعنية باعتماد اسم «القهوة السعودية» بدلا من «القهوة العربية» في قائمة المنتجات التي تقدّمها لعملائها، والتأكيد عليهم بعدم استخدامها كاسم تجاري أو علامة تجارية.


وأعلنت وزارة الثقافة العام الماضي عن إطلاق مبادرة وتسمية عام 2022 «عام القهوة السعودية» حيث خصصت لها الوزارة منصة إلكترونية، متضمنة وصفًا للمبادرة وأهدافها، وإرشادات لاستخدام الهوية البصرية، فالقهوة ليست مجرد مشروب لكنها تمتلك دلالات عميقة على الكرم والضيافة، والتنوع الثقافي، والخصوصية الفريدة للثقافة السعودية من عملية زراعتها بجنوب المملكة، إلى حصادها، وطريقة إعدادها وتحضيرها التي تختلف من منطقة لأخرى، وصولاً إلى طرق تقديمها المتنوعة.

font change