الأمن الغذائي العربي... الضحية الأولى للحرب الروسية

مخاوف من أزمة قمح وزيوت... والأسعار تشتعل

أزمة قمح تلوح في الأفق.

الأمن الغذائي العربي... الضحية الأولى للحرب الروسية

القاهرة: أصبحت العديد من الدول العربية في قلب الأزمة الأوكرانية الروسية حاليًا رغم آلاف الكيلومترات التي تبعدها عن مسرح المعركة، بسبب ملفي الأمن الغذائي والخدمات والاعتماد على كييف وموسكو بشكل أساسي في سد الاحتياجات الغذائية خاصة القمح والذرة والزيوت، وكذلك توريد حركة السياحة.
في ظل خصوبة نحو 80 في المائة من أوكرانيا، ثاني الدول الأوروبية من حيث المساحة بعد روسيا، أصبحت من كبار الفاعلين الدوليين في ملف تصدير السلع الأساسية ففي 2020 صدرت أوكرانيا نحو 18 مليون طن من القمح من إجمالي 24 مليون طن ما يجعلها خامس مصدر للقمح على مستوى العالم.

أزمة قمح تلوح في الأفق
 


كما تحتل أوكرانيا مكانة عالمية بارزة في البذور الزيتية فهي تمثل نصف صادرات زيت عباد الشمس في العالم، وخلال الربع الأخير من عام 2020 ورغم جائحة كورونا صدرت 148.9 ألف طن من بذور عباد الشمس، حيث تتم معالجة 50 ألف طن من عباد الشمس يومياً.
أوكرانيا أيضًا المصدر الثالث لبذور اللفت التي زاد الطلب العالمي عليها باعتبارها تضم دهونا مشبعة لا تتجاوز 7 في المائة مع أوميجا 3 المقيد صحيًا، كما أنها أحد أكبر منتجي الذرة عالميا إذ شحنت 17.63 مليون طن من الذرة بين بداية السنة التسويقية في أول يوليو (تموز) 2021 وحتى 10 فبراير (شباط) 2022.
على الجهة الأخرى، فإن روسيا تحتل المرتبة الأولى عالميا في تصدير القمح وتمثل وحدها 17 في المائة من إجمالي تجارة القمح عالميا وحال إضافة أوكرانيا إليها فإن نسبتهما معا تشكل 25 في المائة من القمح عالميًا، كما سجلت صادراتها من الذرة عام 2018 نحو 4.792 مليون طن.
بحسب البيانات الرسمية الروسية، فإن الدهون والزيوت أظهرت أعلى معدلات النمو في الصادرات بنسبة 48 في المائة لتصل إلى 7.28 مليار دولار خلال 2021، فيما زادت صادرات الأسماك والمأكولات البحرية بنسبة 37 في المائة مقارنة بالعام 2020 وبلغت 7.289 مليار دولار، واللحوم ومنتجات الألبان في 2021 بنسبة 31 في المائة إلى 1.578 مليار دولار، ومنتجات الصناعات الغذائية والصناعات التحويلية بنسبة 15 في المائة إلى 5.193 مليار دولار.

استيراد ضخم
تعتبر مصر ولبنان وليبيا من أكثر الدول العربية التي تعتمد على القمح من روسيا وأوكرانيا، خاصة مصر التي تستورد 80 في المائة من إجمالي وارداتها من البلدين بينما تستورد لبنان نصف احتياجاتها من القمح من أوكرانيا، بينما تستورد ليبيا نحو مليوني طن من القمح نصفها يأتي من روسيا و43 في المائة من أوكرانيا والباقي من أسواق متعددة، بينما تستورد اليمن 3 ملايين طن من القمح والدقيق بنسبة تصل إلى 95 في المائة من احتياجاتها، بجانب 700 ألف طن من الذرة، وتبلغ حصة أوكرانيا منها نحو 22 في المائة.
وظلت الجزائر حتى نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي تعتمد على القمح الفرنسي بنسبة تصل إلى 56 في المائة من احتياجاتها بحجم توريد يصل إلى 5 ملايين طن، قبل أن تفتح الباب أمام الروس والأوكرانيين بعد تغيير دفتر الشروط الخاص باستيراد الحبوب بالشكل الذي يسمح بالانفتاح على أسواق أوروبا الشرقية، لتصبح نسبة فرنسا حاليا نحو 24 في المائة فقط.
وبالنسبة لدول الخليج فإن لديها تنوعا أكبر في مصادر الاستيراد بحثا عن الجودة أكثر من معادلة السعر، فالإمارات تستورد القمح من روسيا وكندا وأستراليا، والذرة من الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا والبرازيل، بينما تبنت المملكة العربية السعودية مبادرات العام الماضي لتشجيع زراعة القمح محلياً وإطلاق منتج تمويلي خاص بزراعة القمح لتمويل التكاليف التشغيلية لصغار المزارعين، بهدف المساهمة في دعم الأمن الغذائي وتعزيز الإنتاج المحلي.

أزمة قمح تلوح في الأفق

تتمتع السعودية، حاليًا، بأكبر طاقات تخزينية في الشرق الأوسط للقمح والدقيق بما يتجاوز 3.3 مليون طن بطاقة طحن يومية تتجاوز 15 ألف طن، بجانب جني المملكة ثمار استثماراتها الزراعية في الخارج الذي تجسد في يونيو (حزيران) 2021 بوصول أول باخرة قمح من إنتاج استثمارات الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني (سالك) في أستراليا بكمية (60) ألف طن، ضمن الكمية المتعاقد عليها التي يصل إجماليها لـ355 ألف طن.
تملك المملكة خيارات واسعة في مصادر القمح، سواء عبر المناقصات العالمية التي يتم طرحها  والمناقصات الخاصة بالمستثمرين السعوديين بالخارج والمخصص لها 10 في المائة من مشتريات القمح سنويًا، بجانب شراء كميات محلية من المزارعين ضمن ضوابط زراعة الأعلاف الخضراء، التي تحدد مساحة الزراعة وفق حجم كل مستثمر، لتتضمن 50 هكتارا (الهكتار يعادل 10 آلاف متر) فأقل للمزارع الصغير وما بين 50 و100 هكتار للمتوسط، وأزيد من 100 هكتار للشركات والمزارعين الكبار أصحاب المشروعات.
تداعيات الحرب ستكون ثقيلة على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي يوجد بها نحو 69 مليون شخص يعانون من سوء أو نقص في الغذاء، فحتى الدول التي لا تستورد من روسيا وأوكرانيا ستقع تحت رحمة ارتفاع الأسعار التي سجلت أعلى مستوى في تسعة أشهر، فبعد خمس ساعات فقط من بدء الغزو قفزت أسعار العقود الآجلة لقمح «شيكاغو سوفت» في بورصة شيكاغو للتجارة إلى 9.32 دولار للبوشل، بينما ارتفعت العقود الآجلة للقمح الشتوي الأحمر الصلب إلى 9.68 دولار أميركي للبوشل (27.2 كيلوغرام).
المشكلة ليست في القمح فقط، بعدما شهدت أسعار الزيوت اشتعالا عالميا على مستوى الزيوت الرئيسية الثلاثة، فمع المخاوف من انخفاض واردات دوار الشمس، قفز زيت النخيل والأقل جودة، بعد خطة إندونيسيا- أكبر منتج ومصدّر لذلك النوع عالميًا بتخصيص 20 في المائة من مبيعات جميع منتجي النخيل للسوق الداخلية.
وأصبح زيت النخيل الخام، الذي يدخل في غالبية صناعات الأجبان والمعجنات في دول مثل مصر، يباع بنحو 1500 دولار للطن بما في ذلك التكلفة والتأمين والشحن ليصبح أغلى من زيت فول الصويا الخام الذي بلغ 1490 دولارًا ويعاني نقصًا في الإمدادات بسبب نقص الإنتاج بالأرجنتين التي جاءت في المرتبة الأولى في تصدير فول الصويا بنحو 5 ملايين طن العام الحالي بجانب صعوبة عمليات الشحن بسبب تناقص نسبة المياه في النهر الرئيسي للشحن.
 

 تعتبر أوكرانيا من أهم مصدري بذور عباد الشمس
 

ارتفاع الزيوت يمثل أزمة لمصر التي ظلت حتى وقت قريب تستورد 97 في المائة من الزيوت. وذلك بما يعادل 800 ألف طن، قبل أن تستبدل الزيوت المصنعة بالبذور وعصرها في 32 مصنعا محليا. ما خفض الاستيراد إلى 600 ألف طن، واضطرت إلى رفع سعر زيت الطعام المدعم إلى 25 جنيها للزجاجة سعة لتر واحد في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بعد 4 أشهر (يونيو 2021) من رفعها بنسبة 23.5 في المائة إلى 21 جنيها للزجاجة سعة لتر أيضًا، وذلك بعد قفزة عالمية في أسعار المواد الخام.
يقول الدكتور وليد جاب الله الخبير الاقتصادي إن الأزمة الروسية الأوكرانية ستضر جميع دول العالم خاصة المنطقة العربية مع رفعها مستوى التضخم العالمي المرتفع في الأساس بسبب متحور أوميكرون فنقص إمدادات الغاز لأوروبا القارة الصناعية بنسبة 40 في المائة، ما سيترتب عليه المزيد من الارتفاع في أسعار المنتجات والشحن التي سيتحملها المستهلك في المنطقة العربية المعتمدة على الاستيراد.
ويشير جاب الله إلى أن التقديرات العالمية قائلا إنه في حال وصول سعر النفط إلى 110 دولارات للبرميل الواحد، فمن المتوقع أن يتجاوز معدل التضخم 10 في المائة في أميركا وقد يؤدي ذلك إلى الضغط على الاحتياطي الفيدرالي لرفع معدل الفائدة للحد من هذا التضخم، ما يزيد من تكاليف الاقتراض ويجذب في الوقت ذاته قطاعا كبيرا من الأموال الساخنة التي تخرج من المناطق النامية وتشكل ضغطا على احتياطياتها من العملات الأجنبية.
وتتوقع دراسة للخبير الاقتصاد المصري مدحت نافع أن تلجأ الدول الأكثر اعتماداً على المنتجات الزراعية والغذائية من كل من أوكرانيا وروسيا، إلى استراتيجية متعددة الآجال، ففي الأجلين القصير والمتوسط، ستلجأ الدول المُستوردة إلى تكوين احتياطي مناسب من السلع الغذائية لتلافي حدوث صدمات حادة في العرض. ويسمح هذا الاحتياطي بإمهال الدول المُستوردة لتوزيع المخاطر عبر تنويع مصادر الاستيراد.

تعتبر أوكرانيا من أهم مصدري بذور عباد الشمس

ورجحت الدراسة أن تلجأ الدول للتنويع في مصادر الاستيراد والتحوّط ضد تقلبات المناخ والنزاعات وسائر أسباب نقص المعروض عبر شراء عقود الخيارات والعقود المستقبلية للمنتجات الزراعية، كما يتضمن الاتجاه بعيداً عن أوروبا نحو أسواق شرق آسيا وأميركا الجنوبية في الأساس. أما في الأجل الطويل، فيمكن أن تلجأ الدول المُستوردة إلى زيادة حجم الاكتفاء الذاتي من الإنتاج المحلي للمنتجات الغذائية الرئيسية، مع العمل على تعديل أذواق المستهلكين وفقاً لطبيعة وظروف الإنتاج المحلي.

تداعيات السياحة
يعتبر قطاع السياحة أيضًا من أكبر القطاعات المتضررة عربيا من الحرب الروسية الأوكرانية فالبلدان هما المورد الأساسي للسياحة بمصر ورقم فاعل في تونس أيضَا، ومنذ حدوث الأزمة تراجعت نسبة الإشغالات في منتجعي شرم الشيخ والغردقة بجنوب سيناء في مصر، اللتان تعتمدان على السياحة الروسية والأوكرانية لتبلغ حاليا 35 في المائة فقط في المتوسط، بعد عام واحد فقط من الانتعاش الذي شهدته المنطقة.
يقول الدكتور عاطف عبد اللطيف، عضو جمعيتي مستثمري مرسى علم وجنوب سيناء، إن عدد الرحلات السياحية الأوكرانية إلى الخارج بلغت عام 2021 نحو 14.7 مليون رحلة سياحية، وجاءت مصر في المرتبة الثانية في عدد الرحلات القادمة من أوكرانيا خلال العام الماضي بنسبة 21 في المائة، بينما جاءت تركيا في المرتبة الأولى بنحو 28 في المائة، ما يظهر حجم الضرر على المقاصد المصرية خاصة أن شركات التأمين على الطائرات ألغت تعاملها مع رحلات الطيران الأوكرانية منذ اندلاع الأزمة كما امتنعت الطائرات عن دخول المجال الجوي الأوكراني مثل شركة «لوفتهانزا» الألمانية التي قامت بإلغاء رحلاتها إليها.
ويدعو عبد اللطيف إلى ضرورة تنويع الأسواق التي يتم اجتذاب السائحين منها حتى لا نتعرض لمشكلات تتعلق بالأزمات الطارئة، مقترحًا التركيز على أسواق إندونيسيا والهند واليابان وكوريا والسياحة الخليجية والعربية ووضع خطة تسويقية وتصميم شعار مميز لمصر والتركيز على الدعاية بشكل كبير، بجانب إنشاء شركة طيران عارض مصرية قوية، سواء حكومية أو بالشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص، لتكون الذراع القوية لاستجلاب السياح من مختلف بلدان العالم التي نستهدف جذب سياح منها. بحسب نورا علي، رئيسة لجنة السياحة بمجلس النواب، فإن نسبة السياح الأوكرانيين من مجمل سياح البحر الأحمر تصل إلى 30 في المائة.

مكاسب محدودة
توجد مكاسب لقطاع النفط العربي من الأزمة في ظل مشكلة الطاقة التي تعاني منها أوروبا حاليا وارتفاع أسعار النفط لمستوى يفوق الـ100 دولار في أول أيام الحرب، ما يعزز من ميزانيات الدول المصدرة للغاز المسال كقطر ومصر اللتين تلقتا طلبيات بتعزيز صادرات الغاز المسال لأوروبا التي تستهلك قرابة 560 مليار متر مكعب من الغاز، منها 35 في المائة تأتي عبر روسيا.

 ارتفاع اسعار النفط

واستقبلت هولندا أخيرًا شحنة غاز مسال مصرية، هي الأولى منذ عقد. وتعاني هولندا حاليًا من إغلاق جزئي بحقل جرونينجن، أكبر حقل للغاز الطبيعي بأوروبا، والذي اكتشف عام 1959، بعد تعرّضه لسلسلة من الزلازل الناجمة عن عمليات الحفر والتنقيب، وسط مخاوف أوروبية من عدم قدرتها على تأمين احتياجاتها من الغاز عاجلًا، إذ إن الإمدادات الروسية تمر عبر أوكرانيا.
وقال الدكتور طارق الملا، وزير البترول، إن مصانع إسالة الغاز الطبيعي المصرية تعمل بكامل طاقتها حاليا لإمداد أوروبا باحتياجاتها، موضحا أن الصادرات المصرية من الغاز المسال في 2021 إلى 5 ملايين طن، وذلك بفضل إعادة تشغيل محطة دمياط للإسالة وقد عادت بعد اتفاق تسوية بين الأطراف المالكة للمجمع الذي توقف عن التشغيل لنحو 8 سنوات.
لكن مكاسب تصدير الغاز بالنسبة لمصر تضيع مع ارتفاع أسعار النفط كما يقول المحلل المالي نادي عزام الذي يرى أن الموازنة العامة للدولة في مصر أمام مشكلة صعبة في ظل تقديرها أسعاره للعام المالي الحالي بمستوى 61 دولارًا للبرميل، بينما سجلت أسعاره مستوى 104 دولارات منتصف 24 فبراير (شباط)، وكل دولار زيادة في سعر برميل البترول عن السعر المقدر له في الموازنة الجديدة يضيف كلفة إضافية على الحكومة، بقيمة 2.3 مليار جنيه.
ويضيف عزام أن الدول العربية عليها ان تستوعب الدرس جيدا بأن الأمن الغذائي لا يجب أن يعتمد على الاستيراد وعليها البحث عن بدائل تضمن لها استدامة توفير السلع الأساسية والتخلي عن بعض السلع التي تحقق عائدا من التصدير لصالح منتج أهم مثل مصر التي تتربع على عرش تصدير الموالح عالميا عليها التخلي عن مساحات من تلك المساحات لصالح إنتاج القمح والذرة لضمان توفير السلع الأساسية التي يحتاجها عدد سكانها الضخم.

الأمن الغذائي أول ضحايا الحرب

وأشاد عزام بسعي العديد من الدول العربية للاهتمام بالقطاع الزراعي والتغلب على الطبيعة الصحراوية، خاصة المملكة التي بلغ حجم استثماراتها في الخارج أكثر من 10 مليارات ريال (3.75 مليار دولار) خلال الـ10 أعوام الأخيرة بعدة دول، من بينها السودان ومصر وإثيوبيا والمغرب، ما يجعل الأمن الغذائي متوافرا بكل وقت أيا كانت الظروف ودون التركيز على سوق واحدة.
وتشير الدراسات الاقتصادية الأفريقية إلى أن السعودية تستثمر حاليًا نحو مليوني هكتار في عدد من بلدان القارة السمراء التي تمتلك 60 في المائة من الأراضي غير المزروعة في العالم، ويعمل فيها 70 في المائة من الأيدي العاملة، ويمثل أيضًا القطاع الأكثر نموا في التوقعات المستقبلية بنسبة تزيد على 31 في المائة، خاصة في ظل توظيف المملكة أحدث تقنيات الذكاء الصناعي والتكنولوجيا الرقمية والحيوية.

 

font change